«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

«الخطأ الذهبي» لأمجد توفيق نموذجاً

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص
TT

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

«الإقفال» وأثره في إيقاعية القصص

قد لا يتحير كاتب القصة وهو يضع يده على لحظة حياتية هي حكاية يمكن أن يجسدها في قالب القصة القصيرة. وقد يبدأ بسلاسة ويستمر بالسلاسة نفسها لكن الحيرة تلجم قلمه حين يريد أن يقفل قصته بنهاية دينامية فيها قوة وتماسك لا يخلوان من لطافة وطرافة ومن دون أدنى افتعال أو تقليد يجعل الاختتام مخيباً أُفُق توقع القارئ وبما يحقق الإدهاش والانجذاب.
وليس بلوغ الإقفال المناسب سوى وثبة يغامر القاص في ممارستها؛ فإمّا أن ينجح فيها وإمّا لا، وذلك تبعاً لفاعلية هذا الوثوب، فقد تكون وثبته في الإقفال منطقية على الصعيد الإدراكي ولكنها لا تحقق وظيفتها الجمالية على الصعيد الإبداعي كأن تبدو سهلة أو معقدة أو تصادمية أو متكلفة أو احتشادية، فتغدو أكثر مقاومة لحالات التكثيف وشديدة غير مرنة.
وقد لا تسرنا نهاية قصة معينة لكن ذلك لا يعني أنها قصة سيئة، لا لأننا لا نملك تجربة كافية في أنواع الإقفال وطبيعته الفنية، وإنما هي إمكانية القاص في أن يجعلنا نستوعب المغزى القصصي ملمّين ببعض دلالته وبالمقدار الذي يتوقعه القاص منا كقراء.
وقد يسرنا أن القاص ترك قصته مفتوحة بلا نهاية لكنّ ذلك لا يعني أنها بلا إقفال، لسبب بسيط هو أن خطوات كتابة القصة القصيرة ثلاث تتشكل بصورة تراتبية. وهذه الخطوات هي: الدخول ثم التمرير ومن بعدهما خطوة الإقفال التي بها يتمكن السارد من الخروج من حبكة القصة وقد أدى دوره الوظيفي في إتمام بناء النسيج القصصي وإكماله. ولعل سائلاً يسأل: أي خطوة من الخطوات الثلاث هي الأكثر أهمية؟
إن الخطوات الثلاث ضرورية ولا مجال للتفضيل فيما بينها كوظيفة أو التفريط فيها لغاية ما. وإذا خصصنا الكلام بخطوة الإقفال فسنجد أن وظيفته فنية.
وعلى الرغم مما للإقفال من فاعلية حتى لا وجود لقصة من دونه، فإنه قلما يُلتفت إلى أهميته ومن ثم يكون الوقوع في خطأ الوثوب محتمَلاً، كأن يكون قصياً فيشتت الدخول والتمرير، وقد يكون الوثوب قريباً وضيقاً لا نكاد نميزه عن التمرير أو يبدو الإقفال في أحايين معينة كأنه هو الدخول.
ومن النقاد الذين اهتموا بالإقفال سوزان لوهافر التي قسمت الإقفال إلى أنواع، منها الإقفال البدني ويتحقق بمجرد قلب صفحة أو بمتابعة الوقوف عند مقاطع غير متوقعة أو الوصول إلى النهابة بعد الوقوف عند كلمة أو العودة من جديد لربط التعبير. ومنها الإقفال الإدراكي ويكون إما فورياً بإدراك المعنى السطحي للكلمات وإما مؤجلاً ويتحقق بالوصول إلى فهم الأهمية الكلية لمجموع مقاطع القصة.
ومن أجل بلوغ الإقفال السردي المناسب أكدت لوهافر أهمية مصطلحي الشدة والكثافة اللذين يُتأكد بهما توفر القوة الدافعة نحو الإقفال ومن دونهما تستعصي الجملة القصصية على الإقفال وتكون ذات سطوة وهي تؤدي دورها في التمرير لتكون بمثابة قوة كابحة تضاد الإقفال وتمنعه.
ومن المعتاد أن يؤدي إتقان التكثيف والشدة في الاختزال إلى جعل كل جملة قصصية ذات وظيفة سردية تدفع بالأحداث نحو الإقفال من قبيل انسيابيتها الدلالية وما فيها من تسوية زمكانية، ومن ثم يتم الإقفال وبلا إسفاف ولا اعتباط ولا مقاومة تحول دون الإحساس بوجود نهاية تأتي متوازية ومتسلسلة من لحظة الدخول فلحظة التمرير وانتهاءً بلحظة الإقفال.
وليس للقاص مثل التكثيف تقانة تمكّنه من تفادي الجمل القصصية الاستطرادية وغير الضرورية التي تضاد الإقفال سواء تلك التي تتعلق بالأحداث أو بالشخصية أو بالبنية الوصفية أو بالزمكانية. وبهذا يتمكن القاص من معادلة الجمل القصصية فتغدو القصة القصيرة مكتملة بحبكة تنفرج بمفارقة أو من دون مفارقة وإنما هي القصة التي يميز كاتبها بين الإقفال كخطوة كتابية والاكتمال كلحظة قرائية.
ولأن للجملة القصصية أهميتها التي تجعل منها فاعلاً سردياً يصبح الإقفال مرهوناً بها. فإذا كانت مكثفة في المتن ومتناسلة على مستوى العنوان فإن ذلك يصب في باب حسن إقفالها، ولكن ماذا عن فاعلية الجملة القصصية التي تتكثف على مستويي العنونة والبناء السردي؟
إن ذلك يتوقف على مهارة القاص، ولا أقول السارد، لأن للمسألة صلة بانتقاء اللحظة الواقعية الصالحة للتجسيد كقصة قصيرة وبصور مختلفة، فتوصف مثلاً بأنها واقعية أو فكرية أو رمزية أو نسوية... إلخ.
وهو ما نجده في المجموعة القصصية «الخطأ الذهبي» للكاتب أمجد توفيق والصادرة في بغداد مطلع هذا العام، وهي تضم صنفين من القصص:
القسم الأول: تكنيكية لها صلة بما نمثل عليه وفيها يلعب التضاد ما بين تكثيف المتن وتوسيع العنوان دوراً في جعل السرد منساباً.
القسم الثاني: نمطية، لا جديد في بنائها، وفيه ينحاز السارد للفعل التجريدي على حساب الفعل الدرامي فيضيع التشخيص والتجسيد في خضم التفلسف والتنظير.
ونقف عند القسم الأول لنجد أن هناك طرائق، بها يمكن اختيار الإقفال المناسب للقصة على وفق الخطوات الثلاث، منها طريقة بناء العنوان بدينامية تجعله متوسعاً وغير مختزل لتتناسل عنه بطريقة دورية عناوين أخرى يتم افتراعها بالشطر، بينما تظل الكثافة والشدة متحققتين على مستوى المتون القصصية القصيرة كما في العنوان «الإجابة تقتل السؤال، الجسد يقتل الرصاصة» التي سيتوسع بناء عنوانها منشطراً في عناوين ست قصص قصيرة، هي على التوالي: «شهادة ضاحكة - حرقة السؤال - الورقة الأولى سكرة العذراء - الورقة الثانية إعادة درس - الورقة الثالثة انتحار شجرة غار - وهم»، وبسبب التوسعة العنوانية والكثافة السردية صار الدخول موصولاً بالتمرير ومنتهياً بصدمة دلالية حققت الوثوب بالقصة نحو الإقفال «إن قدرة الرصاصة تضم ما لا نهاية من الخطوط المتعامدة أو الأفقية أو المائلة مما يعني أن قدرة الجسد على المراوغة أو النجاة تكاد تكون معدومة، هل نضيف زخم الانفجارات ونافورات الشظايا القاتلة؟» ص16.
ومن طرائق الإقفال أيضاً استعمال تقانة التوالي كما في قصة «الفال السيئ» التي ضمّت إحدى عشرة قصة قصيرة جداً في شكل متوالية سردية، مكّنت السارد من الانتقال بانسيابية من خطوة الدخول إلى خطوة التمرير بالغاً الإقفال المناسب لقصته وقد هضمت في قالبها شكل القصة القصيرة جداً صاهرة حدودها وعابرة عليه لتكون القصة القصيرة جنساً سردياً عابراً شأنها شأن الرواية، بينما لم تتمكن القصة القصيرة جداً من أن تثبت تشكّلها جنساً قائماً بذاته.
أما القسم الثاني من مجموعة «الخطأ الذهبي» والموصوفة بأنها نمطية، فإن الاهتمام السردي بالفكر جعل قصص «المعرض - موعد مع حيوان حر - أخطاء الموسيقى - خطأ مزمن – السؤال - سعادة يومية - المسبحة السوداء» أقرب إلى التفلسف منها إلى التسريد.
والسبب عدم وجود تعادلية بين العناصر السردية، لذا هيمن الفكر فتقزمت العناصر الأخرى أمامه، متخذةً شكل مقالات وتذكارات ومشاهدات يتم التعبير عنها بشكل غير مباشر أو تُغلَّف أحياناً ببعض التلغيز والغموض. ومن حسن الحظ أن القصة القصيرة جنس عابر هضم في قالبه الأشكال الإبداعية أعلاه، الأمر الذي أسهم في تلافي أخطاء كتابية قد لا تُتلافى في أجناس أخرى.
وبالانشطار وغياب التوالي في العناوين وزحف الفكر على العاطفة، تنازل السارد عن وظيفته البنائية ولم يعد مهتماً بالإقفال «لا أحب النهايات وبخاصة التي يتم تصميمها... بعد أن اكتشفت أنني غير مؤهَّل لوضع نهاية لشيء لم أكن أنا من اختار بدايته» ص81 – 82.
لقد صار السارد منشغلاً بوظيفة فكرية هي التعبير عن موقف ديستوبي من الحياة ليكون الموت هو الحياة... مع محاولة تبرير هذا الموقف أيضاً. وهو ما صبغ قصص هذا القسم بصبغة سوداوية لا تخلو من العنف بعكس قصص القسم الأول التي اتخذ فيها السارد موقفاً يوتوبياً، فيه النهاية لا تعني الموت.
ومن نتائج هذا الإصرار على جعل «العنف» مهيمنة أسلوبية أن غدت القصص نمطية لا أهمية فيها لفاعلية الإقفال الذي لم يعد متاحاً كالسابق. ومثلما أن لكل جواد كبوة ولكل سيف نبوة، فإن لكل قاصٍّ خطأ هو ذهبيّ وذلك حين يضحّي بالبناء في سبيل الموقف لتكون «غلطة الشاطر بألف» كما يقال.
وعلى الرغم من محاولة القاص التركيز على المتضادات (الموت - القتل، مجرم - شهيد، سؤال - إجابة، شجرة - صخرة، إنسان - حيوان) مع توظيف التساؤلات رغبةً في التعبير عن موقفه الديستوبي من «الموت» فإن هذا التعبير كان من الوضوح إلى درجة إنه تجلى متضاداً، فصار الحب هو الموت، وغدا التفكير هو التآمر والانتحار هو الشهادة.
وفي القصص الأخيرة من المجموعة صارت تبريرية السارد مكشوفة وعلنية، نظراً لعنايته بالموقف المضموني، فلم يعطِ الإقفال أهمية تجعله مؤثراً في إيقاعية القصة شدةً وكثافةً وزمكانيةً.



تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
TT

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

وقّعت هذه المرأة الأميركية التي تعيش وتعمل في العاصمة الألمانية، عقداً مع شركة «توموروو بايوستيتس» الناشئة المتخصصة في حفظ الموتى في درجات حرارة منخفضة جداً لإعادة إحيائهم في حال توصّل التقدم العلمي إلى ذلك يوماً ما.

وعندما تتوفى زيغلر، سيضع فريق من الأطباء جثتها في حوض من النيتروجين السائل عند حرارة 196 درجة مئوية تحت الصفر، ثم ينقلون الكبسولة إلى مركز في سويسرا.

وتقول زيغلر، وهي مديرة لقسم المنتجات في إحدى شركات التكنولوجيا في كاليفورنيا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «بشكل عام، أحب الحياة ولدي فضول لمعرفة كيف سيبدو عالمنا في المستقبل».

ولم يعد علم حفظ الجسم بالتبريد الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، مقتصراً على أصحاب الملايين أو الخيال العلمي كما ظهر في فيلم «ذي إمباير سترايكس باك» الذي تم فيه تجميد هان سولو، وفيلم «هايبرنيتس» حين يعود رجل تحرر من الجليد القطبي، إلى الحياة.

توفّر شركات في الولايات المتحدة هذه الخدمة أصلاً، ويُقدّر عدد الأشخاص الذي وُضعت جثثهم في التبريد الأبدي بـ500 فرد.

50 يورو شهرياً

تأسست «توموروو بايوستيتس» عام 2020 في برلين، وهي الشركة الأولى من نوعها في أوروبا.

وفي حديث إلى «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول إميل كيندزورا، أحد مؤسسي الشركة، إن أحد أهدافها «هو خفض التكاليف حتى يصبح تبريد الجثة في متناول الجميع».

إميل كيندزورا أحد مؤسسي «توموروو بايوستيتس» يقف داخل إحدى سيارات الإسعاف التابعة للشركة خارج مقرها في برلين (أ.ف.ب)

ولقاء مبلغ شهري قدره 50 يورو (نحو 52.70 دولار) تتقاضاه من زبائنها طيلة حياتهم، تتعهد الشركة الناشئة بتجميد جثثهم بعد وفاتهم.

يضاف إلى الـ50 يورو مبلغ مقطوع قدره 200 ألف يورو (نحو 211 ألف دولار) يُدفع بعد الوفاة - 75 ألف يورو (نحو 79 ألف دولار) لقاء تجميد الدماغ وحده - ويمكن أن يغطيه نظام تأمين على الحياة.

ويقول كيندزورا (38 سنة) المتحدر من مدينة دارمشتات في غرب ألمانيا، إنه درس الطب وتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسرطان، قبل أن يتخلى عن هذا الاختصاص بسبب التقدم البطيء في المجال.

وتشير «توموروو بايوستيتس» إلى أنّ نحو 700 زبون متعاقد معها. وتقول إنها نفذت عمليات تبريد لأربعة أشخاص بحلول نهاية عام 2023.

ويلفت كيندزورا إلى أنّ غالبية زبائنه يتراوح عمرهم بين 30 و40 سنة، ويعملون في قطاع التكنولوجيا، والذكور أكثر من الإناث.

عندما يموت أحد الزبائن، تتعهد «توموروو بايوستيتس» بإرسال سيارة إسعاف مجهزة خصيصاً لتبريد المتوفى باستخدام الثلج والماء. يتم بعد ذلك حقن الجسم بمادة «حفظ بالتبريد» ونقله إلى المنشأة المخصصة في سويسرا.

دماغ أرنب

في عام 2016، نجح فريق من العلماء في حفظ دماغ أرنب بحال مثالية بفضل عملية تبريد. وفي مايو (أيار) من هذا العام، استخدم باحثون صينيون من جامعة فودان تقنية جديدة لتجميد أنسجة المخ البشري، تبين أنها تعمل بكامل طاقتها بعد 18 شهراً من التخزين المبرد.

لكنّ هولغر رينش، الباحث في معهد «آي إل كاي» في دريسدن (شرق ألمانيا)، يرى أنّ الآمال في إعادة شخص متجمد إلى الحياة في المستقبل القريب ضئيلة جداً.

ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نشكّ في ذلك. أنصح شخصياً بعدم اللجوء إلى مثل هذا الإجراء».

ويتابع: «في الممارسة الطبية، إنّ الحدّ الأقصى لبنية الأنسجة التي يمكن حفظها بالتبريد هو بحجم وسمك ظفر الإبهام، والوضع لم يتغير منذ سبعينات القرن العشرين».

ويقرّ كيندزورا بعدم وجود ضمانات، ويقول: «لا نعرف ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا. أعتقد أن هناك فرصة جيدة، لكن هل أنا متأكد؟ قطعاً لا».

بغض النظر عما يمكن أن يحدث في المستقبل، تقول زيغلر إنها متأكدة من أنها لن تندم على قرارها. وتضيف: «قد يبدو الأمر غريباً، لكن من ناحية أخرى، البديل هو أن يضعوك داخل تابوت وتأكلك الديدان».