إيليز ستيفانيك...أقوى امرأة في الحزب الجمهوري بعد إطاحة ليز تشيني

مسيرتها تعكس صعود اليمين الأميركي في عهد ترمب مقابل الليبراليين

إيليز ستيفانيك...أقوى امرأة في الحزب الجمهوري بعد إطاحة ليز تشيني
TT

إيليز ستيفانيك...أقوى امرأة في الحزب الجمهوري بعد إطاحة ليز تشيني

إيليز ستيفانيك...أقوى امرأة في الحزب الجمهوري بعد إطاحة ليز تشيني

في تصويت غير عادي يشبه «رفع الأيدي»، أقال نواب الحزب الجمهوري الأميركي يوم الأربعاء الماضي رئيسة مؤتمر الحزب ليز تشيني، ابنة نائب رئيس الجمهورية الأسبق ديك تشيني، من منصبها القيادي، عقاباً لها على معارضتها للرئيس السابق دونالد ترمب وإصرارها على دحض ادعاءاته بأن انتخابات عام 2020 سرقت منه. ولقد وقع الخيار لخلافتها على النائبة إيليز ستيفانيك، عضو مجلس النواب عن ولاية نيويورك، التي تحظى برضا ودعم ترمب.
في قراءة سياسية، تشير عملية التصويت على إقالة تشيني إلى خطورة وراديكالية التحولات التي طرأت على تقاليد الحزب الجمهوري العريقة، في استسلام غير عادي أمام تيار ترمب، الذي تحوّل بفضل خطابه اليميني الشعبوي إلى ظاهرة لم تعهدها الولايات المتحدة في تاريخها من قبل.
التصويت على إسقاط ليز تشيني اعتبر سابقة «غير ديمقراطية»، في حزب كان ولا يزال يعتبر نفسه إحدى قلاع الديمقراطية. إذ امتنعت الهيئة العامة لنواب الحزب عن تسجيل أسماء مَن صوّت مع إقالة تشيني، ومَن صوت ضدها. غير أنها ذكرت أن النواب صوّتوا بغالبية ساحقة، حفاظاً على صورة «الإجماع» حول «وحدة الحزب». من ناحية ثانية، يشير هذا التصويت أيضاً إلى أن رهان الحزب على الاحتفاظ بوحدته قائم الآن على مدى قدرته على الاحتفاظ بقاعدته الشعبية التي تدين بغالبيتها لترمب، وفق الاستطلاعات، ما يجعله «صانعاً» لمرشحي الحزب في انتخابات 2022 النصفية لتجديد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ.
تشيني التي نجت بسهولة من تصويت مماثل في فبراير (شباط) الماضي، كانت لا تزال تحظى بتأييد كبار قيادات الحزب الجمهوري، على رأسهم زعيم الأقلية في مجلس النواب كيفن مكارثي، الذين حاولوا التوصل إلى تسوية معها ومع ترمب. إلا أنه بعد تمسكها بموقفها وتصعيد ترمب ضغوطه وتهديده العلني بأنه على استعداد لتشكيل حزب جديد، رضخت تلك القيادات لرغبته، مضحية بتقاليد الحزب على أمل استعادة السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ... وطبعاً الرئاسة.
أيضاً، مثّلت إقالة تشيني سابقة في الذاكرة الحديثة فهي المرة الأولى التي يُطاح فيها بزعيم الحزب الجمهوري في الكونغرس من قبل «نواب متدرجين». ولقد خرجت تشيني من الاجتماع المغلق الذي صوّت على إقالتها، متعهدة بلهجة أكثر تحدياً بأنها ستواصل العمل على «منع فوز ترمب مجدداً بالرئاسة». بل قالت حرفياً: «سأبذل كل ما في وسعي للحرص على منع وصوله إلى أي مكان قرب البيت الأبيض. رأينا الخطر الذي لا يزال يشكله حتى الساعة من خلال تصريحاته، ورأينا غياب احترامه للدستور، ومن المهم أن نحرص على أن يكون الشخص الذي ننتخبه وفياً للدستور».
- ستيفانيك خلفاً لتشيني
ليز تشيني التي أعلنت أنها ستواصل عملها السياسي داخل الحزب وخارجه، كانت من بين أبرز الشخصيات المؤهلة للعب دور قيادي، سواء عبر احتمال توليها منصب رئيسة مجلس النواب، في حال سيطرة الجمهوريين عليه، حتى الترشح لمنصب الرئاسة. غير أن إقالتها بهذا الشكل قد تنعكس على الحزب وتماسكه، على الرغم من قبضة ترمب عليه الآن. كذلك ألقت تصريحاتها، التي لا تزال تلقى صدى في صفوف الحزب الجمهوري، ظلالاً من الشك أيضاً على دور خليفتها إيليز ستيفانيك، التي يتهمها بعض غلاة اليمين بأنها «ليبرالية» للغاية، وقد لا تستطيع «تمثيل 212 نائباً جمهورياً في المجلس». إذ يشير منتقدو ستيفانيك إلى تصويتها ضد تخفيضات ترمب الضريبية عام 2017 ومعارضتها عدداً من مشروعات قوانين أمن الحدود التي كان يضغط ترمب لتنفيذها. وقال النائب تشيب روي من ولاية تكساس عضو كتلة «الحرية» المحافظة: «يجب أن نتجنب تكليف الجمهوريين الذين يقومون بحملتهم الانتخابية بصفتهم جمهوريين، لكنهم يصوتون بعد ذلك لصالح أجندة الديمقراطيين ويدفعون بها بعد أداء اليمين الدستورية». وذهب روي وبعض غلاة المحافظين الآخرين إلى حد الدعوة للإبقاء على منصب تشيني شاغراً، وهي خطوة كان من شأنها السماح لنائبها مايك جونسون (من ولاية كاليفورنيا) الذي وافق على ذلك، أن يشغل دور كبير الجمهوريين في مجلس النواب حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. غير أن المحافظين الآخرين ألقوا بثقلهم وراء ستيفانيك، وأشادوا بمهاراتها في التواصل ودورها في الدفاع عن ترمب خلال أول محاكمة لعزله. وقال النائب جيم جوردان (من ولاية أوهايو)، الرئيس السابق لـ«الحرية» وحليف ترمب المقرب: «لقد حصلت على دعم الرئيس ودعم الزعيم ودعم مسؤول النظام... وأعتقد أنها ستكون على الأرجح رئيسة المؤتمر التالية، أليس كذلك؟»
- يمين محافظ ويسار راديكالي
مراجعة سجلّ ستيفانيك وتاريخها السياسي، قد يسلط الضوء، ليس فقط على التحولات التي جعلت منها الخيار المفضل لترمب، بل على التغييرات التي طرأت على ولاية نيويورك مسقط رأسها وولاية ترمب الأصلية أيضاً.
نيويورك، التي تعد معقلاً رئيساً للديمقراطيين وللجمهوريين «المعتدلين»، شهدت خلال السنوات الأخيرة تحولين أساسيين؛ صعود ظاهرة اليساريين التقدميين الأكثر راديكالية في صفوف الحزب الديمقراطي، عُبر عنها بانتخاب أشخاص من أمثال آلكساندريا أوكاسيو - كورتيز... مقابل انزياح بعض ليبراليّي الحزب الجمهوري نحو اليمين المحافظ، وهو عبّرت عنه ستيفانيك نفسها.
وفي 12 يناير (كانون الثاني) 2021، أعلنت جامعة هارفارد العريقة؛ حيث تخرجت ستيفانيك في «معهد كنيدي للسياسة» عام 2006، إزالتها من منصبها في اللجنة الاستشارية العليا للمعهد، بسبب «دورها في الترويج لمزاعم كاذبة بوجود تزوير واسع النطاق في الانتخابات الرئاسية». وقال عميد المعهد دوغ إلمندورف في بيان: «إيليز أصدرت تأكيدات علنية عن تزوير الانتخابات الرئاسية ليس لها أساس من الأدلة، وأدلت بتصريحات كاذبة حول إجراءات المحكمة المتعلقة بالانتخابات». وأضاف: «علاوة على ذلك، فإن هذه التأكيدات والبيانات لا تعبر عن الخلافات السياسية، بل تمس أسس العملية الانتخابية التي يُختار عبرها قادة هذا البلد». وذكر إلمندورف أنه طلب من ستيفانيك التنحي، لكنها رفضت ما اضطره لإقالتها، فردّت ستيفانيك ببيان قالت فيه إن جامعة هارفارد «استسلمت لليسار الصاعد».
- مدافعة شرسة عن ترمب
بعد وقوف ستيفانيك ضد بعض سياسات دونالد ترمب في بداية عهده، فإنها تحولت إلى أشد المدافعين عنه إبان إجراءات عزله مرتين، عام 2019 وبداية 2021. وفي تحليل أجراه موقع «538» وجد أن ستيفانيك «أيّدت بنسبة 78 في المائة مواقف ترمب في عمليات التصويت التي جرت في مجلس النواب». كذلك دعمت الدعوى القضائية التي رفعت أمام المحكمة العليا لإلغاء هزيمته في انتخابات 2020. لقلب نتائج ولايات ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن وجورجيا. وزعمت أن «أكثر من 140 ألف صوت جاءت من ناخبين دون السن القانونية ومتوفين وغير مؤهلين» في جورجيا. وأيضاً اتهمت ستيفانيك شركة دومينيون التي تشرف على آلات التصويت بأنها ساهمت في التزوير من بين «نظريات المؤامرة» اليمينية التي راجت. وصوّتت بعد ساعات من اقتحام أنصار ترمب مبنى الكابيتول يوم 6 يناير الماضي، للاعتراض على أصوات المجمع الانتخابي لحرمان جو بايدن من الفوز. وفي إشارة بالغة عن حجم التحوّل الذي طرأ على أفكارها ومواقفها، وبعدما قدمت على رأس 8 جمهوريين مشروع قانون «العدالة للجميع» أمام مجلس النواب عام 2019 - الذي يضمن المساواة للمثليين، ويشمل استثناءات للجماعات الدينية والشركات الصغيرة ذات البنية الدينية - صوتت ضده في فبراير هذا العام.
عام 2018 كانت ستيفانيك تصنف في المرتبة الـ19 بين أكثر أعضاء مجلس النواب الداعمين لتعاون الحزبين، أو ما يسمى سياسة «الباي بارتيزانشيب». غير أن التغييرات التي طرأت على مواقفها السياسية والفكرية والعقائدية، توالت في مسيرة عكست التحولات التي أصابت حزبها وولايتها نيويورك. وهذا الشهر وصفت ستيفانيك ترمب الذي لا تزال تدعوه «الرئيس» بأنه «(أقوى مؤيد) من أي رئيس عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الدستور».
أيضاً، بعدما عارضت ستيفانيك أمر ترمب التنفيذي عام 2017 الذي فرض حظراً مؤقتاً على السفر والهجرة إلى الولايات المتحدة من قبل مواطني 7 دول ذات غالبية مسلمة، رفضت لاحقاً إدانة سياسته بشأن فصل الأسرة. وبدلاً من ذلك، نشرت بياناً صحافياً يهنئه على أمره التنفيذي المتعلق بعمليات الفصل الجديدة واحتجاز العائلات.
- بطاقة الشخصية
إيليز ماري ستيفانيك ولدت في مدينة ألباني، عاصمة ولاية نيويورك، عام 1984. والداها كين وميلاني ستيفانيك، من أصلين تشيكي وإيطالي، ويملكان شركة لبيع ألواح الخشب بالجملة. ولقد تخرجت في أكاديمية ألباني للبنات، وهي مدرسة خاصة مرموقة، والتحقت بجامعة هارفارد لتتخرج فيها عام 2006 ببكالوريوس في العلوم الحكومية بعدما تلقت تنويهاً مشرفاً وجائزة عن القيادة النسائية.
عام 2014، أصبحت ستيفانيك في أول انتخابات نيابية تخوضها، وهي في سن الـ30، أصغر امرأة تُنتخب نائبة في مجلس النواب الأميركي. وهي كاثوليكية، متزوجة من ماثيو ماندا، الذي يعمل في مجال التسويق والاتصالات، منذ 19 أغسطس (آب) 2017. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2018 انتقلا إلى شويلرفيل، إحدى ضواحي العاصمة واشنطن حيث يقيمان راهناً.
بعد التخرّج في هارفارد، انضمت ستيفانيك إلى إدارة الرئيس جورج بوش الابن، وعملت في طاقم مجلس السياسة الداخلية، في مكتب جوشوا بولتون ثاني رئيس جهاز للبيت الأبيض في إدارة بوش. وعام 2012 ساعدت في إعداد «المنصة» الجمهورية، مديرة لوسائل الإعلام الجديدة للجنة الاستكشافية الرئاسية. كما عملت باحثة في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومبادرة السياسة الخارجية. وخلال 2012، أشرفت على التحضير لمناظرة المرشح لمنصب نائب الرئيس بول ريان إبان انتخابات ذلك العام. وبعد خسارة المرشح الجمهوري ميت رومني وريان الانتخابات أمام باراك أوباما وجو بايدن، عادت إلى نيويورك لتعمل مع والديها.
في أغسطس 2013، أعلنت ستيفانيك ترشحها لانتخابات مجلس النواب الأميركي عام 2014 عن المنطقة 21 في نيويورك، وهي المنطقة التي سيطر عليها الجمهوريون لمدة 100 سنة على التوالي، قبل انتخاب الديمقراطي بيل أوينز في انتخابات خاصة عام 2009. محتفظاً بها حتى عام 2014. بعدما أعلن عزوفه عن الترشح. ولقد هزمت ستيفانيك منافسها الجمهوري مات دوهيني في الانتخابات التمهيدية. ثم واجهت أرون وولف مرشح الحزب الديمقراطي ومات فونيسييلو مرشح حزب «الخضر»، لتفوز عليهما جامعة 55 في المائة من أصوات الناخبين وتعيد سيطرة الجمهوريين التاريخية على المنطقة 21.
وعام 2016 ترشحت مجدداً من دون منافس جمهوري، وأعلنت عن دعمها لترمب بعد فوزه بترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية ذلك العام. وفازت في انتخابات نوفمبر 2016 جامعة 66 في المائة من الأصوات. وعام 2017 أعلن سفير الولايات المتحدة السابق في الأمم المتحدة جون بولتون - الذي عيّنه لاحقاً ترمب مستشاره للأمن القومي خلال فترة «شهر العسل» بينهما - دعمه وتأييده لإعادة انتخاب ستيفانيك في انتخابات 2018 النيابية، مشيداً بعملها في لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، و«مواقفها الصلبة» في دعم موازنة وزارة الدفاع التي رفعها ترمب بشكل كبير في ذلك العام. وأعيد انتخابها بـ56 في المائة من الأصوات، وفي انتخابات 2020، كررت ستيفانيك انتصاراتها جامعة 59 في المائة من الأصوات.
من جهة أخرى، عُينت ستيفانيك في يناير 2015 في لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، بعدما انتخبها النواب «المتدرجون» الجدد لتمثلهم في لجنة السياسات، وتولت منصب نائبة رئيس اللجنة الفرعية للجاهزية، التابعة للجنة القوات المسلحة. وفي بداية عام 2017 انتخبت رئيساً مشاركاً لما يعرف بـ«مجموعة الثلاثاء»، وهي تجمع الجمهوريين المعتدلين في مجلس النواب الأميركي. وفي ذلك العام، قادت عمل اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري لاختيار مرشحي الحزب في انتخابات مجلس النواب للعام 2018.
أخيراً، على الصعيد الاجتماعي، مع أن ستيفانيك تُعد من «مؤيدي الحياة» وتعارض الإجهاض وتمويله من أموال دافعي الضرائب، فإنها كانت تدعو الحزب الجمهوري لكي يكون أكثر تفهماً للمواقف الأخرى بشأن هذه القضية. ومع ذلك، خلال عام 2017 انضمت إلى حزبها في تأييد قانون حماية الجنين من الألم، وصوتّت مع حزبها في ذلك العام أيضاً على إلغاء قانون الرعاية الصحية المعروف باسم «أوباما كير».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.