الصحافة الحزبية في المغرب... صمود وسط أعاصير التحول

الرقّاص: علاقة الحزب السياسي بصحيفته لم تعد كما كانت من قبل

الصحافة الحزبية في المغرب... صمود وسط أعاصير التحول
TT

الصحافة الحزبية في المغرب... صمود وسط أعاصير التحول

الصحافة الحزبية في المغرب... صمود وسط أعاصير التحول

تميّزت الصحافة المكتوبة المغربية تاريخياً بالسمة السياسية، وظل استمرار إصدار الصحف رهيناً بتموجات الواقع السياسي، الذي أفرز تقليداً تمثل في الترابط الحتمي بين مصير الصحيفة ومآل الحزب السياسي الناطقة باسمه، وهو ما جعل حياة هذه الصحف رهينة بملابسات الحياة السياسية والحزبية.
وعلى خلاف البلدان الغربية، التي اهتدت إلى إلغاء الصحف الحزبية منذ عقود من الزمن، فإن غالبية الهيئات السياسية المغربية ظلت محتفظة بمنابرها التي شكلت في الماضي عناوين كبيرة لتاريخ الصحافة بالمغرب. في ظل هذا الواقع أصبحت دراسة تاريخ أي حزب مغربي، تتطلب من الباحث أساساً دراسة مسار صحافته، وارتكازاً على العلاقة التاريخية والعضوية بين الحزب والصحيفة، وهو ما أفرز جدلية غاية في الإحكام بين الطابعين الصحافي والسياسي، كما جاء في كتاب «مجمل تاريخ المغرب»، للمفكر المغربي عبد الله العروي. وبذلك ارتبطت الصحافة المغربية في مجملها بالفضاء السياسي من جهة، وبالعمل الحزبي من جهة ثانية.

لقد ظلت وظيفة هذه الصحافة محكومة بدرجة أولى بمنطق الصراع السياسي بين النخب، وبهيمنة حزبية مشددة على الصحافة. وكانت الأولوية، منذ الحصول على الاستقلال إلى غاية منتصف عقد التسعينات من القرن الماضي، تعطى للعلاقة بين الحزب وأعضائه على حساب العلاقة بين الصحيفة والقراء. أي صحافة تخاطب المناضلين، وتنقل لهم تعليمات الحزب، وفق تصوّر هذا الأخير لحاجياتهم الإعلامية، بدلاً من صحيفة موجهة للجمهور الواسع.
وحقاً، فإن معظم الصحف المغربية إما تابعة للأحزاب أو لحساسيات سياسية أو اقتصادية ومالية، مما جعل الصحافة رهينة لتسيس مبالغ فيه. ولقد خضع تعامل الصحف مع الأحداث بالدرجة الأولى للتوجهات السياسية للحزب الناطقة باسمه. وهذا ما يفسر في غالب الأحيان تباين وجهات النظر والتأويلات التي يتعرض لها الحدث الواحد، رغم ظهور صحف ومجلات حاولت أن تنأى بنفسها عن التبعية للأحزاب.

مستقبل الصحافة الحزبية
إذا كان ارتباط الجريدة بالحزب يحد نسبياً من حريتها وحرية صحافييها لدفعها لتكييف خطها التحريري مع توجهات الحزب وعقيدته، إلا أن الحديث عن الصحف المملوكة لأحزاب سياسية أو عن مستقبلها، لا يمكن أن يكون موضوعياً ورصيناً من دون استحضار السياق السياسي والمهني والتاريخي للمغرب. وبالتالي، هنا لا بد من تحليل الموضوع ضمن مقاربة شمولية بلا خلفيات مسبقة أو أحكام جاهزة، أو أطروحات ماضوية باتت اليوم عقيمة، حسب ما يرى محتات الرقاص، مدير نشر جريدتي «بيان اليوم» باللغة العربية و«البيان» باللغة الفرنسية، التابعتين لحزب التقدم والاشتراكية المعارض (الشيوعي سابقاً). يعود تاريخ صدور الصحيفتين إلى عام 1972.
وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» أوضح الرقاص - وهو أيضاً عضو في المكتب التنفيذي للفيدرالية المغربية لناشري الصحف أن مقاربة هذا الموضوع بالنسبة للحالة المغربية «ليست نفسها في جغرافيات إعلامية وسياسية عربية أخرى»، معرباً عن اعتقاده بأن «عدداً من المتكلمين في هذا الموضوع ببلادنا، لم يطلعوا على صحيفة حزبية منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي. وبالتالي، فمقاربتهم للموضوع تبقى منجرة لذات الأدوات التحليلية السابقة، ومعتقلة في قوالب الزمن السياسي الذي مضى».
في سياق ذلك، ذكر الرقاص بأن عدداً من صحف الأحزاب التي لا تزال صامدة في الساحة حتى اليوم، وضمنها «البيان» و«بيان اليوم»، شهدت تحولات كثيرة، في الأشكال وفِي المضامين، مشدداً على «ضرورة استحضار كل هذه التحولات الهيكلية والأساسية في سياق التحليل».
وأردف قائلاً: «نحن نعمل اليوم ضمن مقاولة صحافية تصدر صحفاً مكتوبة أو إلكترونية. ولم يعد الأمر يتعلق بنشرات حزبية تنجز داخل المقرات الحزبية من طرف مناضلين متطوعين. والمقاولة اليوم تُدار ضمن شروط أي شركة خاصة، وتواجه الصعوبات، وتعمل بأدوات القطاع الخاص ذاتها، وتعرض منتوجها للسوق تماماً كما يفعل كل المقاولين».
إلا أن هذه الصحف العريقة، في نظر الرقاص، «مطالبة في الوقت ذاته بالاستمرار والتطور من داخل نموذج اقتصادي ومقاولاتي حديث وعصري، خاصة أن العمل المهني اليومي لا يظهر أن هناك أي فرق بين صحف، يمكن تسميتها سياسية، وأخرى خصوصية، بحكم ملكيتها. ذلك أننا جميعاً نبحث عن الأخبار ونعالجها ونعرضها للجمهور في التزام وتقيد بقواعد المهنة وأخلاقياتها»، فضلاً عن أن الصحافيين «هم أنفسهم ولا لوجود لصحافيين للصحف الحزبية فقط وآخرين للصحف الخاصة».
ويتابع مدير نشر صحيفتي «البيان» و«بيان اليوم» أن علاقة الحزب السياسي نفسه بصحيفته لم تعد كما كانت من قبل، بل صارت تدبر ضمن آليات التعاقد وأحكام قوانين الشركات. ويشير إلى أن ما يقتضيه قانون الصحافة من شروط تسري راهناً على كل المهنيين والمؤسسات الإعلامية من دون استثناء. غير أنه يستدرك قائلاً: «قد تكون الصحف السياسية ملتزمة بثوابت سياسية وفكرية محددة، ولا تتناقض معها... ولكن ذلك يمكن إدراجه ضمن مقتضيات خطها التحريري، وهو ما يفترض مبدئياً أنه يميز كل صحيفة بغض النظر عن مالكها أو الجهة الناشرة لها». ثم يذكر أن صحفاً خاصة بدورها تتقيد بـ«خطوط حمراء» لا تتجاوزها، سواءً في العلاقة مع المواضيع أو الأشخاص أو اتجاه المموّلين والسلطات السياسية.
ومن ثم، يتساءل «ألا يمكن اعتبار هذه الصحف الخاصة جداً، في هذه الحالة، قد تحولت إلى مطبوعات تنتصر لجهة سياسية أو سلطوية أو اقتصادية محددة؟».
محتات الرقاص يرى أن الصحف المغربية كلها تواجه اليوم أمام تحديات استمرارها «وهي مطالبة بصياغة نموذج اقتصادي جديد لتدبير منظومتها كلها. والتمييز هنا بين الصحف، بحسب الجهة الناشرة لها، يعتبر منهجية غير مجدية إطلاقاً». ويعبّر عن اعتقاده بأن المغرب في حاجة ماسة إلى صحافة ممتلكة لوضوح موقفها السياسي، ولديها المصداقية التاريخية والسياسية والمهنية والأخلاقية اللازمة، وذلك لكون الصحف الحزبية التي تطورت وتغيرت كثيراً اليوم بإمكانها تجسيد هذا النموذج لصحافة سياسية وطنية جادة ورصينة تواكب ديناميات الوطن وتنتصر لقضاياه الأساسية.
ويخلص الرقاص إلى القول إن البلاد مدعوة بدورها للانفتاح أكثر وتمتين تحولها وتأهيله، ولكن في الوقت نفسه مدعوة أيضاً لبلورة مخطط استراتيجي كبير للنهوض بقطاع الصحافة المكتوبة والإلكترونية بشكل عام وتنمية القراءة وسط الجمهور والشباب، وإسناد مقاولات القطاع لتعزيز استقرارها المادي والاقتصادي، ولتطوير منتوجها المهني، وتقوية دورها في المجتمع، وهذا في نظره هو «تحدي المرحلة في مهنتنا اليوم بالمغرب».

التكنولوجيا... وتحدي المهنية
على صعيد آخر، يقول عبد الجبار الراشيدي، الباحث في الإعلام والاتصال، في لقاء مع «الشرق الأوسط» إن الصحافة الحزبية «لعبت بالفعل أدواراً طلائعية في تحرير الوطن والمواطن، وكانت المعبر الأمين عن الحركة الوطنية التحررية المغربية. كذلك ساهمت خلال مرحلة الاستقلال في توطيد الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان بالبلاد... رغم مختلف أشكال التضييق والمحاكمات التي تعرضت لها». إلا أنه يضيف أنها «تناضل اليوم من أجل البقاء في ظل المتغيرات المتسارعة المرتبطة بتكنولوجيا الإعلام والاتصال والتكيف مع متطلبات العصر الرقمي».
ويعتبر الراشيدي، وهو أيضاً مسؤول الإعلام وعضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال الذي يصدر صحيفتي «العَلَم» باللغة العربية (أسست عام 1946) و«لوبينيون» باللغة الفرنسية (عام 1964)، أن من بين مميزات الصحافة الحزبية «أنها ظلت عصيّة على التطويع أو الاختراق لما تمتلكه من حصانة سياسية وآيديولوجية، وهذا، في حين أصبحت سلطة المال و«لوبيات» الاقتصاد تلعب اليوم دوراً متصاعداً في صناعة الإعلام والرأي العام وامتلاك وسائل الإعلام. وهذا يشكل - في نظره - «خطراً على حرية الصحافة وعلى الديمقراطية بشكل عام».
ويستطرد الراشيدي ليشدد على أن الصحافة الحزبية بالمغرب «مطالبة بتطوير نفسها وإعادة صياغة علاقتها بالحزب، والانفتاح أكثر على مختلف الحساسيات السياسية والثقافية، وتعددية الرأي والتعبير، وبتبني خط تحريري ينقلها من نشرة حزبية إلى صحيفة مهنية منفتحة على مختلف تيارات المجتمع مع ضمان التعبير عن الخط السياسي للحزب في الحدود المعقولة... لكن بمهنية وحرفية عالية».
للعلم، إذا كانت الصحف الحزبية المغربية، كما هو شأن وسائل الإعلام الأخرى من صحافة مكتوبة خاصة وإلكترونية، تحظى بدعم مالي سنوي من الدولة مكنها على الأقل من المحافظة على الصدور، إلا أن هناك عاملاً آخر يساهم في استمرارية هذه الصحف. هذا العامل هو ما توفره الهيئات السياسية من تغطية مادية ومعنوية، بينما تشير المعطيات المتوفرة إلى تراجع في منسوب الإقبال على الصحف الحزبية من جمهور القراء الذي لا يعير بصفة عامة كثير الاهتمام للإعلام المكتوب، خلافاً لما كان عليه الشأن في السابق، قبل أن تغزو العولمة وبعدها الثورة الرقمية خلال الألفية الثالثة، فتأتي على الأخضر واليابس في عالم الصحافة والإعلام.
لقد فرض التطور التكنولوجي، على الصحف الحزبية المغربية إحداث نسخ إلكترونية إلى جانب صحافتها الورقية، بيد أن هذا لم يمنع استمرار الأزمة التي تعرفها الصحافة الحزبية، ومعها الورقية، والتي تعزى في جانب منها إلى عجز الخطاب الحزبي السائد عن الاستجابة لحاجيات الجمهور خاصة الشباب. ويضاف إلى ذلك المنافسة التي خلقتها في سنوات سابقة حيوية الصحف الخاصة وجرأتها في تناول المواضيع المطروحة، بينما ظلت نظيرتها الحزبية رهينة توجهات الهيئات السياسية المتحدثة بلسانها، مع معوقات أخرى موضوعية على رأسها تدنى نسب القراءة.
تجدر الإشارة إلى أن أبرز الصحف الحزبية في المغرب، فضلاً عن «العَلَم» و«لوبينون» و«بيان اليوم» و«البيان»، وصحف «الاتحاد الاشتراكي» و«ليبراسيون» (يصدرهما حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليساري المشارك في الحكومة) و«رسالة الأمة» (لسان الاتحاد الدستوري) و«الحركة» (التي تصدرها الحركة الشعبية) - وهما أيضاً حزبان مشاركان في الحكومة - و«المنعطف» (لسان حزب جبهة القوى الديمقراطي) بينما اهتدى حزب الأصالة والمعاصرة (معارضة برلمانية) أخيراً إلى تأسيس صحيفته واختار لها اسم «التراكتور» (أي الجرّار الزراعي) الذي هو أيضاً شعار الحزب.


مقالات ذات صلة

«طلاق» عمرو أديب ولميس الحديدي يخطف الاهتمام بمصر

يوميات الشرق خلال آخر ظهور للثنائي في خطوبة نجلهما (فيسبوك)

«طلاق» عمرو أديب ولميس الحديدي يخطف الاهتمام بمصر

تصدر خبر طلاق الإعلامي عمرو أديب والإعلامية لميس الحديدي «التريند» في مصر بعد وقت قصير من إعلان الخبر، وتأكيده عبر وسائل إعلام محلية.

أحمد عدلي (القاهرة )
أوروبا شعار هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) على مكتبها في لندن (أ.ف.ب)

«بي بي سي» ستطعن في دعوى ترمب القضائية بشأن مقاطع معدلة من خطابه

قالت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، اليوم (الثلاثاء)، إنها ستطعن في دعوى قضائية رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضدها بسبب مقاطع معدلة من خطاب له.

«الشرق الأوسط» (لندن )
أوروبا شعار هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) كما يظهر على مقرها الرئيسي في برلين (د.ب.أ)

روسيا تصنف «دويتشه فيله» الألمانية «منظمة غير مرغوب فيها»

أعلنت روسيا تصنيف هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) «منظمة غير مرغوب فيها».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
يوميات الشرق يتوّج مسار «التميز الإعلامي» المنتجات النوعية التي تُصاغ بروح إبداعية وفق أعلى المعايير المهنية (موقع المنتدى)

«الجائزة السعودية للإعلام» تطلق مسار «التميّز» للاحتفاء بالأعمال الوطنية

أطلقت «الجائزة السعودية للإعلام 2026» مسار «التميّز» المخصَّص للاحتفاء بالأعمال التي جسّدت الهوية الوطنية، وارتقت بالرسائل الاتصالية للمناسبات الكبرى في البلاد.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الرحيل حدث لكنَّ الحضور لم يغب يوماً (الشرق الأوسط)

«عشرون» جبران تويني الذي مضى في طريقه حتى النهاية

كان الاحتفاء بجبران تويني مواجهة متجدّدة مع معنى أن يصرّ أحدهم على قول «لا» في مرحلة انتشرت فيها الـ«نعم» الرخوة...

فاطمة عبد الله (بيروت)

هل تعيد التطورات الرقمية تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
TT

هل تعيد التطورات الرقمية تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)
التطورات الرقمية تثير معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل (رويترز)

بينما تتسارع التطورات الرقمية في عصر الذكاء الاصطناعي، وتلقي بظلالها على عملية إنتاج المحتوى الإعلامي، يبرز السؤال حول مدى تأثير ذلك على القواعد المهنية، وما إذا كان التحول الرقمي سيعيد تشكيل أخلاقيات الإعلام؟

وبينما اتفق خبراء على أن التحولات الرقمية ألقت بظلالها بالفعل على القواعد المهنية، شددوا على ضرورة إعادة هيكلة تلك الإرشادات لإعطائها قدراً من المرونة يمكّنها من التعاطي مع التطورات التكنولوجية المتسارعة.

دورية «كولومبيا جورناليزم ريفيو» التي تصدرها كلية الصحافة في جامعة كولومبيا بنيويورك، قالت في تقرير نشرته أخيراً، إن «الوقت يتغير وكذلك القواعد الأخلاقية»، مشيرة إلى أن «الصحافة تحتاج إلى أدلة استرشادية أخلاقية جديدة للتعاطي مع التحديات التكنولوجية المتسارعة»، حيث تثير التطورات الرقمية «معضلات أخلاقية لم تكن موجودة من قبل».

الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، أكد أن «التحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي يعيدان تشكيل أخلاقيات الإعلام بطرق عميقة». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «أخلاقيات الإعلام التقليدية مثل الدقة والإنصاف والمساءلة، صُمِّمت لبيئة إخبارية بطيئة تعتمد على العامل البشري، في حين أدخل التحول الرقمي ديناميكيات جديدة في ظل زيادة حدة التنافس الإعلامي في السعي وراء السبق والخبر العاجل، ما يجعل النشر السريع يفوق الدقة والتحقق».

وأشار إلى أن «ظهور (القبائل الرقمية) أو (غرف الصدى) بات نتيجة مباشرة لطبيعة استهداف المستخدم بناء على بياناته وتخصيص محتوى لفئات معينة دون غيرها، ما يضع تحديات أمام مبدأ خدمة المصلحة العامة». ويقول إن «التقنيات الرقمية باتت تحجب الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال ما يتطلب معايير أخلاقية مهنية جديدة»، موضحاً أنه «في ظل تحكم الخوارزميات في نشر المحتوى فإن المسؤولية الأخلاقية تمتد لتشمل شركات التكنولوجيا إلى جانب الصحافيين».

حقاً، كان الاعتقاد السائد أن «تغيّر الزمن لا يستدعي تغيّر الأخلاقيات، فقواعد الإعلام مثل الصدق والشفافية والاستقلال ثابتة مهما تغيّرت صناعة الإعلام». بحسب «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، لكنها تشير إلى «تغير هذا الاعتقاد السائد، فالقواعد الأخلاقية القديمة تتطلب إعادة تقييم لمواجهة المعضلات الرقمية الجديدة».

وفي رأي الصحافي اللبناني المدرّب في مجال التحقق من المعلومات، محمود غزيل، فإن «التطورات التي حدثت في الإعلام وتقنيات النشر تركت أثراً واسعاً على الرسالة الإعلامية وطرق استهلاكها، والأهداف التي ترنو إليها الجهات الإعلامية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «ما شهده العالم في الأعوام الثلاثة الأخيرة، منذ توسع مفهوم الذكاء الاصطناعي التوليدي مع الإطلاق الرسمي لمنصة (تشات جي بي تي) وانضمام العديد من حول العالم، ومن بينهم الصحافيون، إليها، واختبار مزايا الذكاء الاصطناعي التوليدي بمختلف أطيافه، جعلت العالم يقف للحظة لمراجعة قرارته وخطواته بما يتعلق بكيفية وشروط النشر».

وأضاف أنه «إلى جانب مشكلة توليد النصوص والمواد المكتوبة عن طريق الذكاء الاصطناعي، وما قد يعتريها من (هلوسة) معلومات ومصادر، هناك أيضاً تحديات أخلاقية مختلفة، من بينها استخدام الفيديوهات والصور المولدة بالذكاء الاصطناعي»، موضحاً أنه «إن كان بعض أهل الصحافة والإعلام يقعون في فخ عدم التمييز بين الحقيقي والمزور، فمن الطبيعي على القارئ والمتابع أن يرتكب الخطأ نفسه، ما يجعل هناك أزمة معرفة».

وأكد أنه «يتوجب على وسائل الإعلام التي تلجأ إلى التقنيات الحديثة من أجل توليد المشاهد البصرية بسياق رمزي أو أرشيفي، توضيح ذلك للقارئ». وقال إن «الشفافية يجب أن تكون موجودة، مع العودة لمبادئ الصحافة المطبوعة في وصف الصورة ومصدرها».

وأشار غزيل إلى أن المسؤولية النهائية تظل على كاهل الصحافيين المحترفين، فلا يُعدّ أي محتوى إخبارياً ما لم يخضع لتدقيق وتحرير بشري، أي أن الفكرة تبدأ بالصحافي وتنتهي معه».

نقطة أخرى تطرق لها الصحافي اللبناني في حديثه تتعلق بمبدأ «الخصوصية»، حيث أثّرت التطورات التكنولوجية على خصوصية البيانات و«أصبح الصحافي قادراً على جمع المعلومات عبر منصات التواصل دون الحصول على إذن صاحبها ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ضرر معنوي ونفسي قد لا تكون القوانين المحلية حالياً قادرة على معالجته»، وشدد على «ضرورة التزام الصحافيين بمواثيق الشرف والقواعد الأخلاقية مهما بلغت التطورات التكنولوجية».

وتثير مسألة خصوصية البيانات كثيراً من الجدل في ظل محاولات دول عدة وضع قواعد وقوانين لحماية بيانات المستخدمين، في وقت ترى فيه منصات التواصل الاجتماعي وشركات التكنولوجيا في ذلك «تقييداً لعملها».

وفي هذا الإطار، أكد نائب رئيس جامعة «شرق لندن» بالعاصمة البريطانية، الدكتور حسن عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»، أن «التطورات التكنولوجية الرقمية أعادت بالفعل تشكيل أخلاقيات الإعلام»، مشيراً إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، وتقنيات التزييف العميق وغيرها أدت إلى تسريع وتيرة إنتاج وتوزيع المعلومات، تزامناً مع طمس الحدود التقليدية بين الصحافيين والمنصات والجمهور».

وقال إن «التحولات الرقمية فاقمت التحديات الأخلاقية المرتبطة بالدقة، والخصوصية، والمساءلة، والتحيز، لا سيما ما يتعلق بانتشار (المعلومات المضللة) و(غرف الصدى)، والتلاعب بالرأي العام»، مشدداً على أن «هذه التطورات المتسارعة تتطلب إعادة صياغة لأخلاقيات الإعلام، حيث لم تعد الأطر التقليدية كافية في منظومة تهيمن عليها الخوارزميات وصنّاع المحتوى»، مشيراً إلى امتداد المسؤولية الأخلاقية إلى «شركات التكنولوجيا وعلماء البيانات ومصممي المنصات».

ويضرب نائب رئيس جامعة «شرق لندن» عدداً من الأمثلة على «عدم قدرة الأخلاقيات المهنية على التعاطي السريع مع التطورات التكنولوجية، من بينها انتشار المعلومات المضللة خلال حرب غزة التي لم تتمكن المنصات من احتوائها ومعالجتها بالسرعة الكافية، وقضية الإعلانات السياسية الموجهة وقدرتها على التلاعب وتوجيه الرأي العام معتمدة على بيانات المستخدمين».

وفي رأي عبد الله، فإنه «لمواكبة التطورات الرقمية، يجب أن تتطور أخلاقيات الإعلام في ثلاثة اتجاهات رئيسية»، الاتجاه الأول يتعلق بـ«دمج الأطر الأخلاقية في مبادئ حوكمة التكنولوجيا، ما يعني إلزام المنصات بالشفافية بشأن الخوارزميات واستخدام البيانات».

أما الاتجاه الثاني، بحسب عبد الله، فيتعلق بـ«تعزيز التعاون المتعدد التخصصات بين الصحافيين، وخبراء الأخلاق، والتقنيين، وصناع السياسات». وثالثاً، يقترح عبد الله «المراجعة الأخلاقية المستمرة داخل المؤسسات الإعلامية، ودمجها بقدر من التنظيم القانوني، والمعايير المهنية، ومبادرات محو الأمية الإعلامية للجمهور، بحيث تصبح القواعد الأخلاقية الجامدة مرنة بدرجة تسمح لها بالاستجابة للتطورات المتسارعة».

ختاماً، فإنه وفق «كولومبيا جورناليزم ريفيو»، فإن «القواعد المهنية الأساسية للإعلام لم تتغير، فالصحافة لا تزال تؤمن بضرورة خدمة المصلحة العامة بعدالة واستقلالية وشفافية ودقة، لكن طبيعة العمل في عالم سريع التطور يفرض معضلات أخلاقية، قد يساعد وضع قواعد مهنية جديدة في التعامل معها، وهي قواعد ستتغير مع الوقت».


تعويض «غوغل» لناشرين... هل يحد من أزمة تراجع الزيارات؟

شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
TT

تعويض «غوغل» لناشرين... هل يحد من أزمة تراجع الزيارات؟

شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)
شعار شركة «غوغل» في متجر «غوغل تشيلسي» بمدينة مانهاتن (رويترز)

أبرمت «غوغل» سلسلة من «الصفقات النقدية» مع مؤسسات نشر بارزة، وقالت إنها «تستهدف الدفع للناشرين مقابل حقوق العرض الموسّع وطرق إيصال المحتوى». ورأى خبراء أن هذه الخطوة «تختلف عن صفقات الذكاء الاصطناعي التي عقدتها شركات مثل (أوبن إيه آي) و(مايكروسوفت) مع ناشرين في وقت مبكر، لأنها لم تُقدم بوصفها اتفاقات لترخيص المحتوى، بل بعدّها امتداداً لشراكات تجارية قائمة بالفعل».

وأكدت «غوغل»، في بيان صحافي خلال ديسمبر (كانون الأول) الحالي، أن هذه «الصفقات تأتي ضمن برنامج تجريبي جديد لاستكشاف كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في جذب جمهور أكثر تفاعلاً».

في المقابل، يربط مراقبون هذه التحركات بمحاولة «تهدئة غضب الناشرين الذين يشكون من تراجع الزيارات (لمواقعهم)، خصوصاً مع تصاعد أزمة البحث دون نقر أو ما يُعرف باسم (الزيرو كليك)، الذي ترتب على إطلاق الملخصات المعززة بالذكاء الاصطناعي التي تقدم للمستخدم إجابات مباشرة دون الحاجة إلى زيارة الموقع الأصلي».

يقول المشرف على تحرير الإعلام الرقمي في قناة «الشرق للأخبار»، حاتم الشولي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الخطوة بشكل أساسي، هي شراكة تجارية مدفوعة، خاصة أنها عبارة عن تجربة مع كبار الناشرين مثل (الغارديان) و(واشنطن بوست) وغيرهما، وهذا دليل على أن التجربة مبنية على استهداف جمهور أكبر ومخصص، وفي حال نجاحها ستتحول تدريجياً بكل تأكيد لمشاركة الإيرادات، وقتها ستوضع قواعد جديدة قد تغيّر من شكل العملية السارية حالياً».

وتوقّع الشولي أن «نتائج هذه الصفقات ستظهر في مقالات مختارة ضمن (غوغل نيوز)»، كما أنها ستظهر من خلال «تحسّن في ظهور هذه المقالات من قبل أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي فعلياً بدأت في بعض المناطق والأسواق تظهر على شكل ملخصات، لكن هذا منفصل عن مسار التجربة القائمة حالياً؛ ولكنه الأساس الذي انطلقت منه التجربة».

وحول مدى جدوى خطوات «غوغل» التعويضية، قال الشولي، المشرف على تحرير الإعلام الرقمي، إنه «من المستحيل أن تقدم (غوغل) أي ضمان في معدل الخوارزميات، لكونها متغيّرة بشكل دائم ويستحيل أن تحافظ على ثباتها. وعليه، لا يكون هناك أي التزام من طرف (غوغل) بضمان هذه العملية». لكنه تابع أن من «المرجّح أن تتجه الشركة نحو الضمانات المالية والتعويضات المتوقعة بناء على نجاح التجربة، وهذا سيكمن في تفاصيل العقود المبرمة بين (غوغل) وصُنّاع الأخبار، وهو أمر نادراً ما يتم الإفصاح عنه».

من جانبها، ذكرت «غوغل» أنها ضمن هذا البرنامج التجريبي «تعمل مع الناشرين على اختبار مزايا جديدة داخل أخبار المنصة، من بينها ملخصات للمقالات مدعومة بالذكاء الاصطناعي تظهر على صفحات المنشورات المشاركة لتقديم سياق إضافي قبل النقر، إلى جانب موجزات صوتية لمن يفضلون الاستماع». وأكدت أن «هذه المزايا ستتضمن إسناداً واضحاً للمصدر وروابط مباشرة للمقالات».

وبينما عدّ بعضهم خطوة «غوغل» محاولة لـ«تعويض» الناشرين، رأى مدير «إدارة المحتوى الرقمي في سي إن إن الاقتصادية»، محمود تعلب، أن «النجاح الحقيقي في زيادة الزيارات يجب أن يقاس بمؤشرات أكثر من مجرد عدد الزوار». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أنه «يجب أن تكون هناك ضمانات على ارتفاع نسبة الزيارات التي تؤدي إلى مشاهدة الصفحة الكاملة بدلاً من الزيارات القصيرة. كما ينتظر الناشرون وجود إعلانات أو اشتراكات بدلاً من الزيارات السريعة، وكذلك وجود نسبة أعلى من الزيارات من نتائج البحث التقليدي، وليس فقط من الملخصات أو إجابات الذكاء الاصطناعي».

ورغم أن تعلب عدّ خطوة «غوغل» رسالة «حُسن نية»؛ لكنه قال إن لم تتبعها خطوات تنظيمية تضمن حقوق المالك الأصيل للمحتوى «فلن تحقق المستهدف الحقيقي». وشدد على أن الضمانات يجب أن تشمل «التزاماً بعدم تقليل الزيارات بشكل مفاجئ نتيجة تغييرات خوارزمية دون إشعار مسبق»، كما من «المنتظر أن تضم آلية تقييم شفافة تربط التعويضات بحصص الزيارات الفعلية، كذلك شرط تعديل الدفع وفقاً لأثر التغييرات التقنية على الزيارات والإحالات». وأضاف: «يجب أن تكون عقود الناشرين مرتبطة بالأداء الحقيقي، وليس بنتائج ظاهرية أو مزاعم تحسين قد لا تتحقق».

وعن التأثير المتوقع من هذه الصفقات، يرى تعلب أن «من المرجح أن يكون التأثير في عملية البحث أولاً، وثانياً في (غوغل نيوز)، لأن هذه الأماكن هي التي ترتبط مباشرة بسلوك البحث التقليدي، وإحالات الزوار إلى موقع الناشرين. أما (ديسكوفر) فتظل خوارزميات التخصيص فيها أقل اعتماداً على النصوص الملخصة، وتظهر بشكل أكبر المحتوى الذي يتناسب مع اهتمامات المستخدم، لكن لا يمكن الاعتماد عليها بوصفها قناة رئيسية لتعويض الانخفاض».

وبحسب محمود تعلب، مدير «إدارة المحتوى الرقمي»، فإن «الخطوة التي تعلن عنها (غوغل) الآن ليست حلاً، بل تجربة أولى باتجاه توزيع القيمة وعلاقات الشراكة»، موضحاً أن «نجاحها يعتمد على مدى التزام (غوغل) بالتوزيع العادل للزيارات، وإدراج ضمانات أداء حقيقية في العقود، وإعادة التوازن بين التكنولوجيا ومصالح الناشرين الذين ينتجون المحتوى الذي تعتمد عليه تلك التكنولوجيا نفسها لتحقيق أرباحها».


«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.