فعلت الحكومات الإسرائيلية كل ما في وسعها منذ اتفاق أوسلو للقضاء على حل الدولتين. نهج «الإبادة السياسية» -بحسب المصطلح الذي نحته عالم السياسة باروخ كيمرلينغ- نجح في تدمير البنى السياسية والاجتماعية الفلسطينية التي كانت مرشحة للتحول إلى مؤسسات لدولة الاستقلال الفلسطيني. وبالتزامن مع هذا النجاح، كانت إسرائيل تغذي الخطى صوب يمين عنصري ديني.
ثمة من يشدد على أن الجولة الحالية من القتال بين إسرائيل والفلسطينيين تتميز عن جولات مشابهة وقعت في 2009 و2014 بأنها فجرت جملة من التناقضات في قلب الطرفين المتصارعين؛ الجبهات الثلاث التي فتحتها إسرائيل على نفسها في الضفة الغربية وغزة وداخل «الخط الأخضر» تطور يعكس صورة إسرائيل الحالية التي تعجز عن الحفاظ على حكومة عاملة بعد أربعة انتخابات تشريعية في غضون عامين، عقب تفتت قوى اليمين وانتشارها على طيف واسع لا يختلف في البرامج والسياسات الداخلية إلا بقدر إظهار الكراهية للفلسطينيين واحتقار حقوقهم وتصويرهم على أنهم جماعة لا تعرف سوى الإرهاب والعنف لغة للتخاطب.
تهافت الساحة السياسية الإسرائيلية ونهاية «معسكر السلام» الذي لم يعد يمثل شيئاً من الناحية العملية حشد الشارع الإسرائيلي بأسره في خانة اليمين الذي اقتنع بأقوال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن «غياب الشريك الفلسطيني»، وإمكان توسيع الاستيطان وضم أجزاء من الضفة الغربية، واعتماد «الحل الاقتصادي» للقضية الفلسطينية، من خلال إنشاء مجموعة من المعازل التي توفر للاقتصاد الإسرائيلي يداً عاملة رخيصة. واقتصرت الحياة السياسية الإسرائيلية على التنافس بين نتنياهو ونظراء له لا يختلفون عنه في الموقف من العالم ومن الفلسطينيين اختلافاً يُذكر.
الرفاه الاقتصادي الذي عاشته إسرائيل في التسعينيات، واستأنفته بعد هزيمة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مقابل غرق الجانب المقابل في انقساماته بين «فتح» و«حماس»، صور للسياسيين الإسرائيليين أن الواقع قابل للاستمرار إلى ما لا نهاية. فالحرص على حكم القلعة المحاصرة في غزة، وعلى امتيازات مسؤولي السلطة الوطنية في رام الله، كانا كافيين لتعميق الصراع بين الجانبين، وتحطيم كل أمل ببناء مشروع للتحرر من الاحتلال. بيد أن الحياة الوردية التي تصور الإسرائيليون أنهم يعيشونها بعد تفكيك الخطر الفلسطيني، وجعله يقتصر على تهديد أمني تستطيع «القبة الحديدية» وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التعامل معه، بل استغلاله في الحسابات السياسية الداخلية لأحزاب اليمين المتنافسة، انطوت على دينامية خفية كانت تعمل في ظل الإفراط الإسرائيلي في الثقة بالنفس.
والحال أن الاندفاع نحو الاستيطان والاستيلاء على الأراضي والبيوت الفلسطينية، بعد تأمين تأييد كلي من الولايات المتحدة، وانهيار الجبهة المؤيدة للحقوق الفلسطينية في أوروبا بسبب الانقسام الفصائلي وموضوع الإرهاب الذي فرق جمع مؤيدي النضال الفلسطيني، دفع الأمور إلى الارتطام بالقاع الصخري في حي الشيخ جراح، حيث بلغت السفاهة الإسرائيلية حداً غير قابل للاحتمال. فاكتشف الإسرائيليون أن جيلاً من الشباب المقدسي قرر أخذ الأمور على عاتقه، وعدم انتظار توجيهات الفصائل وسلطات غزة ورام الله.
جاء كل ذلك ليقول إن إسرائيل قد تكون محقة في إيمانها بموت حل الدولتين الذي تتمحور حوله كل قرارات الشرعية الدولية، ويشكل الهدف الأخير لكل العمل الفلسطيني منذ السبعينيات، إضافة إلى المبادرة العربية في 2002. لكنها من جهة ثانية غفلت عن أن القضاء على حل الدولتين ترك ثلاث جبهات مشتعلة في الضفة وغزة وأراضي الـ48 من دون أفق لمشروع تسوية وحل سياسيين، وسط أزمة سياسية معقدة، وصعود شخصيات تحمل برامج لا تقل انتهازية عن برامج أحزابها، على غرار منصور عباس زعيم «الحركة الإسلامية في الجنوب».
المفارقة أن الدعم الدولي الصريح الذي تحظى إسرائيل به هذه الأيام من جهات كانت أكثر توازناً في مقاربتها للقضية الفلسطينية، مثل فرنسا ودول أوروبية عدة، يتوافق مع المد اليميني الشعبوي الذي تخشى حكوماتها خسارة المنافسة أمامه، في ظل صعود الجماعات المتطرفة على غرار حزب الجبهة الوطنية الفرنسي. لكن الدعم هذا يتعارض مع مزاج شعبي آخذ في التبلور والظهور بين أوساط الشباب الأوروبيين الذين سئموا من انتهازية حكومات وأحزاب فشلت في كثير من الاستحقاقات، وآخرها مواجهة وباء كورونا. مظاهرات التأييد الحاشدة للفلسطينيين في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا تعلن أن الخطاب الغربي الذي يتبنى قتل الأطفال الفلسطينيين بذريعة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» في مواجهة إرهاب «حماس» قد فقد كثيراً من مصداقيته، وبات في حاجة إلى صيانة شاملة.
الفلسطينيون متروكون، على جاري العادة، لاجتراح تسوية مؤقتة توقف المذبحة الدائرة اليوم وسط موازين قوى شديدة الاختلال لغير مصلحتهم. لكن في المقابل، لا تستطيع إسرائيل التي تنهار جبهتها الداخلية، وتتعرض مدنها الرئيسة لصليات من الصواريخ من تنظيم مسلح لا يكاد يُرى على الخريطة العسكرية، أن تواصل حياتها بعد وقف إطلاق النار وكأن شيئاً لم يكن، على غرار ما فعلت بعد حربي 2009 و2014؛ ثمة ما تغير في هذا الصراع. وإذا كان حل الدولتين قد انتهى، فليس في المستقبل المنظور حل آخر غير سير الأمور في اتجاهات غامضة.
انتهى حل الدولتين... وكل حلٍ آخر (تحليل)
انتهى حل الدولتين... وكل حلٍ آخر (تحليل)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة