إسرائيل أكثر دول العالم تلقياً للمساعدات الأميركية

واشنطن تعتبرها حجر الزاوية في أجندة سياساتها الخارجية

إسرائيل أكثر دول العالم تلقياً للمساعدات الأميركية
TT

إسرائيل أكثر دول العالم تلقياً للمساعدات الأميركية

إسرائيل أكثر دول العالم تلقياً للمساعدات الأميركية

بصرف النظر عن صفقة مبيعات الأسلحة الأخيرة لإسرائيل البالغة قيمتها 735 مليون دولار، فالولايات المتحدة تدعمها بمبلغ 3.8 مليار دولار كمساعدة أمنية سنوية، تطبيقا لـ«مذكرة التفاهم» التي وقعتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2016 لمدة 10 سنوات، ودخلت حيز التنفيذ عام 2018، وتنقسم تلك المساعدة إلى مساهمة في تمويل عسكري بقيمة 3.3 مليار دولار و500 مليون دولار كمساعدة للدفاع الصاروخي سنوياً. ويمكن القول من دون أي مبالغة إن الولايات المتحدة لا تزال أكبر داعم ومموّل لإسرائيل منذ تأسيسها. وفي الآونة الأخيرة تكثفت تلك المساعدات، لأسباب سياسية واقتصادية ودينية وجيو - سياسية، بعضها متصل بالسياسات الأميركية المحلية، والبعض الآخر بالسياسات الخارجية، في ظل التحوّلات التي شهدتها السنوات الأخيرة منذ بداية عهد أوباما، مع تغيير واشنطن أولوياتها الاستراتيجية، ورغبتها في الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وتسليمها إلى وكلاء إقليميين، على الأقل.

غاب الحديث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الولايات المتحدة، منذ أن توقفت مفاوضات السلام بين الطرفين، بعد آخر جولاتها التي عقدت في واشنطن خلال عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، تحت شعار «حل الدولتين». وباستثناء جولات الحروب المتقطعة خلال العقدين الأخيرين بينهما، كالحرب التي شنتها إسرائيل أيضاً على غزة عام 2014، بالكاد يُذكر الطرفان في وسائل الإعلام الأميركية، أو يحظيان بتغطية ومتابعة من الأميركيين.
وتكرّر سلوك الإدارات الأميركية المتعاقبة في التعامل مع الحروب التي خاضتها إسرائيل، كما هو حاصل اليوم مع الحرب المستمرة على غزة، حيث تتمدد «فترة السماح» الأميركية لآلة الحرب الإسرائيلية لتحقيق أهدافها، بعيداً عن الدخول في تفسير أسباب تلك الحرب، أو تعيين المشترَك أو المتعارض منها، مع المواجهات التي جرت بين فلسطينيي 48، في المدن والبلدات المحتلة داخل إسرائيل.

- الرأي العام الأميركي وإسرائيل
حتى الآن لا يمكن القول إن تغييراً حقيقياً قد حصل في مزاج الرأي العام الأميركي، من الموقف من إسرائيل. و«الاعتراضات» التي تتعالى من بعض التيارات السياسية - خصوصاً في الحزب الديمقراطي - على ما تفعله إسرائيل، والدعوات التي تطالب بإعادة النظر في المساعدات العسكرية التي تتلقاها من الولايات المتحدة، لطالما كانت موسمية ومرتبطة بمنسوب التوتر الأمني الذي يتكرر بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبالتالي، فهي لم تتحول إلى حركة وازنة قادرة على تحويل تلك الاعتراضات الجزئية إلى حالة تخترق الطبقة السياسية الأميركية كلها، بجمهورييها وديمقراطييها، وحتى المستقلين فيها.
ولعله من نافلة القول أيضاً، إنه بعد أكثر من 10 سنوات... تفشّى «الخراب» في عدد من الدول العربية، وتآكل التضامن العربي نتيجة الحروب الأهلية المُغذّاة بمشاريع هيمنة إقليمية، وأمعنت آلة القتل الضخمة في حصد أرواح المدنيين من قوى محلية. وكل هذا أسهم في الحفاظ على مستوى عال من الانحياز الأميركي لإسرائيل.
يوم 22 أبريل (نيسان) الماضي، أعلن 331 نائباً من الجمهوريين والديمقراطيين (بشبه مناصفة) في مجلس النواب الأميركي - أي أكثر من ثلاثة أرباع أعضائه - أنهم يعارضون وضع أي شروط على المساعدات الأميركية إلى إسرائيل، من بينهم بعض الأعضاء التقدميين من الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي. وأوضح هؤلاء في رسالة إلى رئيسة لجنة المخصصات في المجلس النائبة الديمقراطية روزا ديلورو وكبيرة الجمهوريين في اللجنة النائبة كاي غراينجر، بأن «المساعدة الأمنية لإسرائيل هي في مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة». وكان من بين «التقدميين» البارزين الموقعين على الرسالة، النائبان آندي ليفين من ولاية ميشيغان ورو خانا من ولاية كاليفورنيا. وتبرز أهمية الدعم الذي قدّمه «التقدميون» في أنه جاء في ظل دعوات من بعض رموز الجناح اليساري الذين وقعوا في وقت سابق على رسالة تدعو إلى التدقيق والإشراف على كيفية إنفاق إسرائيل مبلغ 3.8 مليار دولار الذي تتلقاه سنويا من الولايات المتحدة. وتزامنت تلك الرسالة مع دعوات مماثلة من السيناتور بيرني ساندرز والسيناتورة إليزابيث وارين، أبرز رموز هذا الجناح في مجلس الشيوخ، إلى تقييد تلك المساعدات كي لا يجري استخدامها ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ويومذاك وجه ساندرز ووارين انتقادات صريحة ضد التوسع الاستيطاني، داعين الرئيس جو بايدن إلى اتخاذ إجراءات قوية لمساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين على التوصّل إلى «حل الدولتين».
هذا، ورغم أن عدداً من استطلاعات الرأي يشير إلى أن لدى ثلثي الديمقراطيين وجهة نظر إيجابية من إسرائيل، فإن ثلثيهم أيضا يؤيدون فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ثم إن غالبية الديمقراطيين يدعون الإدارة الأميركية إلى ممارسة ضغوط متساوية على الإسرائيليين والفلسطينيين. بيد أن شيوخ الحزب الديمقراطي، بمن فيهم زعيم الغالبية في مجلس النواب ستيني هوير وزعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، يدعمون المساعدات الأميركية لإسرائيل بحجة أن «لها الحق في الدفاع عن نفسها وعلى الولايات المتحدة تقديم الدعم».
وفي المقابل وجدت الاستطلاعات أن الأعضاء الجمهوريين مهتمون بمساعدة إسرائيل أكثر من سواهم. وهو ما يعكس التأثير السياسي الذي مارسته إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، في ظل انحيازها التام لإسرائيل، مع أن الاستطلاع أظهر ارتفاعاً في نسبة المطالبين بموقف متوازن من إسرائيل والفلسطينيين، لا سيما من الفئات الشابة في الحزب الجمهوري.

- هاري ترومان... وإسرائيل
شهد مسلسل تجذّر العلاقات الأميركية بإسرائيل، الدولة التي أنشئت بقرارات لم تكن الولايات المتحدة طرفاً رئيساً فيها، محطات تاريخية ترافقت مع تحولات طرأت على ميزان القوى الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وبالأخص، مع تحوّل الولايات المتحدة إلى أبرز قوة عالمية.
في أكتوبر (تشرين الأول) 1948، أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان في خطاب، أنه «من مسؤوليتي أن أرى سياستنا في إسرائيل تنسجم مع سياستنا في جميع أنحاء العالم. إنني أرغب في المساعدة على بناء دولة ديمقراطية قوية ومزدهرة وحرة ومستقلة في فلسطين، تكون كبيرة بما يكفي وحرّة بما يكفي وقوية بما يكفي لجعل شعبها يدعم نفسه بنفسه». وفي ذلك العام وعلى أثر إعلان قيام دولة إسرائيل، وافق ترومان على تقديم مساعدات اقتصادية لدعمها على استيعاب المهاجرين، ووافق على قرض بقيمة 135 مليون دولار، كوسيلة «لتعزيز السلام».
ثم، في العام 1951 صوّت الكونغرس على مساعدة إسرائيل على تحمّل الأعباء الاقتصادية التي يفرضها تدفق اللاجئين اليهود من مخيمات النازحين في أوروبا ومن بعض الدول العربية. ويمكن القول إن إسرائيل تلقّت منذ الحرب العالمية الثانية نسبة مساعدات مباشرة من الولايات المتحدة، أكبر من المساعدات التي تلقتها أي دولة أخرى في العالم. ذلك أنه بين عامي 1949 و1973 تلقت إسرائيل من الولايات المتحدة ما متوسطه 122 مليون دولار سنويا، بإجمالي 3.1 مليار دولار، بينها قروض بقيمة مليار دولار لتمويل شراء معدات عسكرية بين عامي 1971 و1973، لكن منذ ذلك العام، تلقت إسرائيل أكثر من 120 مليار دولار من المساعدات، على خلفية موقف صدر عن الكونغرس الأميركي بعد «حرب 1973»، يقول إنه «ما لم تكن إسرائيل قوية، فإن الحرب في الشرق الأوسط ستغدو أعلى تكلفة على الولايات المتحدة، التي ستتكبّد نفقات مباشرة أكبر بكثير من دونها».
وحقاً، تألفت المساعدات الأميركية من حزم كبيرة أبرزها حزمة بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، حين تلقت 3 مليارات دولار تعويضا لها عن انسحابها من سيناء، و5 مليارات دولار لإعادة انتشار قواتها وقواعدها الجوية في صحراء النقب عام 1979. وجاءت الحزمة الثانية عام 1985 بعد أزمة اقتصادية حادة أدت إلى تضخم بنسبة 445 في المائة، بقيمة 1.5 مليار دولار من المساعدات الطارئة، التي جرى صرفها على دفعتين، في عامي 1985 و1986 كجزء من برنامج الاستقرار الاقتصادي لإسرائيل. بعد ذلك، عام 1996 تحققت الموافقة على حزمة استثنائية لمساعدة إسرائيل في «محاربة الإرهاب»، حصلت بموجبها على 100 مليون دولار. وابتداءً من العام 1987 تلقت إسرائيل سنويا 1.2 مليار دولار على شكل منح مساعدات اقتصادية و1.8 مليار دولار كمساعدات عسكرية. ثم عام 2005 تلقت إسرائيل 360 مليون دولار مساعدات اقتصادية و2.22 مليار دولار كمساعدات عسكرية، ما لبثت أن تصاعدت إلى 2.28 مليار دولار بعد الاستغناء عن جزء من المساعدة الاقتصادية وإضافتها إلى المساعدة العسكرية. ولا بد من الإشارة إلى أنه في العام 1998 جرى تصنيف إسرائيل على أنها «حليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو)»، ما سمح لها بتلقي معدات عسكرية يرغب الجيش الأميركي في الاستغناء عنها.

- إدارة أوباما أكبر داعم لإسرائيل
غير أن التحول الكبير الذي طرأ على طبيعة المساعدات الأميركية وقيمتها المقدّمة لإسرائيل، والتي تتطلب قراءة استراتيجية عن معناها، هي تلك التي أقرتها إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، التي يتهمها البعض بشكل خاطئ على أنها معادية لإسرائيل. إذ وقّع الطرفان مذكرة تفاهم في نهاية عام 2016 مدتها 10 سنوات، توافق بموجبه الولايات المتحدة على منح إسرائيل 38 مليار دولار كمساعدات عسكرية تغطي السنوات المالية من 2019 حتى 2028. وشكلت إضافة هائلة بقيمة 8 مليارات دولار عن اتفاقية سابقة لمدة 10 سنوات أيضاً، انتهت عام 2018.
وتنقسم مساعدات المذكرة إلى فئتين، 33 مليار دولار من المنح العسكرية الأجنبية، و5 مليارات دولار إضافية للدفاع الصاروخي. ويعتقد على نطاق واسع أن هذه الزيادة كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقرار واشنطن إنهاء «حربها على الإرهاب»، والانسحاب من «رمال منطقة الشرق الأوسط»، والتخفيف من أعبائها عبر تعزيز وكلائها الإقليميين، على رأسهم إسرائيل، لتركيز اهتمامها ومواردها على مناطق التوتر والنفوذ الجديدة المندلعة مع الصين.
واللافت في هذا المجال أنه، منذ الإعلان عن هذه الصفقة قبل نحو 7 سنوات، جاءت الاعتراضات عليها خجولة، رغم الأصوات التي ترتفع بين الحين والآخر من معارضين يساريين، كما حصل خلال الشهر الماضي. ويعزى ذلك إلى نفوذ اللوبي الإسرائيلي والدعم الذي تحظى به من كل الإدارات الأميركية المتعاقبة، ديمقراطية أو جمهورية، ومن أكثرية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب. وبينما كانت الولايات المتحدة تناقش حزمة المساعدات الخاصة بمواجهة جائحة «كوفيد - 19»، التي تسببت بأكبر أزمة اقتصادية منذ العام 2008، لم يناقش أحد المساعدة السنوية بقيمة 3.8 مليار دولار لإسرائيل... باعتبارها من المحرّمات، وباعتبار أن دعمها كان ولا يزال، أولوية من الحزبين، وضرورة لتوفير عنصر استقرار استراتيجي في أجندة سياسة واشنطن الخارجية.
من جهة ثانية، لا تكتمل الصورة من دون التطرق إلى القواعد العسكرية الأميركية الموجودة في إسرائيل، فضلا عن القرار الاستراتيجي الذي اتخذته «القيادة الأميركية الوسطى» (السينتكوم) بضمها إلى منطقة عملياتها، بعدما كانت جزءا من القيادة الأميركية في أوروبا، ما يشير إلى الدور الاستراتيجي الذي ستلعبه لاحقا في المنطقة.
وفي حين تعَد إسرائيل من أهم الدول الشريكة في برنامج إنتاج الطائرة المقاتلة «إف 35»، وحصلت عليها بأعداد كبيرة منذ فترة طويلة، تحتفظ الولايات المتحدة بستة من مخزوناتها الاحتياطية في قاعدة «إيروينغ 7» في إسرائيل، وبنحو 300 مليون دولار من المعدات العسكرية في تلك المواقع. تلك المعدات تملكها الولايات المتحدة وتستخدمها القوات الأميركية في الشرق الأوسط، إلا أنه بإمكان إسرائيل استخدامها في أوقات الأزمات. كذلك تحتفظ الولايات المتحدة بمقاتلات وطائرات قاذفة، كما يعتقد أيضا أن إحدى القواعد تحتضن مستشفى بسعة 500 سرير لقوات المارينز والقوات الخاصة الأميركية «القبعات الخضر».
ووفق المعلق والصحافي الأميركي ويليام أركين، وضعت الولايات المتحدة ذخائر ومركبات ومعدات عسكرية ومستشفى في 6 مواقع على الأقل في إسرائيل، بينها مطار بن غوريون (اللد) ونيفاتيم وقاعدة عوفدا الجوية وهرتسليا، بعضها يتضمن مستودعات تحت الأرض وأخرى على شكل حظائر مفتوحة. كذلك يستضيف ميناء حيفا على البحر الأبيض المتوسط زيارات منتظمة لقطع البحرية الأميركية التابعة للأسطول السادس (مقره مدينة نابولي في إيطاليا). وللولايات المتحدة منشأة رادار في ديمونا بصحراء النقب في إسرائيل، بالقرب من مفاعل ديمونا النووي، حيث يوجد برجا رادار بارتفاع 120 متراً مصممان لتتبع الصواريخ الباليستية عبر الفضاء وتزويد شبكة الصواريخ المضادة لها، ببيانات الاستهداف اللازمة لاعتراضها. وبإمكان الرادار اكتشاف الصواريخ من مسافة 2400 كيلومتر، وتعد أبراجه الأطول في العالم.
ختاماً، يمثل برنامج التعاون الصاروخي بين الولايات المتحدة وإسرائيل أحد الجوانب الاستراتيجية بينهما، إذ تطوّر إسرائيل برنامج «أرو» المضاد للصواريخ الباليستية. ويزوّد الصاروخ الولايات المتحدة بالبحوث والخبرات اللازمة لتطوير أنظمة أسلحة إضافية، وتراوحت تكلفة تطويره بين 2.4 و3.6 مليار دولار، تتقاسمها الدولتان مناصفة.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.