يوميات مغربي في بكين

محمود عبد الغني يروي حكاياته «للذواقة فقط»

يوميات مغربي في بكين
TT

يوميات مغربي في بكين

يوميات مغربي في بكين

في خاتمة «الأبدية في بكين»؛ الكتاب الذي توج رحلة إلى الصين في مهمة علمية للتدريس في جامعة بكين للغات، بتكليف من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، يستعيد الكاتب المغربي محمود عبد الغني العلاقة القديمة للمغاربة مع الصين، ممثلة في الرحالة الشهير ابن بطوطة، مستشهداً بقول لهذا الأخير جاء فيه: «وأهل الصين أعظم الأمم إحكاماً للصناعات، وأشدّهم إتقاناً لها»، ليكتب تحت عنوان: «أين صورتي؟»: «من أهم الصناعات التي اعتادوا عليها الصينيون، كما ذكر ابن بطوطة في رحلته، فن تصوير كل من يمر ببلدهم من الغرباء. ففي القرن الرابع عشر كان الصينيون يرتابون من الغريب، ويحتاطون من أن يرتكب فعلاً يوجب فراره عنهم فيقومون بتصويره. فكانوا يصورونه ويبعثون صورته في كل البلاد».
وزع عبد الغني محتويات كتابه، الصادر، أخيراً، عن «دار نثر» في سلطنة عمان، على 67 عنواناً، مؤرخة بين 15 مايو (أيار) و30 يونيو (حزيران) 2018. من بين هذه العناوين، نكون، مثلاً، مع «الدولة في كل مكان» و«لغات العالم في الصين» و«طارق بن زياد وموسى بن نصير» و«رائحة المال الكريهة» و«مهرجان المظلات» و«كارل ماركس... يوغا» و«بط بكين» و«فن تحويل الناس إلى جمهور» و«الصينية الموشومة» و«عشاء ياباني» و«صوت خشب صيني» و«سمكة سوداء وتفاحة حمراء» و«أين اختفى شكسبير؟» و«رأيت الملك لير» و«نفس الشيء وليس الشيء نفسه».
ينطلق عبد الغني، في كتابه الذي جاء في «يوميات»، من «مبتدأ: الكاتبة في الظلام»، مستعيداً مسار السفر الذي قاده إلى الصين، قادماً من الدار البيضاء. مع البداية؛ يتأكد قارئ «الأبدية في بكين» من ذلك القول الذي يتحدث عن السفر الذي «يتركك صامتاً، عاجزاً عن الكلام. ثم يحولك إلى قصاص».
يقول عبد الغني: «مباشرة بعد صعودي إلى الطائرة من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء أحسست بأنه سيكون لديّ الكثير لأقوله وأحكيه بعد عودتي من الصين. ستكون على فمي حكايات للذواقة فقط. كنت دوماً أتجنب السفر إلا إذا عجزت في مقاومته. إن للزواج وإنجاب الأطفال دوراً في ذلك. أعرف أنه كان ينبغي أن أسافر إلى أبعد الأماكن في العالم قبل هذا السنّ. وإن تأخير القيام بالأسفار والرحلات يولدّ كل أنواع الخوف، بحيث تصبح عاجزاً عن مغادرة هذا المربع إلى المربع الذي جنبه».
ولا يكتمل السفر إلى الصين من دون زيارة «السور العظيم»، فيكتب عبد الغني، تحت عنوان: «مو يان وسور الصين العظيم»: «حين اقتربت من سور الصين العظيم شعرت بدماء جديدة تجري في عروقي. الناس ينظرون إلى أحجار رصفت بسواعد ظل التاريخ العالمي يذكرها. آلات التصوير تعمل بسرعة. أصبحنا جميعاً داخل بوتقة ساحرة. السور يتكلمّ، فهل الناس يفهمونه؟ هل كلامه موحّد لكل الزوار؟ بقيت فكرة أن سور الصين العظيم يكلمني تجول في رأسي، كنت أحاول الرد عليه، أو محاورته، لكني عجزت».
يوظف عبد الغني خلفيته الشعرية والسردية، بصفته شاعراً وروائياً، ليكتب بلغة عذبة تحبب إلى القارئ يوميات «الأبدية في بكين»، ومن ذلك، تحت عنوان «المقهى الجامعي»: «الطاولة تشبه البيضة، والمقعد يشبه السلحفاة. موسيقى أميركية خافتة فيها عزف على البيانو وكلمات بطيئة مترنمّة كأن مَن تُغني تغني لنفسها. في الخارج ريح خفيفة تحرك الأشجار فيصدر عن أوراقها صوت مثل الأجراس»؛ أو تحت عنوان: «كارل ماركس... يوغا»: «أمام كلية اللغة العربية والدراسات الإسلامية اصطفّ عدد من الناس، لا يتجاوز عددهم عشرة، لممارسة رياضة اليوغا. الحركات بطيئة وهادئة. العيون ثابتة، والذهن مستقر، والجسد والروح معاً خاضعان لهذا الإيقاع. إنهم فوق، هناك، أبعد من الشجرة، أبعد حتى من السماء. وراء عالم الأحياء، وراء عالم الأموات، وبعد حين سيعودون إلى مملكتنا المليئة بالغبار والزمن».
يربط عبد الغني، في أكثر من نص، بين طبيعة الإبداع والكتابة عن السفر، وثقافة وفن عيش الصينيين، مع مقاربتها بشعوب أخرى. يقول تحت عنوان: «إذا تحطم قلبك»: «إذا كنت غريباً في أرض غريبة ولا تنام جيداً؛ فإن قلبك سيتحطم. لكنك بدون شك ستجد روحاً ترعى المحتضرين. شعرت بآلام في عضلات الظهر، وأحسست بحاجة قصوى إلى التدليك».
في «مسمار لوحة على الجدار»، يؤكد عبد الغني مضمون ذلك المثل الإنجليزي الذي يقول إن المسافر يحتاج إلى أن تكون له عينا صقر ليرى كل شيء، فيما يحتاج القص، للكتابة عن السفر، إلى مسافر جيد. يقول: «لأول مرة، بعد استيقاظي، أرى مسماراً على الحائط المقابل للسرير. هنا كانت لوحة معلقة. بقيت مستلقياً وأنا أفكر وأتساءل: أي لوحة كانت هنا؟ لوحة أشجار صينية، أم حقل أخضر شاسع؟ كم مقاسها؟ لوحة لأي منظر؟ أي لوحة كانت هنا يا إلهي وأُزيلت؟ من رسمها وبأي سِعر باعها؟ كل شيء داخل الغرفة في مكانه؛ المرآة والثلاجة والموائد، آلة تنشيف الشعر... كل شيء؛ إلا اللوحة غادرت جدارها إلى جدار آخر».
ويقارن عبد الغني أوضاع المغرب بالصين، على مختلف الأصعدة. ومن ذلك، تحت عنوان: «كأن لغتي الأم يتبوّل عليها كلب»: «من بين احترام الصيني لمشاعر حضارته، حديثه بلغته الأم. ولا يتحدث بالإنجليزية، أو غيرها، إلا مع الأجنبي. لا أذكر من قال لي ذات مرة: (إذا تكلمت بلغة غير لغتي أشعر كأن لغتي الأم يتبوّل عليها كلب».
في «نفس الشيء وليس الشيء نفسه»، الذي يشير إلى موعد نهاية الرحلة، يتحدث عبد الغني عن اختيار الكتابة عن سفره إلى الصين. يقول: «لقد اقترب موعد عودتي. أسمع رنين ساعة يدي. في هذه الساعة ما زالت أسرتي غافية، وأضواء مدن بلدي مضاءة. النوم دعا الجميع إلى الأسرة الصامتة. هنا كل شيء يدعو إلى تأليف حكاية. حكاية تتحوّل في كل وقت. لكنها لن تبدو حكاية تحوّل. أما من سيحكيها عن أشخاص صينيين أحببتهم، ووجدت من الأفضل ألا أقول لهم ذلك. لقد أحببتهم فعلاً، واستمتعت بحكاياتهم التي حملتها الريح من القرون البعيدة. إنهم يحيطون بي. هل حكيت شيئاً أم لم أحكِ؟ الأمر يعني نفس الشيء، لكنه ليس الشيء نفسه».


مقالات ذات صلة

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق على مدى عشرة أيام تزين فعاليات معرض الكتاب العاصمة السعودية (هيئة الأدب)

علوان: معرض الرياض للكتاب أيقونة ثقافية وأكبر المعارض العربية في مبيعات الكتب

بات معرض الرياض الدولي للكتاب عنواناً للريادة الثقافية للسعودية منذ انطلاقه قبل خمسة عقود وتحقيقه سنوياً لأعلى عوائد مبيعات الكتب بين المعارض العربية.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق ترتبط نورة بعالم لغة الإشارة بشكل شخصي بسبب قصة شقيقتها الكبرى (تصوير: أمنية البوحسون) play-circle 02:39

مترجمة سعودية تفتح نوافذ المعرفة لجمهور الصمّ بـ«معرض الرياض للكتاب»

تقوم مترجمة لغة إشارة سعودية بنقل ما يرِد فيها على لسان متخصصين كبار تباينت مشاربهم وخلفياتهم الثقافية إلى جمهور من الصمّ يتطلع لزيادة معارفه وإثراء مداركه.

عمر البدوي (الرياض)

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة، إلا أن دائرتها السردية لا تكتمل سوى بتوالي الأحداث التي تتشارك فضاء الحدث.

تلعب قصص المجموعة، الصادرة عن دار «حياة»، على رمزية الريح التي تمنحها الكاتبة سلطة غاشمة وسحرية، وفي المقابل يبدو البشر محض هشيم في قبضتها، فتكون «ليلة الريح الأولى» هي الحدث المركزي الذي تظل تبعاته الكابوسية تلاحق أهالي القرية وتجلب معها الأهوال. وأولها أنهم لم يعودوا يتذكرون شيئاً مما جرى ليلتها، في تلميح مبكر لما يحمله تشوّش الذاكرة من لعنة، ثم سرعان ما تستحوذ «الرائحة» بطاقتها الحسيّة على زمام الأمور، فتزيد من غبش الرؤية، بعدما تسود رائحة «طاغية لا مثيل لها» فضاء القرية في أعقاب تلك الليلة، بما لها من خواص غرائبية، فلا تشمها النساء، فيما تُزكم أنوف الرجال، فيكون ظهورها واختفاؤها بعد ذلك دليلاً على ما غيّرته الريح في أجوائها، والسطور التي خطّتها ومحتها، ولا تختفي تلك الرائحة سوى بمولد طفلين بعد 9 أشهر من تلك الليلة، ليكونا طفلي الريح، وحاملي سرّ الأم التي اختفت في سنوات طفولتهما الأولى، وتبدو فصاحتهما المُبكرة وظروف نشأتهما الغريبة كفيلة بأن تجعل أهل القرية يصفونهما بـ«المبروكين»، فيقطعان على مدار المتتالية القصصية دروباً تأملية في اقتفاء الحكمة، وتلمّس النبوءة، وأسرار الكلمات، كما يصبحان قبلة لأهل القرية من «السائلين»، الذين تُخرجهم الريح من رقودهم، لتوقظ داخلهم الألم، والشعور العارِم بالذنب.

