تفسير علمي لتأثير الأدب على حياة الأفراد

«مشروع السّرد في جامعة أوهايو الأميركية» سعى لقلب منهجية استكشاف النصوص الأدبية

فرجينيا وولف
فرجينيا وولف
TT

تفسير علمي لتأثير الأدب على حياة الأفراد

فرجينيا وولف
فرجينيا وولف

لقد مضى على الإنسان حين من الدّهر وهو يحلل الأعمال الأدبيّة كالروايات والمسرحيّات والقصص القصيرة وفق نظريّات ترتكز أساساً وتنطلق من البحث عن ثيمات وراء الكلمات ومبررات صياغتها بشكل محدد دون غيره، وعلاقة ذلك بمعنى النصّ ظاهراً أو محتجباً. ومع ذلك، فإن ثمّة شيئاً كان دائماً يجتاح إحساس القارئ عند غوصه في لجّة عمل أدبي معيّن مختلف تماماً عن شعوره أثناء الاستغراق بعمل أدبي آخر، ناهيك عن جفاف يمس روحه عندما ينتهي إلى مطالعة النصوص الجادة.
وقد لاحظ الأطبّاء الغربيّون خلال الحرب العالميّة الأولى تلك التأثيرات المرتبطة بأعمال أدبيّة دون غيرها، وشرعوا في تجارب فعليّة لمساعدة الجنود الجرحى على التعافي من وجع أجسادهم أو شقاء أرواحهم من خلال إعطائهم نصوصاً بعينها لقراءتها كما لو أنّها جزء من برنامج العلاج.
وفي أوقاتنا المعاصرة، فإن الأطباء والمعالجين السيكولوجيين في بريطانيا مثلاً لا يتوانون عن وصف أعمال أدبيّة للأشخاص الذين يعانون من ضغوط نفسيّة أو قلق دائم أو مشاكل التكيّف الاجتماعي – لا سيّما بين المراهقين – وكذلك للمصابين بلعنة الإدمان أو المبتلين بأمراض مزمنة أو مستعصية، وذلك لجزء مكمّل لما يصفونه من علاجات بالعقاقير والعمليّات الجراحيّة.
لكن الطّرفين، أي النّقاد الأدبيين والأطباء، لم يلتقيا يوماً على أرضيّة مشتركة لبناء تفسير علمي للديناميّات وراء ذلك التأثير السحري الذي تتركه نصوص معينة دون أخرى في نفوس قارئيها، أقلّه لحين إطلاق مشروع السّرد في جامعة ولاية أوهايو (الولايات المتحدّة الأميركيّة)، والذي يسعى إلى قلب منهجيّة استكشاف النصوص الأدبيّة رأساً على عقب، بالانطلاق من كيفيّة استجابة الأفراد للشخصيّات والحبكات والعوالم التي صنعها المؤلفون، بدلاً من بدء التحليل بالنّظر في تراكيب الكلمات والثيمات الأدبيّة: أي ماهيّة شعور القارئ في مواجهة النصّ قبل التنقيب عن المعنى في ذهن المؤّلف.
ووفق مشروع السرد هذا الذي يقوده البروفسور أنغوس فليتشر – وهو يحمل شهادات عليا في كل من طبّ الأعصاب والدراسات الأدبيّة – فإن التقاط شعور القارئ يمكننا تالياً من البحث في الميكانيكيّة الفسيولوجيّة والدماغيّة التي أنتجت ذلك الشعور، سواء تعلقت بحبكة العمل أو شخصياته الرئيسية، أو بمنطق الراوي فيه، أو حتى أجواء العالم المجازي الكلي الذي يخلقه حول الحكاية. وبالطبّع، تتراجع إلى الخلفيّة في هذا النّهج لقراءة النصوص قضايا مثل موضوعات العمل الأدبي بحد ذاته، أو المعاني المباشرة التي أراد نقلها المؤّلف من خلال كلماته، وحتى تلك المتعلقات التاريخيّة والأسلوبيّة والسياسيّة التي يجرجرها النصّ معه أينما ذهب.
مشروع جامعة أوهايو قد لا يحظى بترحيب حار من نقّاد الأدب ومفككي النّصوص الذين ستتراجع القيمة النسبيّة لأدوارهم كسدنة ومفسّرين للنتاجات الفكريّة، لكنّه بالنسبة للقراء – ودارسي الأدب والأطباء – تثوير وتغيير جذري لكل الطريقة التي لطالما تعاملنا بها مع الأعمال الأدبيّة. فأنت مثلاً إذا كنت ترغب في مادة لتحفيز شجاعتك على مواجهة العالم، فإن البحث عن أعمال تحمل عناوينها كلمة «الشجاعة» أو تكون متضمنة في مواضيعها وفق التحليل التقليدي للأدب فإنّك على الغالب لن تجد ضالتك؛ إذ إن الإحساس بالشجاعة من خلال مطالعة عمل أدبي – أو مشاهدة تمثلاته المعاصرة أفلاماً سينمائيّة ومسلسلات تلفزيونيّة أو إذاعيّة - تتأتى من خلال شعور المتلقي بالانخراط بشيء أكبر من نفسه وروتين أيّامه، وليس من خلال الحديث عن فضيلة «الشجاعة» كمعنى نظري مجرّد.
