لبنان: الانهيارات تسابق التسويات

بعد فشل المبادرة الفرنسية

لبنان: الانهيارات تسابق التسويات
TT

لبنان: الانهيارات تسابق التسويات

لبنان: الانهيارات تسابق التسويات

يشبه لبنان اليوم قطاراً فقد مكابحه ويتجه بسرعة قصوى إلى اصطدام يهدد نظامه بعد انهيار قسم من مؤسساته وقطاعاته. إذ فشل اللبنانيون في التقاط حبل النجاة الأخير الذي ألقاه لهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) الماضي، والذي تمثل بما عرف بـ«المبادرة الفرنسية» القائمة على فكرة تشكيل حكومة اختصاصيين تسارع لإنجاز إصلاحات تسمح للبلاد بالحصول على مساعدات خارجية.
وعلى الرغم من التداعيات الكارثية للانهيار الاقتصادي المتمادي والضغوط الدولية، التي قادتها فرنسا تحديداً، أخفقت القوى السياسية بالاتفاق على تشكيل حكومة، وبالأخص، بعد تصاعد الخلاف بين المعنيين الأساسيين دستورياً بعملية التشكيل، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، وانقطاع التواصل بينهما منذ أشهر.
وسط الأزمة السياسية اللبنانية المستعصية لوّحت مصادر رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري أخيراً بورقة الاعتذار خلال الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان، الذي هدّد من بيروت بفرض عقوبات إضافية على المسؤولين اللبنانيين للحؤول دون «انتحار جماعي». ومعلوم أنه في محاولة لمضاعفة الضغوط على الطبقة السياسية، فرضت فرنسا الشهر الماضي قيوداً على دخول شخصيات لبنانية تعتبرها مسؤولة عن المراوحة السياسية والفساد. ولكن لم يجر حتى الآن الإفصاح عن هوية هؤلاء الشخصيات أو ماهيّة القيود.
- المبادرة الفرنسية انتهت
الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية ميشال دويهي يقول، إن «المبادرة الفرنسية» انتهت ولم يبق منها إلا الاسم منذ التعديلات التي بدأها الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه عليها»، وذلك «من خلال إشراك الطبقة السياسية الفاسدة بحل الأزمة، وانتقاله بعدها للاجتماع والتفاهم مع السياسيين، لا سيما عبر الاجتماعات الأولى في قصر الصنوبر (مقر السفارة الفرنسية في بيروت)». ويتابع دويهي في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «المبادرة الفرنسية فشلت عندما قرّر ماكرون الفصل بين السياسة من جهة والاقتصاد والإصلاح من جهة أخرى، ومن ثم رضخ لرفض معظم القوى السياسة طرح الانتخابات النيابية المبكّرة مقابل تشكيل حكومة». وشدّد على أن «الإشكالية في البلد (أي لبنان) بالسياسة وليست بالاقتصاد... باعتبار أن الانهيار الاقتصادي الذي نشهده ليس محصوراً بالسياسات المالية والاقتصادية الخاطئة، بل وبشكل أساسي بالطبقة الفاشلة ومن ثم الفساد والزبائنية وغياب المحاسبة والرقابة».
دويهي يعتبر أن الإدارة الفرنسية تتحمّل مسؤولية ما آلت إليه الأمور «لأنها صدّقت أن هذه الطبقة ستقوم بالإصلاحات المطلوبة، في حين الحقيقة أنها تعي أن الإصلاح في أي قطاع سيشكل نهايتها؛ كونه سينسحب بعدها على كل القطاعات، ثم إن النظام الإيراني بواسطة (حزب الله) لن يعطي فرنسا مكتسبات سياسية... لأنه يفضل أن يتواصل مباشرة مع الأميركيين»، لافتاً إلى أن «الفرنسيين حاولوا أن يرضوا الجميع، في حين أنه لا يمكن لأي مبادرة أن تنجح على هذا الأساس».
- تجاهل موضوع السلاح
ويذهب المحلل السياسي سام منسّى أبعد من ذلك، معتبراً في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «مقتل المبادرة الفرنسية كان بتجاهل ماكرون موضوع سلاح (حزب الله)، وهيمنة الحزب على صناعة القرار في لبنان، والذهاب للاجتماع بممثل عن الحزب هو عبر النائب محمد رعد من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أنه إذا أرادت إيران أن تقدّم تسهيلات ما، فهي ستقدّمها للأميركيين وليس للفرنسيين».
ويرى منسّى أن «الانتكاسات الكثيرة والمتسارعة التي أصيبت بها المبادرة الفرنسية جاءت لتقوّض الاستماتة الفرنسية لتحقيق إنجاز انتشال لبنان من أزمته. وهذه استماتة تعتمد، لا شك، على حسابات فرنسية مرتبطة بالدور الإقليمي لفرنسا وعلاقة باريس بطهران... وذلك باعتبار أن جانباً من الهروَلة الأوروبية لدفع واشنطن إلى العودة إلى الاتفاق النووي وتحسين علاقات الولايات المتحدة الأميركية بطهران هدفه تشجيع الاستثمارات الأوروبية، فرنسية وغير فرنسية، في إيران».
في المقابل، بخلاف التقارير عن أن باريس تخلّت عن جهودها والمساعي التي تبذلها في لبنان، نقلت «الشرق الأوسط» أخيراً عن مصادر فرنسية تأكيدها أن باريس «لم تتخلَ عن لبنان»، بل ما زالت ماضية في متابعة أوضاعه، ولكن «وفق منهج مختلف» عما طرحته في المرحلة الأولى. وتضيف، أن هذا المنهج ينطوي على طريقين: فرض عقوبات إضافية من جهة، ومن جهة أخرى الاستمرار في دفع جهود الاتحاد الأوروبي إلى الأمام من أجل التوافق على عقوبات أوروبية جماعية، على الرغم من التردّد الذي أبدته بعض حكومات دول الاتحاد.
- ترقب نتائج المفاوضات
في هذه الأثناء، لا تقتصر تداعيات سقوط «المبادرة الفرنسية» على عملية تشكيل الحكومة التي لا تزال عالقة في عنق الزجاجة؛ إذ ينبّه العميد المتقاعد خالد حمادة، مدير «المنتدى الإقليمي للدراسات والاستشارات» في بيروت، من أن «انتهاء المبادرة الفرنسية وعودة لودريان إلى باريس خالي الوفاض قطعت آخر خطوط التواصل بين لبنان والعالم الغربي، بعدما كانت باريس تسعى لوضع لبنان على قائمة القضايا التي تناقشها الأسرة الدولية». ويرى العميد حمادة، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لبنان أصبح خارج كل ما يتّصل بالقرار الدولي. يضاف إلى ذلك توقف المفاوضات غير المباشرة مع الجانب الإسرائيلي عبر الوسيط الأميركي... وهو نطاق كان يمكن العبور منه لمعالجة الأزمة اللبنانية».
ويضيف حمادة، أن «لبنان بات معزولاً دولياً، هذا بالإضافة إلى أنّ حالة العدمية السياسية والانهيار الاقتصادي وفوضى الأسعار قد تؤدي إلى احتمالات مفتوحة لا نستطيع التنبؤ بها. فبعدما تخلى لبنان عن أبسط مقوّماته كدولة وأضحى يفتقر لأي اهتمام، قد تتجه الساحة اللبنانية نحو شكل من أشكال الانفجار ليس بفعل العاملين الاقتصادي والاجتماعي فقط، إنما أيضاً لتنفيذ أجندة سياسية تستخدم الساحة اللبنانية». ويتابع «ربما سيكون هناك نوع من الاجتهاد من قبل بعض الدول الغربية لإعادة بعض الخصوصية للبنان مقابل تقديمات أخرى ومكاسب لإيران، لكن في كل الأحوال ما يمكن تأكيده أن لبنان تحوّل من دولة إلى ورقة تفاوض». وهنا يستبعد حمادة تماماً أن تؤدّي التطورات في المنطقة إلى «تعويم العهد»، معتبراً أن «العهد (أي رئاسة الرئيس ميشال عون) سقط وانتهى ولا أحد يسعى لتعويمه... فحتى (حزب الله) يريد في المرحلة المقبلة أن يصبح مقبولاً دولياً بمعزل عن تحالفه مع (التيار الوطني الحر)؛ وهو ما يسمح بالاستغناء عن حلفائه المحليين الذين باتوا يمثلون عبئاً وشراكة لا تقدّم له شيئاً».
في سياق موازٍ، بدأ «التيار الوطني الحر» - الذي أسّسه عون - يبني على الحراك الحاصل في المنطقة والمفاوضات الناشطة على أكثر من صعيد ليثبت «نجاح خياراته السياسية». ويبدو أنه يتّجه نحو التشدّد أكثر في عملية تشكيل الحكومة لاعتقاده أن المسارين الدولي والإقليمي للأحداث يصبّان لصالح المحوَر الذي ينتمي إليه ولصالح حليفه «حزب الله». وهنا تعتبر مصادر «التيار» في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تلويح الحريري بورقة الاعتذار أخيراً «إنما يندرج ضمن إطار قراءته لتطور الأوضاع لصالح اخصامه، لكنه حتى الساعة لا يزال يدرس حجم الخسارات التي سيتكبّدها... وما إذا كان قادراً على استيعابها قبل سنة واحدة من موعد الانتخابات النيابية».
حول هذه النقطة، يرى ميشال دويهي أن «وضع الحريري بات صعباً، خاصة أن مستقبله السياسي لا يبدو واضحاً إذا قرّر الاعتذار مثلاً... وإن البعض سيقرأ بذلك رضوخاً منه للعهد». في حين يعتقد سام منسّى، أن «مشكلة الحريري الأساسية تكمن في كون روح المبادرة الفرنسية غير موجودة أصلاً في تعاطيه مع كل الملف الحكومي». أما الكاتب والباحث قاسم قصير – القريب من بيئة «حزب الله» – فيعتبر أن كل الخيارات والاحتمالات واردة، «فإما التوصل إلى تسوية حكومية بعد عيد الفطر أو الذهاب إلى المزيد من الأوضاع الأمنية في وضع بات مرتبطاً أكثر من أي وقت مضى بما ستؤول إليه المفاوضات الناشطة في المنطقة»، ويلفت قصير في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «المساعي التي بُذلت في الأيام الماضية لصياغة تسوية داخلية اصطدمت بحجم الهوة التي أضحت غير مسبوقة بين بعبدا (عون) وبيت الوسط (الحريري)؛ ما يجعل الجميع مترقباً تسوية دولية أو إقليمية كبرى ينصاع لنتائجها الفرقاء اللبنانيون».
- مصير لبنان
هنا يتحدث البعض عن تسوية داخلية محدودة قد تبصر النور نتيجة تطورات المنطقة، فتكون شبيهة بالتسوية الرئاسية التي أمكن التوصل إليها عام 2016 وأدت إلى انتخاب عون رئيساً للجمهورية، بينما لا يستبعد آخرون أن نكون قد اقتربنا أكثر من أي وقت مضى من إعادة النظر بالنظام ككل.
العميد خالد حمادة يعتقد أن أحداً من اللاعبين الدوليين لا يريد تقسيم لبنان أو تعديل دستوره. ويقول إن «الخلافات الداخلية حول أدوار الطوائف في النظام وحصة كل منها داخل التركيبة، موضوع لبناني بحت لا يتصل إطلاقاً بما يجري تداوله على الساحتين الدولية الإقليمية»، ويستطرد «كيفما كان شكل النظام اللبناني فإن استمرار لبنان في حالة التماهي مع طهران من دون أن يكون له أي حيثية وطنية، سيبقيه فاقداً قراره السياسي والاقتصادي». ثم يشير إلى أن لبنان «دخل مرحلة العدمية السياسية والاقتصادية، ولم يعد هناك مؤسسات صانعة للقرار أو جمهور لبناني ينظر باحترام إلى السلطة السياسية»، موضحاً «نحن مستمرون كدولة مفكّكة إلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود في المفاوضات الناشطة حالياً، ولا يبدو أن ذلك سيحصل قريباً».
ومن جهته، يعتبر سام منسّى أن «ما نشهده اليوم هو تغيير هوية وبنية البلد الاجتماعية. فالتركيبة المتعارف عليها سقطت تماماً كما لبنان الذي كنا نعرفه، علماً بأن النظام على مستوى الممارسة لا يطبَّق إلا نظرياً منذ الحرب الأهلية من خلال تركيبات تعكس موازين القوى».
مع هذا، لا يبدو منسّى ممن يروّجون لانفجار اجتماعي مقبل، لافتاً إلى أنه «رغم كل الصعوبات التي مررنا ونمرّ بها، من فقدان الودائع وانهيار الليرة وتفجير مرفأ بيروت والدمار الذي خلفه، وكلها تؤشّر لإمكانية الوصول لانفجار اجتماعي، فإنني أستبعد ذلك. لكنني في الوقت عينه أرجح ازدياد الجرائم والسرقات والفلتان والاضطرابات في بعض المناطق. ذلك أن انهيار الوضع الأمني لا يبدو لي حاصلاً؛ لأن هناك سلطة للجيش موجودة ودوره منسَّق مع (حزب الله) ولا وجود لطرف ثان يستطيع خوض المواجهة مع الحزب». ويتابع منسّى، أن «أساس الأزمة اللبنانية هو وجود قوة تابعة لدولة لها مصالحها وأدوارها التي لا شك ستنعكس على لبنان. وميزان القوى اليوم ليس لصالح لبنان الذي نعرفه ولم يعد هناك مِن دور يلعبه بعدما تلاشى الاهتمام الخارجي به، أضف إلى أنه لا أدوات ولا قضية للقوى الأخرى في لبنان».
قصير يقرّ بأن «لبنان يعيش مرحلة انتقالية صعبة»، وهنا يشدد دويهي على أن «الانهيار المالي والاقتصادي يؤدي تلقائياً إلى انهيار اجتماعي في ظل توجه الناس لتناتش السلع والخدمات؛ لأن الدولة لن تكون بعد اليوم قادرة على تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين». ومن ثم، يقول إنه «حتى إبّان الحرب الأهلية (1975 - 1990) لم يعرف لبنان الجوع والمجاعة؛ لأنه كان هناك دولارات تدخل إلى البلد بخلاف ما يحصل اليوم عندما غدا اللبنانيون متروكين لمصيرهم... ولكن رغم كل ذلك نستبعد حرباً أهلية بالتوازي مع توقع ارتفاع معدلات الجرائم والسرقات والعنف».
- أخيراً... ماذا عن الحلول؟
كثيرون ينظرون إلى الانتخابات النيابية المقبلة - المفترض تنظيمها بعد سنة بالتحديد - على أنها ستكون بوابة الخلاص للبنانيين. ويعتقد هؤلاء أنها ستؤدي إلى خرق كبير لقوى ومجموعات المعارضة؛ نظراً إلى أن المناخ العام هو ضد الطبقة السياسية التقليدية منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، تاريخ «الانتفاضة» الشعبية الأخيرة. بيد أن آخرين لا يظنون أن حصولها محسوم لأن القوى السياسية قد تعمد إلى تأجيلها تخوفا من نتائجها، وهو ما يعبّر عنه سام منسى الذي يرى أنه «من السابق لأوانه الجزم حول ما كان تطور الأمور يجعل الانتخابات النيابية موجودة على (أجندة) فريق (الممانعة)، أي الفريق الانقلابي الذي حلف عون – (حزب الله)، وإذا ما كان المطلوب إجراء الاستحقاقات في مواعيدها أو إعادة النظر بنظام وشكل الحكم ككل».
من جانبه، يؤكد دويهي أن «كل الطبقة السياسية الحالية لا تريد أن تخوض انتخابات نيابية لتخوّفها من أن يحاسبها الناس في صناديق الاقتراع... فهي لطالما وظفت القوانين الانتخابية لتجدد شرعيتها لا لضمان انتقال للسلطة»، معتبراً أن «الضغوط الدولية الكبيرة التي بدأت لضمان إجراء الانتخابات في موعدها، والتي تترافق مع ضغوط تمارسها قوى المعارضة في الداخل، خطوات أساسية للتصدي لمخططات قوى السلطة”. ومن ثم، يرى دويهي - كما كثيرون سواه – في الانتخابات المقبلة «آخر فرصة للتغيير السياسي وفق الآليات الدستورية... فهي قد تكون بداية خلاص لبنان. ولكن المطلوب من قوى المعارضة توحيد خطابها المفترض أن يكون مقنعاً ويقدم مشاريع حلول فلا يقتصر على انتقاد الطبقة السياسية».
والجدير بالذكر، أن الوزير الفرنسي لودريان التقى أثناء زيارته الأخيرة إلى بيروت ممثلين عن مجموعات معارضة، شاركت في «انتفاضة” عام 2019، ونقلت هذه المجموعات للمسؤول الفرنسي خشيتها من أن تعمد الطبقة السياسية إلى تأجيل الانتخابات التشريعية المرتقبة في ربيع 2022.
- 5 معضلات شائكة تعمّق الانهيارات
> يتحدث مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، وهو مبادرة بحثية تهدف إلى دراسة الأزمات في لبنان ورصد تداعياتها واقتراح طرق لمقاربتها، عن خمس قضايا يجب ترقّبها ومقاربتها في المرحلة المقبلة، ولا سيما بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية، وبالتالي ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، هي:
- زيادة كبيرة في معدّلي البطالة والفقر. إذ يتوقع أن يؤدّي التدهور الاقتصادي مصحوباً بالتضخّم إلى إغلاق المزيد من المؤسّسات وتوقّف العديد من القطاعات. وهو ما يعني فقدان العديد من فرص العمل، القليلة بالأساس، وارتفاع معدّل البطالة وتدني القوّة الشرائية وارتفاع معدّل الفقر.
- تأزم أوضاع القطاع الصحّي وهجرة العاملين فيه، ما يُهدّد بفشل احتواء جائحة «كوفيد - 19»، وتراجع مستوى الخدمات الطبية، وخسارة لبنان دوره الرائد كـ«مستشفى الشرق الأوسط».
- تدهور مستوى التعليم، وخصوصاً نتيجة تراجع قدرة العائلات على تعليم أبنائها في المدارس والجامعات الخاصّة، ونضوب الموارد المالية المُتاحة للاستدانة ودعم الطلب على هذا التعليم، فضلاً عن تفريغ هذه المؤسّسات الخاصّة من كوادرها وتراجع مستوياتها نتيجة تراجع الأجور وتدحرج الانهيار.
- زيادة التوترات الاجتماعية والعنف ومعدّلات الجريمة، فخلال فترة «الكساد الكبير» عام 1929 في الولايات المّتحدة كان الناس يرمون بأنفسهم من النوافذ انتحاراً نتيجة تنامي معدّلي الفقر والبطالة، في حين نشط عمل المافيات وعصابات الجريمة المنظّمة والسرقات. هذه السيناريوهات تكاد تكون واحدة في معظم المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية، وهو ما يرجّح حصوله في لبنان أيضاً.
- تنامي النزعات الانفصالية وتعميق سياسات الهوية، باعتبار أنه خلال الأزمات العميقة، تبرز غالباً النزعات القومية والانعزالية، وأخطرها تلك التي تعبّر عنها التنظيمات السياسية اليمينية والشعبوية؛ نظراً لقدرتها على حرف الخطاب العام عن أسباب المشكلة نحو النتائج التي أوصلت إليها، بما يؤدّي إلى تكرار الوقوع في المشكلة نفسها.



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.