مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

إصلاحات الإعلام الليبي تواجه «إرث الماضي» و«حسابات الخصوم»

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
TT

مساعٍ حكومية لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والصحافي

رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)
رئيس الحكومة الليبية يكرم الصحافي فيصل فخري وخلفه وزير الدولة للاتصال وليد اللافي (منصة الحكومة الإلكترونية)

من على منصة التتويج والاحتفال في ليبيا بذكرى «اليوم العالمي لحرية الصحافة»، أتى رئيس حكومة «الوحدة الوطنية» عبد الحميد الدبيبة، على ذكر الصحافي إسماعيل أبو زريبة الزوي المحكوم عليه بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بشرق البلاد، لينكئ بذلك جرحاً غائراً تعانيه المنظومة الصحافية والإعلامية في ليبيا، منذ عقود خلت. ولم ينفك الإعلام الليبي من أسر نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، إذ ظل يكابد خلال السنوات العشر الماضية القيود والقوانين التي تحد من عمل الصحافي والإعلامي، بل وتجرّمه في أحايين كثيرة وتذهب به إلى غياهب السجون، إن لم يكن من «الموالاة».
وفي حفل كبير أحيته الحكومة الليبية بإشراف مكتب وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي، دُعيت إليه شخصيات صحافية وإعلامية وأكاديمية من أقطار عربية عدة؛ أعلن الدبيبة، للمرة الأولى عن حزمة من الإصلاحات المتعلقة بمنظومة الإعلام في ليبيا، بالإضافة إلى تخصيص جائزة سنوية تمنح لأفضل عمل صحافي ليبي.

الدبيبة، الذي لم يكمل شهره الثاني في الحكم، أصدر 7 توجيهات يمكن قراءتها على نحو يمهد الطريق لفك قيود العمل الإعلامي والصحافي، في مواجهة ترسانة من القوانين المعوّقة التي لم تنفك أيضاً عن تخوفات الأجهزة الأمنية وتربصهم بالعاملين في هذه المهنة، لكن هذه «المنظومة المحلية» تظل تعاني أمام ضربات الإعلام الموجه من الخارج، وهو الأمر الذي وصفه بعض الاختصاصيين لـ«الشرق الأوسط» بأنه يفرض على الحكومة تحديات كبيرة، يدفعها لضرورة مساندة الإعلام المحلي، لكيفية مجابهة إعلام «خصوم السلطة»!
وفي أغسطس (آب) الماضي، وقّع أكثر من 100 صحافي وناشط مدني ليبيا على بيان يدين الحكم الصادر على المصوّر الصحافي إسماعيل الزوي بالسجن 15 سنة من قبل محكمة عسكرية بمدينة بنغازي، وقالوا إن الجهة التي أصدرت الحكم «تتعارض مع المعايير الدولية، ما يجعل إجراءات الحبس والمحاكمة باطلة، لمخالفة الإجراءات القانونية المتعارف عليها»؛ وإنه لا يجوز وفق القانون الليبي محاكمة شخص مدني أمام محكمة عسكرية؛ وهو المعنى الذي أكد عليه الدبيبة خلال إلقاء كلمته في احتفالية «اليوم العالمي لحرية الصحافة».
الإجراءات التي اتخذها الدبيبة، وصفت بأنها بمثابة إعادة لصياغة علاقة الدولة بالمشتغلين في الميديا، وجاءت لتؤكد «الحق في التعبير وانتقاد أداء الحكومة باعتباره حقاً أصيلاً لكل الليبيين، وفقاً للإعلان الدستوري والمواثيق الدولية وتنظمه القوانين المعمول بها ذات العلاقة»، بالإضافة إلى «منع استهداف الصحافيين أو اعتقالهم أو استخدام العنف ضدهم، والالتزام بحمايتهم من المخاطر أثناء تأدية عملهم».
ولقد دعا الدبيبة إلى «العمل على إعادة هيكلة مؤسسات الإعلام والصحافة في ليبيا بما يضمن توسيع دائرة المشاركة في الإدارة ورسم السياسات العامة، من خلال استحداث مجلس للأمناء بالمؤسسات الإعلامية لضمان تمثيل أوسع للنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني»؛ كما وجه بـ«منع اعتقال الصحافيين أو احتجازهم في أي مقر أمني»، معتبرة هذه الأفعال «احتجازاً قسرياً يتعرض مرتكبوها للمساءلة والملاحقة القانونية طالما تجاوز القانون».
ولمنع استهداف العاملين في المجال الإعلامي عقاباً على آرائهم، شدد رئيس الحكومة على منع «أي تضييق على الصحافيين بناء على آرائهم أو بسبب انتمائهم لمهنتهم أو لممارستهم العمل الإعلامي»، فضلاً عن «منع اعتقال أي صحافي أو استخدام العنف معه أثناء تأدية مهامه الصحافية أو التضييق عليه، والتعامل وفق الإطار القانوني المنظم لذلك».
وفضلت إدارة الجائزة منحها هذا العام في دورتها الأولى لمجال الصحافة الرياضية، ونالها الليبي فيصل فخري، الذي كرّمه الدبيبة بـ«جائزة الدولة التقديرية»، كما كرّم عائلة «شهيد الصحافة» محمد سليم دعدوش بـ«وسام الواجب».
وبالنظر إلى توجيهات الدبيبة، رأى الكاتب الصحافي رئيس «هيئة دعم وتشجيع الصحافة» في ليبيا عبد الرزاق الداهش، أن تعهد الحكومة بضمان حرية الرأي «مهم جداً»، ولكن «تظل قدرتها على الوفاء بذلك أهم، في هذا الظرف الليبي». وتابع أن حكومة «(الوحدة الوطنية) لم ترث وضعاً مثالياً، ولهذا لا يمكن إلزامها بما هو مثالي... هناك مشكلات تفاقمت بشكل تراكمي عبر سنوات، ولا يمكن حلها بمجرد اتخاذ قرار من الحكومة».
وذهب الداهش إلى أن التشريعات القائمة «ما زالت متخلفة... ولا توجد نصوص قانونية تضمن حماية حرية التعبير، فضلاً عن عدم وجود ما يتيح الحق للمواطن أو حتى الصحافي الوصول إلى المعلومة، أو ما يؤمن حرية انسياب وتدفق المعلومات»، بل إن المعضلة كما يراها الداهش، أنه «لا توجد حتى مشاريع قوانين تضمن حرية الرأي، فضلاً عن وجود جهاز تشريعي يميل إلى التضييق».
غير أن الضربات التي تم تسديدها إلى منظمة الإعلام في ليبيا، لم تتوقف عند حقبة معينة. إذ أظهرت دراسة للمركز الليبي لحرية الصحافة، مدى تأثير غياب التنظيم وإهمال الحكومات المتعاقبة لملف قطاع الصحافة والإعلام، بالإضافة إلى غياب الاستراتيجية الوطنية والتشريعات الإعلامية المنظمة، وقلة الجدية في التعامل مع الملاحظات التي يريدها ديوان المحاسبة والهيئة العامة للرقابة الإدارية؛ وتحدثت عما سمته «حالة التخبط والإهمال وتنامي الفساد في وسائل الإعلام العامة المهترئة».
ورصدت الدراسة الميدانية الجوانب المتعددة للأوضاع المالية والإدارية والتقنية والتنظيمية والموارد البشرية والأصول والممتلكات للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة بهدف تحديد أوجه الضعف الذي تعانيه والتحديات التي تواجهها للخروج بتصور علمي يقوم على أساس تطوير المشهد الإعلامي الليبي.
أيضاً كشفت الدراسة عن الإمكانات «الضخمة المهدورة التي تقدر بملايين الدينارات، وحالة التكدس الوظيفي للموارد البشرية والتعيينات العشوائية بقطاع الصحافة والإعلام العام»، فضلاً عن «غياب أي رؤية استراتيجية للتنظيم ورفع الكفاءة البشرية وفاعلية وتأثير هذه المؤسسات العامة التي تعاني من الترهل والخلخلة في بنيتها الإدارية».
وذكّر المركز في دراسته «بمدى الحاجة الملحة لإجراء إصلاحات عاجلة بالوسائل الإعلامية العمومية الممولة من الخزانة العامة»، مشيراً إلى أن «عديد الموظفين وكبار المسؤولين في وسائل إعلامية ليبيا لم يتجاوبوا مع باحثيه ورفضوا تقديم أي معلومات تتعلق بالمؤسسات التي يديرونها، ومن بينهم هيئة دعم وتشجيع الصحافة بطرابلس، وراديو ليبيا، والقناة الرسمية، ومركز تطوير الإعلام الجديد».
وقضى 22 صحافياً ليبياً على الأقل منذ «ثورة 17 فبراير (شباط)» عام 2011، لكن أعداداً أكثر من ذلك تعرضت للخطف والاحتجاز مدداً طويلة، فضلاً عن تعرض كثير من العاملين في المجال الصحافي والإعلامي إلى إصابات خطيرة وصلت إلى البتر خلال تأدية عملهم في محاور الاقتتال بالعاصمة. وهنا يلفت الداهش النظر إلى تأثير الانقسام السياسي الذي ساد البلاد منذ عام 2014، قائلاً: «لا يمكن تجاهل ما حدث من انقسامات، ونزاعات مسلحة، ترتب عليها حالة من التشظي المجتمعي، وغياب الثقة، وهذه كلها تحتاج إلى عمل كبير ليس من الحكومة وحدها، بل من كل الأطراف والمؤسسات الليبية».
كذلك تحدث الداهش عن «أضرار غياب الجسم النقابي الفاعل الذي يحتكم إلى قانون خاص»، وقال: «أستطيع أن أكون متفائلاً، ولكن لا يحق لي أن أكون مفرطاً في التفاؤل». وانتهى إلى أن بوسع الحكومة فعل الكثير لصالح حرية التعبير، من خلال «تحسين الحالة الأمنية، وإيجاد تدابير تضمن حرية انسياب المعلومات، ونشر الشفافية بين مؤسساتها، من خلال منح الاستقلالية لوسائل الإعلام الممولة من ميزانية الدولة، وتوفير الدعم للنهوض بالإعلام العمومي، وتشجيع المبادرات الخاصة، في سياق حق الناس في الوصول إلى الحقيقة».
وعلى خطى المسار السياسي الذي أنهى الانقسام بين شرق وغرب ليبيا، اتخذ رئيس المؤسسة الليبية للإعلام، محمد بعيو، قراراً بتوحيد ودمج وكالة الأنباء الليبية في كل من المنطقتين الشرقية والغربية في كيان واحد على مستوى الدولة الليبية، كما كانت عليه قبل الانقسام السياسي. وفي مواجهة ما يُوصف بـ«إعلام الخصوم»، طالب بعيو بدعم «الإعلام الوطني». وللحد من «موجات الكراهية» التي سادت أحايين كثيرة وسائل الإعلام الليبي، شكّل بعيو لجنة لصياغة «مدوّنة أخلاقيات الإعلام الليبي»، تضم 11 شخصية إعلامية معروفة، وتتولى مهمة دراسة وإعداد وصياغة مشروع المدونة، على أن تتضمن الأسس والأصول والضوابط والالتزامات الواجبة في سلوكيات وأخلاقيات «الإعلام الوطني»، بما يسهم في تجسيد القيم السامية العليا، المحددة والموصوفة دينياً وإنسانياً ومجتمعياً ومهنياً. وتحدد منتصف مايو (أيار) الجاري موعداً لعرض مشروع المدوّنة على الإعلاميين والمختصين والمهتمين، في ندوة موسعة تمهيداً لرفعها في صيغتها النهائية إلى جهات الاختصاص لاعتمادها وإصدارها.


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.