روزاليند مايلز تعيد كتابة تاريخ العالم كما ترويه النساء

بيع من كتابها ملايين النسخ وترجم إلى ما يقرب من 30 لغة... ومنها العربية

روزاليند مايلز
روزاليند مايلز
TT

روزاليند مايلز تعيد كتابة تاريخ العالم كما ترويه النساء

روزاليند مايلز
روزاليند مايلز

«من طبخ العشاء الأخير؟» ليس العنوان الأصلي لكتاب روزاليند مايلز الذي صدر لأول مرة في 1988 بعنوان «تاريخ المرأة كما ترويه النساء»، ولسبب ما، اعتقد ناشره عند إعداده طبعة للولايات المتحدة أن الأميركيين قد يجذبهم تساؤل مثير أكثر من العنوان الأصلي الصريح، فكان «من طبخ العشاء الأخير؟»، ورغم أن النص لم يناقش مسألة من طبخ العشاء الأخير للسيد الناصري وحواريه، وفق التراث المسيحي، الذي حضره رجال فحسب، باستثناء تلميح عابر في أول سطرين من الافتتاحية؛ حيث الشكوى، الثيمة التي يتلفع بها النص؛ أن التاريخ وكل شيء آخر في هذا العالم مساحة ذكورية محضة، ولو كان طباخ العشاء رجلاً لخُصص له يوم بين أعياد القديسين، ولأصبح شفيع الطهاة المؤمنين، لكن النسوة اللواتي جهزن ذلك العشاء أُزحن إلى هامش التاريخ، ولم يسمع بهن مطلقاً.
ولكن مهما يكن من أمر العنوان، فالكتاب أصاب نجاحاً شاسعاً، وبيعت منه ملايين النسخ، وترجم إلى ما يقرب من 30 لغة، وألهم أعمالاً عدة وبرامج تلفزيونية، وأصبح في عرف الكلاسيكيات بما خصّ مجال النسويات والقراءات البديلة للتاريخ. ولم يفقد النص اليوم - والذي سيصدر قريباً بترجمة عربية رائقة (د. رشا صادق – دار المدى - بغداد) - شيئاً من ألقه الأول، تلك اللهجة الغاضبة المتحمسة، ومعمار السرد الواثق، والسخرية المريرة إلى حد الابتذال أحياناً من مفارقات تاريخية مفعمة بالألم واليأس.
مايلز كاتبة وإعلامية بريطانية (وُلِدت عام 1943) تحمل عدة شهادات عليا، بما فيها دكتوراه في الأدب الإنجليزي، وتوجت بعدة جوائز أدبية مرموقة على مساهماتها الكثيرة في الدراسات النقدية لأدب شكسبير، والنقد الاجتماعي والدراسات المتعلقة بالمرأة في التاريخ والسياسة والإبداع الأدبي، لكن هذا الكتاب حصراً صنع شهرتها من بين أكثر من 25 كتاباً نشرتها، وصار صنو اسمها، لا يذكر أحدهما دون الآخر.
يجيب «من طبخ العشاء الأخير؟» على التساؤل الذي يخطر في بال كثيرين حول سر انزواء النساء من كتب التاريخ. فالرجال، عند مايلز دائماً، يهيمنون على التاريخ، لأنهم يكتبونه، وهم عمدوا بقصد أو بحكم مرجعياتهم الآيديولوجية إلى تجاهل المساهمة الحيوية للمرأة في تشكيل العالم أو التهوين من شأنها.
وتأخذ المؤلفة على عاتقها تالياً مهمة تصحيح ذلك التقصير المتراكم، وتضع تأريخاً بديلاً للعالم يتحدى المسلمات وشطط البطريركيات، ويحطم مع تقدم سرديته بين الديانات الأمومية الأولى إلى عصرنا الحاضر أصناماً وأوهاماً عزيزة في كل صفحة، ويقلب أفكارنا المسبقة رأساً على عقب لاستعادة المرأة إلى مكانها المستحق في قلب قصة البشر عبر العالم في ثوراتهم وإمبراطورياتهم، وفي حروبهم وسلامهم، مع هامش من حكايات عن نسوة أفراد فرضن في مراحل مختلفة حضوراً بارزاً رغم كل شيء.
تبدأ سردية مايلز لتاريخ العالم بأول النساء ومساهمتهن في بصمة الجينات البشرية الأساسية، والقفزات التطورية العظيمة التي حققنها في بناء الإنسان (العاقل) كما نعرفه اليوم من خلال دورهن الحاسم في استمرارية النوع، والحفاظ على الجماعات البشرية الأولى بجمع الغذاء والمساعدة في الصيد كما إطلاق الزخم لتطوير التكنولوجيات البدائية الأولى؛ العصي للحفر، والحجارة لتقطيع الطعام، واللفافات لحمل الأطفال الرضع، كما اللغة والمعارف الأولى، كالتقويم القمري المرتبط بقياس دورات الحيض.
وبحسب اللقى الأثرية من غير مكان حول العالم، فإنه يبدو محسوماً أن الإلهة الأم كانت من أوائل معبودات البشر، وأن أول كاهن شاعر كان في الواقع أنثى. وتستعرض مايلز بسعادة ظاهرة في الربع الأول من الكتاب تلك الحقبة الذهبية للنساء المقدسات، وربما الطولى بما لا يقاس من تاريخ البشر، عندما لم يخطر ببال أحد وصفهن بأنهن ضعيفات جسدياً، أو غير مستقرات عاطفياً، أو أدنى فكرياً من الرجال.
لكن التأريخ للمرأة هو بالضرورة أيضاً تأريخ للرجال. وتدعي مايلز أن لحظة التحول التي أزاحت النساء من مكانتهن أتت مع اكتشاف البشر أن للرجال دوراً ضرورياً للإخصاب، وأنهم ليسوا مجرد أداة للمتعة ورفاقاً للصيد كما ظل الاعتقاد طويلاً، لتبدأ تالياً رحلة مؤلمة من قصة الاعتداء على أجساد النساء وقمع حياتهن، وكذلك المقاومة الباسلة التي أبدينها في الفترات المتعاقبة لتأكيد حضورهن من المجاهدات العربيات في الجاهلية والإسلام، إلى الطبيبة التي افتتحت أول عيادة لتحديد النسل. مايلز وهي تشيد معمار الرواية التاريخية البديلة تكشف عن الحقائق الهمجية وراء تسميات ملطفة مثل حزام العفة، والعروس الطفلة، والساحرات.
في الربع الثالث من الكتاب، تنقلنا مايلز إلى بدايات الرأسمالية، وكيف انطلقت الثورة الصناعية، تلك العملية الطويلة والمؤلمة التي فصلت عامة النساء في نهاية المطاف عن رجالهن، وحوّلتهن بلا رحمة إلى مخلوقات مدجنات، إما عاملات يقدحن سحابة يومهن بأجر زهيد لا يكاد يسد الرمق، وإما ربات منازل شأنهن الترفيه عن الرجل وإنجاب النسل الكثير له في أجواء اجتماعية وصحية وقانونية كابوسية.
تنهي المؤلفة كتابها باقتباس من نسوية سوداء شابة لم تذكر اسمها، يشير، في جملة واحدة، إلى التحدي الذي واجهته الناشطات النسويات الأميركيات من أصل أفريقي في مرحلة الستينات عندما أجبرن على الاختيار بين حركة الحقوق المدنية والموجة الثانية من الحركة النسائية.
هذا التناقض بين الطروحات النضالية ينعكس بشكل ما على الربع الأخير من الكتاب الذي يأتي أقل متانة واقتداراً نظرياً، وأفردت مساحة واسعة منه لمناقشة تأثير الاستعمار الإمبريالي الأوروبي على النساء الأوروبيات، وتحديداً الإنجليزيات اللواتي انتهين بطريقة أو أخرى إلى العوالم الجديدة والأملاك البريطانية في جنوب شرقي آسيا وأستراليا وأميركا الشمالية، مع شبه إهمال لعذابات نساء السكان الأصليين. وعلى الرغم من ذلك، فإن الفصول الأخيرة تلقي بالضوء على تشظي النظرية النسوية وراديكاليتها المفرطة في جوانب دون أخرى.
هناك في الغرب مثلاً اتجاه تعظيم للثقافة بوصفها السر في إعادة إنتاج البطريركيات، وأن تغيير المواقف الثقافية تجاه الجندر (أو النوع الجنسي) هو الطريق نحو ترجيح الكفة وتحقيق المساواة.
لكن هذا الاتجاه يعزل الثقافة عن حاضنتها، أي المنظومة الرأسمالية – وفي أيامنا بصيغتها المتأخرة الأكثر توحشاً - ويُسقط من حسابه تعدد الحلقات التي تتراكب لمنع الاقتراب من علاقة تعادلية إيجابية بين الجنسين، الأمر الذي يشرذم نضال الفئات المقهورة، وكثيراً ما يدخلها في معارك جانبية بعيداً عن مواجهة العقدة الأساس.
قد لا تكون مايلز مؤرخة محترفة، وفق المفهوم الأكاديمي البحت، ولا شك أن كتابها يعاني من ملمح استشراقي وأورومركزية لا يمكن تجاهلهما، أقله للقارئ العربي، وربما يكون منقطعاً على التطورات الكثيرة في النظريات النسوية والثقافية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وسيجد كثيرون قراءته قراءة مؤلمة أو مزعجة أو كليهما معاً، ومع ذلك فإن نص «من طبخ العشاء الأخير؟» يظل ممراً لا بد منه للرجال كما للنساء إن هم أرادوا كسر بعضٍ من هيمنة القوالب الفكرية الجامدة، والكليشيهات العقيمة التي تفرضها على أذهان الأغلبية هياكل التنشئة والتعليم والإعلام والتلقين - ولا سيما مجتمعات الشرق الشديدة المحافظة - حول مسألة الأدوار الجندرية، والسياقات التاريخية - سياسياً واقتصادياً وثقافياً - التي أنتجتها.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».