عندما كان وباء الكوليرا يفتك بالعاصمة البريطانية لندن في عام 1845، طلب الطبيب جون سنو من سلطات المدينة إغلاق البئر التي كانت تمد غالبية السكان بمياه الشرب، بعد أن تبين وجود علاقة مباشرة بين المياه الملوثة وانتشار الوباء. منذ ذلك التاريخ، تغيرت مقاربة العلوم الطبية للأوبئة وأصبحت مراقبة جودة المياه ونظافتها من التدابير الأساسية للوقاية منها.
وبعد أكثر من عام على ظهور جائحة «كوفيد - 19»، وعشرات الندوات والبحوث العلمية، أقرت منظمة الصحة العالمية بدور الرذاذ الذي يحمل فيروس كورونا المستجد داخل الأماكن المغلقة في سريان الوباء عن طريق التنشق. وبعد أيام من الإعلان الرسمي الذي صدر عن منظمة الصحة مطلع هذا الشهر، أقرت المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض بأن نسبة عالية من الإصابات بـ«كوفيد - 19» تحصل عبر الهواء عن طريق تنشق هذا الرذاذ الذي ينفسه المصابون عند الكلام أو السعال.
وفي دراسة مفصلة تنشرها مجلة «Science»، في عددها الذي يصدر غداً الاثنين، وتستند إلى الاستنتاجات التي أقرتها منظمة الصحة والمركز الأميركي، تدعو مجموعة من العلماء إلى وضع معايير دولية لمراقبة جودة الهواء في الأماكن المغلقة، وتكليف الأجهزة الصحية السهر على الامتثال لها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة كانت قد حذرت في بداية الجائحة من مخاطر الرذاذ في نقل الفيروس، لكن منظمة الصحة ترددت طويلاً في الاعتراف باستنتاجات البحوث التي كانت تجرى في العديد من الجامعات والمراكز حول هذا الموضوع.
وتدعو الدراسة التي تحمل تواقيع 39 باحثاً في العلوم الوبائية والصحة العامة، إلى تشديد تدابير المراقبة والوقاية منعاً لظهور وتفشي أوبئة وأمراض جديدة في المستقبل وانتشارها عبر الهواء. وتقول المشرفة على هذه الدراسة، خبيرة فيزياء الرذاذ ومديرة المختبر الدولي لمراقبة جودة الهواء ليديا موراواسكا، «في القرن الحادي والعشرين، نحتاج إلى قواعد واضحة تضمن نظافة الهواء في المباني وخلوه من الجراثيم والفيروسات ومسببات الأمراض، على غرار القواعد المعتمدة منذ عقود لمراقبة جودة مياه الشرب».
وتضيف موراواسكا، وهي كبيرة المحاضرين في جامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا: «لعبت جائحة (كوفيد - 19) دوراً حاسماً في تسريع البحوث حول آليات سريان الإصابات والالتهابات التنفسية، وبات من الضروري اليوم الاتجاه نحو تغيير جذري في مقاربتنا لانتشار هذه الإصابات، وحماية مجتمعاتنا من معاناة غير ضرورية وخسائر اقتصادية فادحة. وعلى السلطات المعنية أن تتحرك بسرعة انطلاقاً من أن الهواء، على غرار المياه أو الأطعمة، هو ناقل أيضاً للأمراض والإصابات التنفسية».
ويقول مايكل هوارد، أستاذ العلوم الوبائية في جامعة هارفارد، «من الإيجابيات القليلة جداً لهذه الجائحة، أنها ساعدت على التعمق في فهم مسارات انتشار الأمراض التنفسية الناجمة عن الفيروسات. في الماضي، كان الخبراء يرفضون فكرة انتشار معظم الفيروسات عبر الهواء، لكن القرائن العلمية المتراكمة بنتيجة البحوث التي أجريت منذ بداية الجائحة، أبطلت موجبات التشكيك وأسباب التردد التي انهارت بالكامل مؤخراً عندما أعلنت منظمة الصحة اعترافها رسمياً بهذه النظرية. والمطلوب الآن هو أن تبادر السلطات السياسية والصحية إلى وضع الأطر والقواعد اللازمة لتكون مجتمعاتنا جاهزة من أجل مكافحة جميع أنواع الفيروسات التنفسية التي يرجح أن تكون هي المسبب الرئيسي للجائحات في المستقبل».
وما يزيد من أهمية هذا الاعتراف الرسمي بسريان الفيروس في الهواء عبر الرذاذ، هي نتائج الدراسات الأخيرة التي بينت أن 0.1 في المائة فقط من الإصابات بـ«كوفيد - 19» حصلت خارج الأماكن المغلقة. ويذكر أن منظمة الصحة تأخرت بتوصية استخدام الكمامات الواقية داخل الأماكن المغلقة حتى نهاية العام الفائت، وذلك رغم وجود أدلة كثيرة على حالات سريان كثيفة داخل المباني من غير تهوية كافية.
وفيما تقول أستاذة الهندسة البيئية في جامعة كولورادو، شيلي ميلير، التي شاركت في إعداد الدراسة، إن «الهواء يحمل الفيروسات وينقلها مثل المياه، وأن الهواء في المباني ليس ملكاً خاصاً، بل هو ملك عمومي، ويجب التعامل معه على هذا الأساس»، تشدد موراواسكا على أن القرائن العلمية الدامغة على سرعة سريان الإصابات التنفسية عبر الهواء تستدعي التحرك في أقرب الآجال لوضع معايير دولية للتهوية داخل المباني، وبالأخص الأماكن العامة، منعاً لانتشار الجراثيم والفيروسات والمسببات المرضية». لكنها تضيف أن ذلك لا يعني فرض المعايير المعتمد في المستشفيات على المباني والأماكن العامة المغلقة، بل يكفي أن تكون هذه مصممة ومشغلة بطريقة تحد من مخاطر انتشار المسببات المرضية.
دعوة علمية لمراقبة جودة الهواء تحاشياً لجائحات جديدة
باحثون قدموا توصيات تضمن نظافة الهواء في المباني
دعوة علمية لمراقبة جودة الهواء تحاشياً لجائحات جديدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة