من التاريخ: ماركو بولو

يعد «ماركو بولو» أحد أهم المستكشفين والتجار الذين أوردهم التاريخ خلال القرن الثالث عشر الميلادي، فهو الشخص الذي ارتبط اسمه بما عرف فيما بعد «بطريق الحرير والتوابل THE ROAD OF SILK AND SPICES»، وذلك على الرغم من أنه لم يكن أول الأوروبيين الذين اكتشفوا الصين ومناطق آسيا، ولكن قيمته الحقيقية في أنه أول من دون في كتابه الشهير «رحلات ماركو بولو» الكثير مما رآه خلال رحلته المختلفة والممتدة عبر قرابة 24 عاما قضاها في الصين وشرق آسيا، وهو بذلك أول من وضع وصفا دقيقا لما هو الشرق بكل عظمته وفكره وثقافته، ولكن لعل أهم ما ساهم به «ماركو بولو» يكمن في أنه مهد الطريق بشكل موثق أمام حركة التجارة الأوروبية مع الشرق وفتح المجال أمام المهتمين بهذا النشاط داخل الدول الأوروبية، وهو ما ساهم بدوره في تنشيط حركة التجارة والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب بشكل لم يكن متاحا من قبل.
لقد ولد «ماركو بولو» في مدينة فينيسا الإيطالية لأسرة تجارية شهيرة، وتلقى تعليمه الأساسي هناك على أيدي أسرته لا سيما وأن والده وعمه كانا في رحلة ممتدة إلى الصين حيث التقيا هناك بالحاكم الصيني الشهير «كوبلاي خان»، وهو حفيد القائد المغولي الشهير «جنكيز خان»، وقد أسس هذا الملك الحكم لأسرة «اليوان» وكان له دوره الكبير في إعادة ازدهار الصين مرة أخرى وكل جوانب الحياة فيها، وقد التقى التاجران بالملك العظيم وعادا إلى فينسيا بعد رحلة تخطت العام، وكان لهما دورهما الكبير في العمل على إتمام رحلة ثانية للصين للتجارة معها، وهي الرحلة التي تمت بمشاركة من الشاب «ماركو بولو» معهما، وهي الرحلة التي دامت قرابة 24 عاماً، فذهب الشاب وهو في سن مبكرة وعاد وهو يناهز الأربعين، وقد كان شرط الملك «كوبلاي خان» لاستقبال الوفد الفينيسي أن يحضروا معهم مجموعة من القساوسة للتعريف بالديانة المسيحية وزيوتا مباركة من كنيسة الميلاد في القدس، وبالفعل قامت عائلة «بولو» بتصفية أعمالها واستثمرت فيما زادت قيمته وقل وزنه من أجل إتمام الرحلة بلا معوقات، خاصة وأنها كانت ستأخذهم عبر أراضٍ ممتدة إلى مضيق هرمز ومنها كان من المقرر أن يستقلوا السفن إلى الصين، تفاديا للعبور في الصحاري والأودية الخطيرة عبر آسيا إلى الصين.
وقد بدأت الرحلة الشهيرة من القدس إلى شمال فارس وهنا أورد «ماركو بولو» في كتابه ما سمع عنه حول قلاع «الحشاشين» وهو أول من دون عنهم في الكتب اللاتينية، ومن اللاتينية اشتق لفظ القتلة الذين يقومون بالاغتيالات أو «ASSASSIN» نسبة إلى «الحشاشين»، ومن شمال فارس إلى جنوبها شرح «ماركو بولو» ما رآه من العجائب والآثار والقبائل والمسائل الأخرى، وعند وصوله إلى ميناء هرمز اكتشفت الأسرة أن السفن لا يمكن لها إتمام الرحلة لضعف بنيانها، بالتالي تم الاتفاق على أن تقدم الأسرة على السفر عبر الطريق البري إلى الصين، وبالفعل قطعت الأسرة الطريق في 3 سنوات طويلة وهو ما كان له أكبر الأثر على الشاب «ماركو بولو» خاصة عند وضع كتابه الشهير، وقد تعرضت القافلة لكثير من المشكلات والمخاطر في المناطق الممتدة التي عبرتها إلى أن وصلت إلى الصين في مدينة «زانادو»، حيث التقى «ماركو بولو» بالملك كوبلاي خان، وقد تضمن كتاب «ماركو بولو» الكثير من القصص المشوقة حول هذا الرجل وقصره وما حوله والتقدم الكبير الذي ما كان ليخطر على بال أي أوروبي في ذلك الوقت، فلقد كانت الصين بالفعل دولة عظيمة لها أبعادها المختلفة.
منذ اللقاء الأول، وجه الملك «كوبلي خان» اهتماما خاصا بالشاب «ماركو بولو» وبدأ يستفيد من وجوده وأسرته في ضيافته، فلقد كان له دوره الهام في التعريف بالغرب، وعكف على ترجمة بعض الكتب من اللاتينية إلى الصينية والعكس فقد كان الرجل مهتما بالتعرف على ثقافة الغرب وكيف يمكن أن يستفيد منها، وقد قرب الملك «ماركو بولو» إليه إلى الحد الذي بدأ يستخدمه في مهام خاصة للغاية، فلقد أصبح بعد سنوات قليلة مبعوثا خاصا له يحمل رسائله للغير، وهو ما جعل له مكانة خاصة لدى البلاط الملكي، خصوصا وأن بعض هذه الرسائل كانت تتضمن الكثير من أسرار الدولة، وقد كانت للرجل قدرة كبيرة للغاية على تثبيت مكانته في الصين، وسرعان ما أصبح من المقربين للملك وبدأ يستكشف بلاد الصين تحت حماية الملك، وقد وصف «ماركو بولو» في كتابه الكثير مما شاهده في هذه البلاد، بدءاً من البارود إلى أساليب التراسل والعلوم المختلفة التي كانت الصين متفوقة فيها قبيل أن يعرفها الغرب، كما أنه اهتم كثيرا بوصف الحدائق والقصور والمدن المختلفة وطريقة الحياة الصينية والتي كانت تختلف كثيرا عن الغرب.
وقد بقي «ماركو بولو» في الصين قرابة 17 عاما متصلة في خدمة ملك الصين، وقد حاول العودة لبلاده مرارا، ولكن الملك أصر على بقائه إلى أن وافق أخيرا بعدما كلف الرحالة الإيطالي بمهمة أخيرة وهي توصيل إحدى الأميرات والتي تقرر أن تتزوج من أحد أمراء الهند، وقد خصص ملك الصين الكثير من السفن لهذه المهمة، وغادر «ماركو بولو» الصين في رحلة أخرى لا تقل خطورة عن الرحلة التي جاءت به وذلك على الرغم من أنها لم تكن بالبر، فلقد تعرضت السفن الخاصة بهم لكثير من العواصف والأمراض، وعلى الرغم من أنه سلم الأميرة لزوجها، إلا أن الوقت الذي استغرقته الرحلة إلى أن وصل إلى فينسيا كان طويلا للغاية، ولسوء حظ هذا الرجل، فلقد كانت مدينته «فينيسيا» في حرب ضروس مع غريمتها «جنوا»، وهو ما أدى إلى أسر «ماركو بولو» هناك، حيث بقي هناك ما يقرب من عام كامل، ولولا هذا السجن لما عرفنا اليوم بكل قصص هذا الرحالة، ففي هذا السجن قام أحد السجناء في زنزانته بكتابة هذا الكتاب بعدما استمع إلى قصصه، ومن خلال هذا الرجل عرف العالم عن هذا الرحالة والشرق والصين وسحر هذه المناطق، وقد أصبح هذا الكتاب على الرغم من عدم اختراع آلات الطباعة حتى ذلك التاريخ، أحد أهم الكتب التي انتشرت بقوة في فينيسيا ومن بعدها لسائر المدن الإيطالية ثم العالم كله.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن «ماركو بولو» لم يقدم على رحلة أخرى، بل إنه استقر في مسقط رأسه لمدة 25 عاما، وأصبح شخصية معروفة ولها قيمتها سواء كأحد التجار أو كشخصية عامة، وقد أنجب الرجل 3 من البنات بعد زواجه، ولكنه مرض ومات في عام 1324 عن عمر يناهز السابعة والستين عاما، ولكن ليس قبل أن يترك للعالم وثائق هامة للغاية حول الشرق ساهمت في فتح جسور العلاقات بين الغرب والشرق، فقد استطاع «ماركو بولو» أن يعطي لأوروبا الكثير من العلم والآلات الصينية على رأسها آلات الملاحة مثل البوصلة المحدثة والتي برع الصينيون في صناعتها، فضلا عن البارود وغيرها من المواد التي لم تكن معروفة لأوروبا، فلقد وضع الرجل بكتابه وقصصه بداية الطريق إلى الشرق، كما أنه رسم شخصية الشرق في الخيال الأوروبي وهو ما كان له أكبر الأثر فيما بعد لتطوير العلاقات معه.