نجيب محفوظ... صراع الروائي والسيناريست

74 فيلماً تحمل اسمه تسجل سابقة في تاريخ السينما

نجيب محفوظ... صراع الروائي والسيناريست
TT

نجيب محفوظ... صراع الروائي والسيناريست

نجيب محفوظ... صراع الروائي والسيناريست

إحصائية مدهشة لم يرصدها كثيرون من قبل بهذه الدقة والتوثيق يكشف عنها الناقد نادر عدلي في كتابه «سينما نجيب محفوظ» الصادر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق السينما»، والذي يذكر فيه أن 74 فيلماً في جعبة السينما المصرية تحمل اسم نجيب محفوظ، تتضمن ما كتبه خصيصاً للشاشة الفضية، وهى 30 عملاً، فضلاً عن الأعمال المأخوذة عن رواياته وقصصه القصيرة وتبلغ 44 عملاً.
والسؤال: كيف بدأت علاقة أديب نوبل بهذا الفن أصلاً؟ سئل ذات مرة فأجاب بأنها قصة عشق بدأت منذ أن كان طفلاً في الخامسة من عمره عندما شاهد فيلماً لأول مرة بإحدى دور العرض. وفي أواخر الأربعينات عرض عليه المخرج الشهير رائد تيار الواقعية صلاح أبو سيف أن يعلمه كتابة السيناريو والقصة السينمائية بعد أن سجل اسمه كسيناريست بنقابة السينمائيين. وبالفعل قدم محفوظ 19 سيناريو خرجت للنور، لكنه ابتعد بعد ذلك عن كتابة السيناريو واكتفى بكتابة القصة أو المعالجة السينمائية للفيلم. ولم يكن الأمر بالنسبة له مجرد ممارسة مهنة أو حرفة، لذلك نجده يقول في أكثر من حوار: «راودني أمل كبير أن يصبح مجال السينما امتداداً لحياتي الإبداعية». أيضاً كان تعيينه مديراً للرقابة على المصنفات الفنية من أسباب ابتعاده عن الكتابة للسينما لفترة. وفي الوقت نفسه، بدأ الاهتمام السينمائي بأعماله الأدبية الروائية وتحويلها إلى كثير من الأفلام المهمة، ثم قصصه القصيرة، ثم تولى منصب رئيس المؤسسة العامة للسينما فازداد ارتباطاً بهذا المجال.

من «المنتقم» إلى «المجرم»
كيف تعامل نجيب محفوظ مع السينما وكيف تعاملت هي مع رواياته وقصصه؟ يجيب نادر عدلي أن الأمر سار عبر مرحلتين. في الأولى تولى صاحب «بين القصرين» كتابة السيناريو أو القصة والسيناريو ثم القصة المؤلفة للسينما أو القصة السينمائية المأخوذة عن أعمال الآخرين. واستمرت تلك المرحلة عبر 30 سنة كاملة حيث تبدأ بفيلم «المنتقم»، إنتاج 1947 وإخراج صلاح أبو سيف وبطولة نور الهدى ومحمود المليجي، حتى فيلم «المجرم» بطولة شمس البارودي وحسن يوسف والإخراج أيضاً لصلاح أبو سيف. وتشمل هذه المرحلة 30 فيلماً قام محفوظ بكتابة السيناريو لـ14 فيلماً منها، والقصة والسيناريو لـ4 أفلام، إضافة إلى 8 قصص كتبها للسينما، ومعالجة سينمائية عن أعمال الآخرين بلغت 8 أفلام.
ويذكر المؤلف أن محفوظ اكتسب حرفة كتابة السيناريو بسرعة عبر أول فيلمين ومع الفيلم الثالث «لك يوم يا ظالم» بدأ تأثير الواقعية المحفوظية في تفاصيل المكان والشخصيات رغم اقتباس القصة من الأدب الفرنسي. وفي الفيلمين التاليين «ريا وسكينة» و«الوحش» برع في استغلال وقائع إجرامية حقيقية كتبت عنها الصحافة وأبطالها سفاحون تم إلقاء القبض عليهم كما استغل جاذبية القصة المشوقة، ليبرز مفارقات البيئة الاجتماعية في مصر في الأربعينات والخمسينات والستينات، وهو ما تجلى أيضاً في أفلام لاحقة مثل «فتوات الحسينية»، و«درب المهابيل» و«الفتوة»، لافتاً إلى أنه من خلال هذه الأفلام يأتي تأثير محفوظ ودوره منذ البداية في دعم وترسيخ التيار الواقعي في السينما المصرية. وحين كتب السيناريو لروايتي إحسان عبد القدوس «الطريق المسدود» و«أنا حرة» كان يتناول شريحة أعلى من الطبقة المتوسطة في واقع اجتماعي مختلف، شبه أرستقراطي، لكن بصمات الواقعية رغم ذلك كانت تظهر بقوة في هذين العملين. توقف عميد الرواية العربية بعد ذلك عن كتابة السيناريو، مكتفياً بكتابة القصة فقط، كما في فيلم «الاختيار» مع المخرج يوسف شاهين إنتاج 1971 بطولة سعاد حسني وعزت العلايلي. وأحياناً كان يكتب القصة السينمائية عن أعمال أدبية لآخرين، كما في «بئر الحرمان» إخراج كمال الشيخ وبطولة نور الشريف وإنتاج 1969.

نقد النقد
يوضح المؤلف أنه في الوقت الذي ابتعد فيه محفوظ عن كتابة السيناريو، انتبهت السينما بشكل متزايد إلى أعماله الروائية الأدبية وبالمصادفة كما يقول محفوظ نفسه: «قام أحمد عباس صالح بتحويل روايتي (بداية ونهاية) إلى مسلسل إذاعي، وتصادف أن تابع هذا العمل المنتج والمصور السنيمائي عبد الحليم نصر، ولاحظ أنه يصلح لأن يكون فيلماً سينمائياً، وقام بالاتفاق معي واشترى الرواية».
تؤرخ هذه الواقعة إلى المرحلة الثانية في علاقة محفوظ بالسينما، حيث أصبح المنتجون والمخرجون يقدمون فيلماً مأخوذاً عن إحدى رواياته بشكل منتظم كل عام تقريباً، فتم تقديم 17 فيلماً خلال 15 سنة في هذا السياق. ووصل عدد الأفلام إلى 28 فيلماً مأخوذاً عن 21 رواية له، حيث كان أحياناً يتم أكثر من معالجة سينمائية للرواية الواحدة كما حدث مع «اللص والكلاب»، كما قدمت 6 أفلام عن حكايات من رواية «ملحمة الحرافيش»، وبعد جائزة نوبل أنتجت ثلاثة أفلام عن رواياته في المكسيك وفيلم في جمهورية أذربيجان بعنوان «اعتراف» عن «اللص والكلاب».
ويذكر عدلي أنه حين بدأ الاتجاه إلى القصص القصيرة لمحفوظ، تم اختيار 12 قصة نشرت في 6 مجموعات قصصية مختلفة أفرزت لنا 13 فيلماً. وبذلك يبلغ عدد الأفلام التي حملت اسم نجيب محفوظ في المرحلتين 74 فيلماً، تمثل في مجملها وتنوعها «حالة» ليس لها مثيل عربياً أو عالمياً في علاقة أديب بالسينما من حيث الاستمرارية والتأثير والخصوصية والأهمية على نحو يكسبها صفة وتصنيف «سينما نجيب محفوظ».
كما كان لافتاً أنه من بين مائة فيلم تم اختيارها لتكون الأفضل في تاريخ السينما المصرية في القرن العشرين، نجد عشرة أفلام مأخوذة عن روايات وقصص لأديب نوبل.
ويلفت الكتاب إلى أن أعمال محفوظ لم تتمتع فقط بالأسلوب السينمائي الجمالي، إنما صنعت كذلك حالة من التطور في حركة صناعة السينما عبر الدفع تجاه المدرسة الواقعية نفسها بكل أبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية والنقدية أيضاً.
ويعبر محفوظ في حواراته عن رضاه لتعامل الشاشة الفضية مع أعماله لأنها كانت في أيدي كبار المخرجين من أمثال صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وحسين كمال وعاطف سالم وحسام الدين مصطفى وعلي بدرخان وحسن الإمام. أما التعامل النقدي السلبي مع بعض هذه الأفلام فيقول عنه: «في اعتقادي أن النقد السينمائي هو أحد أبعاد الأزمة التي تعيشها السينما المصرية فإنني آخذ علي النقاد مسألة تحيزهم (الآيديولوجي)، فهم لا يفرقون بين الفن والسياسة وما يتفق مع فكرهم السياسي يرفعونه إلى عليين وما يختلف معه ينزلونه إلى أسفل سافلين دون أسباب موضوعية، فالفنان أو المبدع يجب أن تحسبه على فنه وإبداعه فقط ولا تخلط بينه وبين مواقفه الشخصية أو السياسية».

صراع خفي
لكن هل عانى نجيب محفوظ من الصراع بين الروائي والسيناريست؟ الإجابة بـ«نعم» قاطعة، بحسب الكتاب، فقد كان يدرك أن الكتابة للسينما لها ضرورات تختلف عن كتابة الرواية ولهذا لم يكتب السيناريو لرواياته حتى لا يكون هو نفسه من يعبث بها عبر مشرط السيناريست، لكن في الوقت نفسه لم يعترض على ذلك حين فعله الآخرون!
ويفسر محفوظ عدم كتابته أي سيناريو لفيلم مأخوذ من أعماله الأدبية بقوله: «كنت أمتنع عن كتابة سيناريوهات أفلامي، خشية أن إخلاصي للكتاب الذي أحب أن يكون متحرراً يؤثر على إخلاصي لكتابة السيناريو». وبالنسبة لعدم اعتراضه على ما يتم من تغيرات في رواياته حين يتم تحويلها للسينما يقول: «السينمائي فنان وليس مترجماً للعمل الأدبي، فهو صاحب رؤية وصاحب إبداع ويصح أن يأخذ من الرواية 90 في المائة أو 50 في المائة، حسب رؤيته، ويصح أن يؤلف قصة جديدة مستوحاة من الأولى ويعطيها اسماً جديداً، ثم إن الحذف أو الإضافة ضرورة فنية تقتضيها المعالجة السينمائية، وهي عمل مشروع كنت أمارسه في الفترة التي مارست فيها كتابة السيناريو».



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل، الأحد، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

الراحل عبد الله العلي النعيم عمل مديراً لمعهد المعلمين في الرياض

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

شركة الغاز والتصنيع الأهلية تعد إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض