اتساع الهوة بين الميسورين والفقراء في كوبا.. مع التحول إلى الرأسمالية

تحويلات المغتربين تعود بالنفع على مجموعات سكانية محددة.. وفشل لبرامج الرعاية الاشتراكية

يوناس إتشيفاريا على متن قاربه في حي «ليتل سوامب» على ضفاف نهر ريو المينداريس (نيويورك تايمز)
يوناس إتشيفاريا على متن قاربه في حي «ليتل سوامب» على ضفاف نهر ريو المينداريس (نيويورك تايمز)
TT

اتساع الهوة بين الميسورين والفقراء في كوبا.. مع التحول إلى الرأسمالية

يوناس إتشيفاريا على متن قاربه في حي «ليتل سوامب» على ضفاف نهر ريو المينداريس (نيويورك تايمز)
يوناس إتشيفاريا على متن قاربه في حي «ليتل سوامب» على ضفاف نهر ريو المينداريس (نيويورك تايمز)

يمر النهر الذي يصطاد منه يوناس إتشيفاريا الأسماك عبر الأحياء المكتظة بالمطاعم الفاخرة والمنتجعات الصحية والمتاجر الراقية، الآخذة في الانتشار في كوبا. المنازل الراقية المتناثرة والمجمعات السكنية الفاخرة تتحدث عن الثروات القديمة والجديدة في البلاد. يمكن رصد مجموعة من المطاعم الخاصة المعروفة باسم «بالاداريس» التي تقدم شرائح اللحم الشهية وأسماك الفيليه، والبط البرتقالي إلى السياح والأميركيين من أصول كوبية الذين يزورون أقاربهم ومجموعة كبيرة من رجال الأعمال الكوبيين. كل هذه المأكولات لم يكن بإمكان إتشيفاريا تناولها على العشاء، باستثناء بعض البيض وحبات الموز.
في الحي الذي يسكنه، والذي تكثر فيه الاكواخ ويسمى «ليتل سوامب»، تطل على ضفاف نهر ريو المينداريس، وعلى هامشه يوجد أشخاص ينتظرون الأموال التي يرسلها لهم أقاربهم من الخارج، والحصص الغذائية التي تكفي بالكاد حتى نهاية الشهر، والمنازل المشيدة من الصفيح وكتل الخرسانة المتهالكة التي تفشل في الغالب في حجب مياه الفيضان. يقول إتشيفاريا، الذي تعتمد حياته اليومية على ما يجود به يومه عليه «أعتقد أنني لا أحمل ثمن كوب من الماء هناك» في بالاداريس.
في الوقت الذي تفتح فيه كوبا أبوابها على مصراعيها أمام المشروعات الصغيرة، فإن الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وبين البيض والسود أيضا، صارت تزداد بشكل واضح، علما بأن الثورة الكوبية جاءت في البداية للتقليل منها.
ويتوقع أن تزداد تلك الفجوة الآن مع رفع الولايات المتحدة الأميركية مقدار الأموال التي يمكن للأميركيين من أصل كوبي إرسالها إلى الجزيرة من ألفي دولار إلى 8 آلاف دولار سنويا، في إطار مساعي واشنطن لإعادة العلاقات مع هافانا.
وتعد التحويلات المالية، المقدرة بنحو 3 مليارات دولار سنويا، من أكبر مصادر رؤوس الأموال وراء المشروعات الصغيرة الجديدة هناك. وكانت التدفقات النقدية من أكبر العوامل المحركة للاقتصاد الكوبي في السنوات الأخيرة، حتى إنها تنافس عائدات السياحة والتعدين والصادرات الدوائية والسكر.
ويؤدي رفع سقف التحويلات المالية، إلى جانب السماح للمزيد من المواطنين الأميركيين بزيارة كوبا، وغير ذلك من الخطوات، إلى المساعدة في «دعم المواطنين الكوبيين» على حد وصف الإدارة الأميركية.
غير أن البعض سيستمتعون بذلك الدعم أكثر من غيرهم. ويقول خبراء الاقتصاد الكوبي إنهم يتوقعون تلقي المواطنين البيض لتحويلات مالية خارجية بمقدار 2.5 مرة أكثر من المواطنين السود، مما يترك الكثير من المواطنين القاطنين في الأحياء المتهالكة مثل «ليتل سوامب» خارج دائرة الانتعاش التجاري. ويقول أليخاندرو دي لا فوينتي، مدير معهد الدراسات الأفريقية - اللاتينية في جامعة هارفارد الأميركية، إن «التحويلات المالية ولدت نمطا جديدا من الفجوة الطبقية وخصوصا الفجوة العرقية، إذ تستخدم تلك التحويلات حاليا في تمويل الشركات الخاصة، ولا تعمل على تمويل الاستهلاك فقط كما كان الأمر في الماضي».
وتقول الحكومة الكوبية إن التحول إلى المشاريع الخاصة، الذي يعد واحدا من مرتكزات استراتيجيتها لتعزيز اقتصادها الهش، سيسمح لها بالتركيز على برامجها الاجتماعية الموجهة إلى الفئات الفقيرة من المجتمع. وتقول إحدى لوحات الإعلانات على شارع في هافانا «إن التغييرات الكوبية هدفها المزيد من الاشتراكية».
لكن حالة من الإحباط طغت على الكثير من الفقراء الكوبيين لما يعتبرونه تدهورا لبرنامج الرعاية والمزايا الاجتماعية التي يتحصل عليها الكوبيون في الاقتصاد الجديد والذين يجمعون الأموال من خارج البلاد. ويقول خوسيه راؤول كولومي، مالك مطعم «ستاربيان»، وهو من أكثر المطاعم شعبية في كوبا، إنه لم يكن من المألوف أن يكون غالبية زبائنه من الكوبيين القاطنين للجزيرة، بدلا من السياح أو المغتربين. ويضيف «بعضهم فنانون يعيشون حياة كريمة، أو من رجال الأعمال الذين أسعدهم الحظ، والكثير منهم سائحون بطبيعة الحال، لكننا نشهد المزيد من الكوبيين ممن يمكن أن نسميهم أبناء الطبقة الوسطى».
في أحياء القفر المدقع مثل «ليتل سوامب»، يصف كثيرون شعورهم كما لو كانوا أجانب في بلادهم، حيث يشهدون الاقتصاد الصاعد من غير وسيلة متاحة لديهم للمشاركة فيه. كما أنهم يشيرون إلى هيمنة الكوبيين البيض على المشاريع الجديدة. ويشيرون أيضا إلى المكاسب التي جاءت بها الثورة للكوبيين الأفارقة في مجال التعليم والصحة، لكنهم يتحدثون كذلك عن الظروف الاقتصادية العسيرة التي يعاني منها الكوبيون من ذوي البشرة الداكنة. وتقول مارلين راميريز، التي تعمل في فندق سياحي في حي فيدادو وتمر على المطاعم الجديدة في طريقها إلى عملها يوميا «إنني أنظر إلى تلك الأماكن الجديدة فلا أجد أحدا يشبهني». ولدى سؤالها حول ما إذا كانت تتلقى مساعدات مالية من أقارب لها في الخارج، ابتسمت بتكلف وأشارت بيدها إلى غرفة معيشتها المتواضعة الغارقة في المياه إثر هطول الأمطار الغزيرة «لو توفر لي ذلك هل تعتقد أنني كنت سأعيش هنا؟».
خلال الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي السابق ودخول كوبا أزمة اقتصادية ساحقة، انتقل آلاف الكوبيين البائسين من قاطني الريف إلى العاصمة هافانا أملا في العثور على عمل. ويعيش الكثير منهم حتى الآن كلاجئين افتراضيين داخل بلادهم، في أحياء فقيرة على شاكلة «ليتل سوامب»، لكن عزاؤهم أن الأمور كانت أفضل قليلا خلال السنوات الماضية، مع جهود أقل للرعاية ومعلمين أفضل. فبعض السكان الفقراء ممن يتلقون تحويلات من الخارج معروف عنهم سداد مصروفات المدرسين الخصوصيين حتى يضمنوا لأطفالهم الحصول على درجات عالية. وذكر أحد السكان برنامجا حكوميا يقدم الثلاجات لمن لا يمتلكونها، مقابل 300 دولار للثلاجة الواحدة. غير أن الدفعات المالية الشهرية، التي تخرج مع الرواتب الحكومية والتي لا تتجاوز 20 دولارا شهريا، يمكن أن تستمر لبضعة سنوات. وقال: «إن فترة السداد قد تصبح أطول من استمرار الثلاجة ذاتها».
كانت الحكومة باشرت برنامجا لبناء مساكن لكنها وجدت صعوبات مع كثرة الطلبات. كما يرفض السكان دائما مغادرة منازلهم التي تهددها مياه الفيضانات لأنهم يخشون استيلاء واضعي اليد على منازلهم أو أن تحول السلطات بينهم وبين العودة إلى ديارهم. وتمتد الأسلاك الكهربائية المتهالكة عبر الجدران وأسطح المنازل، مما يجعل من أخطار الحريق قريبة للغاية. ويقول أحد السكان «أحيانا تجبرهم الحكومة على مغادرة منازلهم». وقد دفعت أجور الحكومة الراكدة الكثير من الكوبيين خارج السوق العقارية بالبلاد، والتي نشأت عقب سماح الحكومة ببيع وشراء المنازل منذ العام الماضي، على حد وصف كارمليو ميسا - لاغو، وهو أستاذ فخري لدى جامعة بيتسبرغ ودرس الاقتصاد الكوبي لفترة طويلة. وأضاف: «إن الإصلاحات مثل الموافقة على بيع المنازل أفادت أولئك الذين يملكون أفضل المنازل، حيث يمكنهم بيع منازلهم وشراء منازل أصغر، ولكن لم يستفيد منها من يمتلكون المنازل السيئة».
لكن مع ذلك وأمام كثرة المشاكل، فإن قلة من الناس تتحدث بصراحة عن مغادرة البلاد، وذلك لأن أعدادا كبيرة ليس لديهم أقارب في الخارج أو أموال لطلبات الحصول على التأشيرة أو حتى تذاكر الطيران. والبديل المتاح أمامهم هو الخروج للصيد في القوارب الضعيفة أو الزوارق المائية المؤقتة، وهي الرحلة التي قد تنتهي بالوفاة أو الاعتقال من قبل السلطات الكوبية.
ويقول إتشيفاريا «إذا ألقوا القبض عليك فإنهم يلقون بك في السجن ولا يسمحون لك بالصيد مرة أخرى». ويضيف إتشيفاريا أن متوسط ما يكتسبه في الشهر يبلغ 15 دولارا، وهو أقل بقليل من مبلغ 20 دولارا للعمال الكوبيين العاديين. ويخلص قائلا: «إن ذلك لا يكفي أبدا، لكن يتحتم علينا الاستمرار في محاولة الحصول على شيء».
* خدمة «نيويورك تايمز»



بولوارتي تضع البيرو في مواجهة مع حكومات المنطقة

رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
TT

بولوارتي تضع البيرو في مواجهة مع حكومات المنطقة

رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)
رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي قبيل مؤتمر صحافي في ليما، في 24 يناير الحالي (أ.ب)

بعد التدهور الأخير في الأوضاع الأمنية التي تشهدها البيرو، بسبب الأزمة السياسية العميقة التي نشأت عن عزل الرئيس السابق بيدرو كاستيو، وانسداد الأفق أمام انفراج قريب بعد أن تحولت العاصمة ليما إلى ساحة صدامات واسعة بين القوى الأمنية والجيش من جهة، وأنصار الرئيس السابق المدعومين من الطلاب من جهة أخرى، يبدو أن الحكومات اليسارية والتقدمية في المنطقة قررت فتح باب المواجهة السياسية المباشرة مع حكومة رئيسة البيرو الجديدة دينا بولوارتي، التي تصرّ على عدم تقديم موعد الانتخابات العامة، وتوجيه الاتهام للمتظاهرين بأنهم يستهدفون قلب النظام والسيطرة على الحكم بالقوة.
وبدا ذلك واضحاً في الانتقادات الشديدة التي تعرّضت لها البيرو خلال القمة الأخيرة لمجموعة بلدان أميركا اللاتينية والكاريبي، التي انعقدت هذا الأسبوع في العاصمة الأرجنتينية بوينوس آيريس، حيث شنّ رؤساء المكسيك والأرجنتين وكولومبيا وبوليفيا هجوماً مباشراً على حكومة البيرو وإجراءات القمع التي تتخذها منذ أكثر من شهر ضد المتظاهرين السلميين، والتي أدت حتى الآن إلى وقوع ما يزيد عن 50 قتيلاً ومئات الجرحى، خصوصاً في المقاطعات الجنوبية التي تسكنها غالبية من السكان الأصليين المؤيدين للرئيس السابق.
وكان أعنف هذه الانتقادات تلك التي صدرت عن رئيس تشيلي غابرييل بوريتش، البالغ من العمر 36 عاماً، والتي تسببت في أزمة بين البلدين مفتوحة على احتمالات تصعيدية مقلقة، نظراً لما يحفل به التاريخ المشترك بين البلدين المتجاورين من أزمات أدت إلى صراعات دموية وحروب دامت سنوات.
كان بوريتش قد أشار في كلمته أمام القمة إلى «أن دول المنطقة لا يمكن أن تدير وجهها حيال ما يحصل في جمهورية البيرو الشقيقة، تحت رئاسة ديما بولوارتي، حيث يخرج المواطنون في مظاهرات سلمية للمطالبة بما هو حق لهم ويتعرّضون لرصاص القوى التي يفترض أن تؤمن الحماية لهم».
وتوقّف الرئيس التشيلي طويلاً في كلمته عند ما وصفه بالتصرفات الفاضحة وغير المقبولة التي قامت بها الأجهزة الأمنية عندما اقتحمت حرم جامعة سان ماركوس في العاصمة ليما، مذكّراً بالأحداث المماثلة التي شهدتها بلاده إبّان ديكتاتورية الجنرال أوغوستو بينوتشي، التي قضت على آلاف المعارضين السياسيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي.
وبعد أن عرض بوريتش استعداد بلاده لمواكبة حوار شامل بين أطياف الأزمة في البيرو بهدف التوصل إلى اتفاق يضمن الحكم الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، قال «نطالب اليوم، بالحزم نفسه الذي دعمنا به دائماً العمليات الدستورية في المنطقة، بضرورة تغيير مسار العمل السياسي في البيرو، لأن حصيلة القمع والعنف إلى اليوم لم تعد مقبولة بالنسبة إلى الذين يدافعون عن حقوق الإنسان والديمقراطية، والذين لا شك عندي في أنهم يشكلون الأغلبية الساحقة في هذه القمة».
تجدر الإشارة إلى أن تشيلي في خضمّ عملية واسعة لوضع دستور جديد، بعد أن رفض المواطنون بغالبية 62 في المائة النص الدستوري الذي عرض للاستفتاء مطلع سبتمبر (أيلول) الفائت.
كان رؤساء المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا قد وجهوا انتقادات أيضاً لحكومة البيرو على القمع الواسع الذي واجهت به المتظاهرين، وطالبوها بفتح قنوات الحوار سريعاً مع المحتجين وعدم التعرّض لهم بالقوة.
وفي ردّها على الرئيس التشيلي، اتهمت وزيرة خارجية البيرو آنا سيسيليا جيرفاسي «الذين يحرّفون سرديّات الأحداث بشكل لا يتطابق مع الوقائع الموضوعية»، بأنهم يصطادون في الماء العكر. وناشدت المشاركين في القمة احترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، والامتناع عن التحريض الآيديولوجي، وقالت «يؤسفني أن بعض الحكومات، ومنها لبلدان قريبة جداً، لم تقف بجانب البيرو في هذه الأزمة السياسية العصيبة، بل فضّلت تبدية التقارب العقائدي على دعم سيادة القانون والنصوص الدستورية». وأضافت جيرفاسي: «من المهين القول الكاذب إن الحكومة أمرت باستخدام القوة لقمع المتظاهرين»، وأكدت التزام حكومتها بصون القيم والمبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، رافضة أي تدخّل في شؤون بلادها الداخلية، ومؤكدة أن الحكومة ماضية في خطتها لإجراء الانتخابات في الموعد المحدد، ليتمكن المواطنون من اختيار مصيرهم بحرية.
ويرى المراقبون في المنطقة أن هذه التصريحات التي صدرت عن رئيس تشيلي ليست سوى بداية لعملية تطويق إقليمية حول الحكومة الجديدة في البيرو بعد عزل الرئيس السابق، تقوم بها الحكومات اليسارية التي أصبحت تشكّل أغلبية واضحة في منطقة أميركا اللاتينية، والتي تعززت بشكل كبير بعد وصول لويس إينياسيو لولا إلى رئاسة البرازيل، وما تعرّض له في الأيام الأخيرة المنصرمة من هجمات عنيفة قام بها أنصار الرئيس السابق جاير بولسونارو ضد مباني المؤسسات الرئيسية في العاصمة برازيليا.