«ما بعد كوفيد ـ 19»... ضرورة بناء نماذج اجتماعية للعالم أكثر إنصافاً

اقتصاد الاكتفاء والتعافي الأخضر وتشجيع الابتكار من أهم ركائزها

«ما بعد كوفيد ـ 19»... ضرورة بناء نماذج اجتماعية للعالم أكثر إنصافاً
TT

«ما بعد كوفيد ـ 19»... ضرورة بناء نماذج اجتماعية للعالم أكثر إنصافاً

«ما بعد كوفيد ـ 19»... ضرورة بناء نماذج اجتماعية للعالم أكثر إنصافاً

دعا الباحثان الهولنديان إيرناني كونتيبللي وسيمونا بيكياو في كتابهما «ما بعد كوفيد - 19» إلى ضرورة إعادة بناء نماذج العالم الاجتماعية فيما بعد الجائحة، وذلك من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وإدراك المسارات المحتملة الجديدة للتنمية القائمة على العوامل البشرية، كما شددا على أهمية تقديم نموذج فلسفة اقتصاد الاكتفاء الذي يستند إلى نهج محوره الإنسان، ويطمح إلى تمكين الأفراد والمجتمعات، وتحقيق التوازن بين التقدم الاقتصادي، والحماية البيئية، والاحتياجات البشرية.
وقال الباحثان، وهما عضوان رئيسيان في مبادرة «الاتصال عن بعد من أجل الاستدامة» بهولندا، ويحاضران في مدرسة لاهاي الدولية لإدارة الأعمال إنه «لا جدال أن جائحة (كوفيد - 19) التي تتحكم في العالم بأسره منذ خريف عام 2019 بكل ما تتسبب فيه من عواقب وخيمة، ستترك آثاراً غائرة في ذاكرة التاريخ الحديث، فقد حصدت حتى اليوم أرواح أكثر من مليوني إنسان، ووصل عدد الإصابات نحو 100 مليون، وهو ما يعرض العالم لحالة من الركود الاقتصادي قد تكون أشد وطأة من أزمة ثلاثينات القرن الماضي، وتُقدر خسائرها بثلاثة تريليونات دولار».
ويتضمن الكتاب، الذي صدر باللغة الإنجليزية عن مؤسسة إندراسترا جلوبال الأميركية، وقدمت نسخته العربية الباحثة المصرية ريهام صلاح خفاجي - نشرته مكتبة الإسكندرية - ثمانية فصول حدد خلالها المؤلفان أهداف التنمية المستدامة، سعيا إلى وضع سياق لها، مع ربطها بتأثيرات الجائحة وتحدياتها وفلسفة اقتصاد الاكتفاء، ومبادئها وشروطها.

التعافي الأخضر
يذكر الباحثان أن الجائحة كشفت ضعف نماذج الحوكمة العالمية، فيما ساهم استشراء الفقر وهشاشة أنظمة الصحة والتعليم وغياب التعاون الدولي في الإسراع من وتيرة الأزمات، لذا سوف يكون من الصعب توقع أبعاد تلك التغييرات وتأثيرها في أسلوب معيشة البشر. ومن هنا، فإن الجائحة كشفت عن وجود تحديات مشتركة يتوجب على المجتمع الدولي مواجهتها واتخاذ تدابير عالمية من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية للأشخاص، وإعادة بناء نماذج للمجتمع الإنساني أكثر إنصافاً وقدرة على الصمود.
وركزا على ما سمياه «التعافي الأخضر» كوسيلة لبحث كيفية إعادة بناء النماذج الاجتماعية، والتي يمكنها تعزيز عملية تنفيذ أهداف التنمية للقضاء على الفقر وحماية الكوكب وضمان الرخاء، بدلا من العودة إلى أنماط اجتماعية سابقة قد تجعل العالم أكثر عرضة للأزمات في المستقبل.
وقال الباحثان إن دمج البرامج الخضراء ضمن خطط التعافي يمكنه إعادة بناء طرق تشغيل الصناعات بشكل أفضل بعد مرور الجائحة. وذلك باعتماد أساليب مبتكرة كما هو الحال فيما يسمى بنموذج الكعكة المحلاة أو الدونات؛ والذي يضع تصورا لعالم يمكن الناس والكوكب من الازدهار بتوازن قائم على أهداف التنمية المستدامة، والتي تستند على شمول الرؤية في طريقة إعادة تخيل ورسم مستقبل الأماكن التي يعيش فيها البشر. كما أكدا على أن تحسين جهود التعافي يجب أن يستند على مستوى المبادرات الصغيرة ومتوسطة النطاق، وذلك بالتركيز على التغييرات المحتملة في نماذج الإنتاج وسلوك المستهلك عبر مستويات أدنى من الحوكمة والتي تمارس دوراً حاسماً كساحة ديناميكية للابتكار والتجريب. ويمكن اعتبارها مختبرات لإنتاج مخرجات مستدامة ومبتكرة عن طريق نسخها وتكرارها في دوائر اختصاصات تلبي الحاجة إلى الثقة وإلى دعم العلاقة التبادلية لدى المتضررين من الإخفاق الواضح في أداء المؤسسات الدولية والوطنية.

اقتصاد الاكتفاء
وحسب رأي «كونتيبللي» و«بيكياو» سوف تكون فلسفة اقتصاد الاكتفاء نهجاً إنمائياً قادراً على تعزيز جهود التعافي في مرحلة ما بعد الجائحة، ويعد مفهوما التعلُّم والمعرفة، طبقا لرأيهما، ركنين أساسيين من فلسفة اقتصاد الاكتفاء ونهجها الإنمائي، ويهدف إلى تمكين الشعوب والمجتمعات، وتحقيق التوازن بين التقدم الاقتصادي والحماية البيئية، واحتياجات البشر أيضاً، وهو ما يوجب أن تكون الكيانات المحلية؛ مثل القرى، والأحياء ذاتية الاكتفاء نسبيّاً، مع تطبيق شروط المعرفة والفضائل والمبادئ الأخلاقية، والتي تعد بمثابة الأسس النوعية لتنفيذ نموذج إنمائي، يساير الأهداف ويجمع بين التقدم والتوازن.
وحول أهداف التنمية المستدامة، يرى الباحثان أن صياغتها يجب أن تكون وفق خطة لتحقيق مستقبل أفضل للجميع، تركز على القضاء على الفقر بجميع أشكاله وأبعاده، وينبغي تطبيقها في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، من أجل تأسيس بُنى تحتية قادرة على الصمود، وجعل المدن والمستوطنات البشرية آمنة وشاملة للجميع وحماية النظم الإيكولوجية البرّية وترميمها وتعزيز استخدامها، وإدارة الغابات على نحو مستدام، ومكافحة التصحر، ووقف تدهور الأراضي وتوفير الوصول إلى العدالة للجميع، وبناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة على جميع المستويات، وتعزيز وسائل التنفيذ، وتنشيط الشراكة العالمية.

التنمية المستدامة
وحول الإرهاب وأثره على الخطط الإنمائية، ذكر الباحثان أن نقطة الانطلاق لتحسين مفهوم التنمية البشرية على مستوى الكوكب تأثرت بفعل مجموعة أحداث غيرت الفهم المعتاد للنظام العالمي في سنوات قليلة، ومن بينها الهجمات الإرهابية على أغلب الدول الغربية المتقدمة، وصعود الدول النامية على الساحة السياسة الدولية، والأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم قبل 13 عاما، هذا بالإضافة إلى عوامل عالمية هيكلية مثل الأزمة البيئية، التي عزز من ظهورها المشاكل المتعلقة بتغير المناخ والحالات المتزايدة لانعدام المساواة، وأنماط الاستهلاك غير المقيد، على مستوى العالم.
وأشار «كونتيبللي» و«بيكياو» إلى أنه رغم الانتقادات الموجهة للأهداف الإنمائية للألفية في ظل هذه الظروف، حول انخفاض قابليتها للتنفيذ ومستوى تأثيرها، فإنها أسست إطار عمل مهمّاً للحوكمة العالمية يتسم بالتعددية الثقافية وتعدد الأجناس، بهدف مواجهة منطق الإقصاء الذي قدمه المشروع الليبرالي الجديد المهيمن على النظام الدولي.
وتحدث الباحثان عن حتمية تنمية مفهوم التضامن العالمي بتعزيز الإجراءات التعاونية ضمن عالم مترابط يتجه إلى العولمة، بدلا من الإصرار على العمل في منظومة سياسية قائمة على نظام مبعثر من دول ذات سيادة عاجزة عن التنسيق بين الجهود الرامية إلى مواجهة المخاطر النظامية العالمية. وأشارا إلى أنه من المؤكد أن تنفيذ أهداف التنمية المستدامة سوف يقود العالم في مسار قادر على الصمود وأكثر إنصافاً من أجل مواجهة مخاطر الأمراض المعدية الناشئة، وتغيُّر المناخ، والتدهور البيئي، والفقر الُمدْقع، وغيرها من التحديات التي تقف أمام التعافي في عالم أفضل وأكثر أمناً، من هنا يجب أن يكون تركيز استجابة العالم للجائحة على معالجة العوامل المتسببة في ذلك من خلال استعادة الازدهار، وإعادة هيكلة المجتمع الإنساني في مسار أسلم وأكثر أماناً وإنصافاً.


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».