قلوب مثقوبة

تتفرع الحكايات عبر 3 فصول رئيسية هي: «الرجل الذي تكلّم ثم صمت» و«الرجل الذي سيُحب التجوال»، و«الفتاة التي لم يعرف أحدٌ اسمها». تواصل الحكايات تقاطعها على مدار المتتالية القصصية مع ثيمات العمل الرئيسية وأبرزها الفقد والانتظار، فـ«الرجل الذي تكلّم ثم صمت» يظّل مع تقدمه في العمر يتوّسل «طيف» أمه التي غابت في طفولته، وتظل حيثيات غيابها مُغبشة ومثيرة لتوالد الحكايات، بما يزيد من عزلته واغترابه، وتظل «الريح» على مدار المُتتالية هي صاحبة السطوة السردية، فالسرد يبدأ بها، ثم تباغت أهل القرية مرة أخرى مع نهاياته، لتترك الحياة بينهما وبعدهما غارقة في الهشاشة، فهي لم تترك البشر عُراة من أسمالهم فحسب، بل كشفت عن ندوبهم الغائرة، لا سيما تلك التي تسكن الأمهات، ويبدو ثمة آصرة بين الرجلين أبناء الريح وبين أمهات القرية المكلومات، الباحثات عن رتق لـ«قلوبهن المثقوبة» بفقد أبنائهن، فتبدو لعنة أمهم الغائبة، أو الأم «الأولى»، وكأنها تُلاحق أمهات القرية من بعدها، متوسلات أن يرشدهم أحد لأبنائهن ويمتص ملوحة قلوبهن. ويصف «الرجل الذي سيُحب التجوال» جرح الأمومة باعتباره الألم الوحيد المستعصي: «أُعد وصفات لأهالي القرية طوال 13 عاماً، وصفات حلّت أحوالهم المعقدة، أعد قلباً صلصالياً، ومسحوقاً للنسيان، ودواءً للحقيقة، أعد أدوية لكل من طلب، لكنه الآن يعجز أمام الأمهات اللاتي أردن استرداد أبنائهن ذوي العيون الرمادية، السوداء، البنية، الزرقاء، الخضراء الصغيرة»، وهي الفكرة التي تتردد على مدار المتتالية، بتراوحات فنية تفيض من رحم الأمومة، وتعود أدراجها له من جديد في قصة أم أخرى.

تشتق المُتتالية القصصية من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات وقوة تأثيرها

اختلاط الزمن

تشتق المُتتالية القصصية، التي حازت جائزة الشارقة للإبداع العربي، من جماليات اللغة مكونات لبناء مُتخيلها الحكائي الذي ينهل من الحكايات، وقوة تأثيرها، واللعب بالكلمات، فنرى رجلاً أصابته لعنة اللغة، ولكنه للمفارقة كلما كان «يفقد حرفاً زادت كلماته وزادت فصاحته»، كما تشتق من مفردات البيئة البدائية دلالات بلاغية، فنجد الكلمات تندفع كـ«العواصف الرملية»، وهو ما يمكن فهمه ضمن اجتراح العمل لإيقاعه وقوانينه الخاصة، فالمكان برغم تأطيره الظاهر بحدود القرية والصحراء فإنه سيّال، يفيض على هامش الواقع وفي عمق المُخيلة، حيث «المنامات» مكان للقاء الأحبة، والصحراء مكان لابتلاعهم، أما الزمن فيُفتته السرد في سعي لتوظيف دلالته وأثره على أبطاله، حيث نجد هناك: «زمن الصمت، زمن الكلام، زمن الانتباه، زمن الانتظار...»، فالزمن يختلط كالكوابيس، ويفقد أفقيته المنطقية وواقعيته وهو يعود أدراجه معكوساً، كما نرى الأبناء الذين يعودون أجنّة، والعيون تتحوّل لحُفر فارغة، وحتى نمش الوجوه يكبر ويصغر، وكأنه يحوم في مدار زمني معزول يخص سيرة أصحابه وحكاياتهم.

وفي حين تنحاز الكاتبة عائشة مختار للنزعة السحرية في بناء عالمها السردي، فإنها في الوقت نفسه تتلمس هُوية ذاتية تتقاطع مع الموروث الشعبي في كثير من محطات المُتتالية، فالشخصيات تنتظر «الكرامات» في مناماتهم، وتقطع المسافات من أجل الحصول على مشروب سحري يضمن لهم الحب، في استثمار لطاقات الغرابة في قواميس الوصفات السحرية الشرقية، التي تفيض برائحة «الأبخرة والأهازيج والتمائم»، في توسّل لأسئلة وجودية مؤرقة لدى أبطال المُتتالية، بداية من الموت، وحتى الحب، والنوم، والأحلام، والاستبدال، وأهوال الخطيئة، وهو الأرق الذي وجد مُتنفسه في طرح الأسئلة التي لا تخلو من غضب، فالراوي يتقمص صوت «الفتاة التي لم يعُد يعرف أحد اسمها»، ويسأل: «أما جمالها فما المغزى منه إذا كان قد حُكِم عليها بالتعاسة؟ والطيور التي حاولت أخذها إلى المجهول لماذا لم تُحاوِل مرّة ثانية؟ والعدل أين اختفى!».