وينصرف هذا المشروع إلى تنحية الأفكار المتعارف عليها حول دور الأدب في الحياة البشريّة كوسيلة للترفيه أو كمادة لنقل المعاني وإيصال الرسائل إلى القرّاء، لمصلحة تصور السّرد القصصي فيها كشكل من أشكال التكنولوجيا - أي أدوات معقّدة طوّرها أسلافنا للتخفيف من الاكتئاب، والحد من القلق، وإشعال الإبداع، وإثارة الشجاعة، وتلبية مجموعة متنوعة من التحديات السيكولوجيّة والوجوديّة الأخرى التي لم يكن له طاقة على مواجهتها. فعلى سبيل المثال – ودائماً بحسب مشروع السرد – فإن قراءة رواية «العرّاب» (لماريو بوزو) قد تساعد على التعامل مع الشعور بالوحدة، في حين يمكن لقراءة «أليس في بلاد العجائب» (لويس كارول) أن تحفّز روح الإبداع لدى قارئها، بينما يمكن لمطالعة في أعمال شكسبير أن تساعد على الشفاء من الحزن، ولنصوص فرجينيا وولف توجيهنا في رحلة البحث عن السكينة وراحة البال، ويمكن لمن يحتاج إلى الشجاعة أن يلجأ دائماً لهوميروس. ويتسنى للمختصين تحديد تلك التأثيرات للنّصوص المتفاوتة عبر مراقبة انعكاساتها في الدّماغ ومقارنتها باستجابات في حالات موازية. ففي رواية العرّاب يستعين بوزو بتقنيّة معروفة في الفنون الأوبراليّة التي تتضمن قطعة من موسيقى نافرة ومضطربة يتم حلها في نهاية المطاف عن طريق قطعة من موسيقى توحي بالانسجام التناغم، وهو ما يطلق في الدّماغ مادة الدوبامين التي تشعرنا بنسيان الذات والتوحّد مع الموسيقى. بوزو يفعل الشيء نفسه في «العراب»؛ إذ يخلق مناخاً من الفوضى والتوتر في فصل ما قبل أن يقدّم للقارئ حلاً جزئياً في نهاية المطاف يتسبب بإفراز الدوبامين بالدّماغ، والتالي ذلك الشعور بالتماهي مع الشخصيّات والقصة كما لو كانوا أصدقاء». ومع أنّ العقلانيّة قد تردعنا عن التعاطف مع مجرمي المافيا في الحياة الواقعيّة، فإن تلك المشاعر التي ننسجها مع أفراد عائلة كورليوني عند قراءة «العرّاب» يمكن أن تخفف من حدّة الوحدة. ويبدو النصيحة الراهنة هي استعادة «عرّاب» بوزو خلال فترات العزلة المفروضة بسبب جائحة «كوفيد - 19»؛ إذ إن ذلك قد يساعد المرحلة الانتقاليّة نحو الحياة الطبيعيّة بعدما نتخلّص من الوباء.
وبحسب المشروع، فإن علماء الأعصاب اكتشفوا أن جزءاً من الدماغ، يسمى بالعربيّة (النّواة الظهرية ذات الرفاية) تساعد الفرد على تكوين الصداقات من خلال تجمع للخلايا العصبية التي تتخصص بإطلاق الدوبامين بعد فترات قصيرة من الوحدة فيتشجّع الشخص على إعادة الاستئناس بوجود الآخرين. ولكن إذا استمرت عزلتنا لأسابيع أو أشهر، كما كان الحال أثناء الجائحة، فإن تلك القدرة تتلاشى ويتحصن الدّماغ في عزلته، مما يجعل من الصعب إعادة التواصل مع الناس؛ ولذا فإن أعمالاً أدبيّة مثل «العرّاب» تُبقي على نشاط ذلك الجزء من الدّماغ، وبالتالي تسهيل العودة إلى المجتمع بعد فكّ العزلة.
وكما في «العراب» ومسألة التعامل مع الشّعور بالوحدة، فإن كل عمل أدبي يمنح قارئه قوّة استثنائيّة كما تكنولوجيا متطوّرة للتعامل مع أسباب الشقاء والإحباط التي قد تصيب أيّاً من البشر في مراحل حياتهم المختلفة واستشعار الفرح والشجاعة، وتحفيز الإبداع، وإيقاظ الأمل وتقبّل التغيير وبناء التعاطف والتناغم مع الآخرين في مواجهة قسوة العالم. ومختلف أعمال الأدباء الذين يقدّرهم كثيرون من كتبة النصوص الأقدم في بلاد ما بين النهرين إلى روايات أمبورتو إيكو مروراً بهوميروس وشكسبير وأوستن وغيرهم من عمالقة الأدب إنّما يمثّل كل منها إنجازاً تقنياً فريداً يمكن أن يُنظر إليه على أنه تقدم سردي وتقني في آن. وبالطبع، فإن ذلك الأداء التقني ليس مقتصراً على الأعمال الكلاسيكيّة العظمى فحسب، بل إن مشروع السّرد لدى جامعة ولاية أوهايو يرى أنّ قوّة الأدب موجودة في كافة أشكاله وتمثلاته من الرّوايات والقصص القصيرة إلى الشعر والسونيتات، ومن قصص الخيال العلمي ودراما الجريمة إلى الأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة. وبالتالي فإن مهمّة كبرى تنتظر المختصين الذين يعملون على هذا التجسير المبهر بين ضفتي علم الدماغ والأعصاب والدراسات الأدبيّة لإعادة قراءة وتصنيف التراث الأدبي والفكري والفني بأبعد من تفكيك الكلمات والبحث عن المعاني، ليتسنى للبشريّة تعظيم قدرتها على الاستفادة من إبداع أجيالها المتلاحقة.



مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
TT

مخزون الصور العائلية يُلهم فناناً سودانياً في معرضه القاهري الجديد

صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)
صور تعكس الترابط الأسري (الشرق الأوسط)

«زهوري اليانعة في داخل خميلة»... كلمات للشاعر الجاغريو، وهي نفسها الكلمات التي اختارها الفنان التشكيلي السوداني صلاح المر، لوصف السنوات التي قضاها في مصر، والأعمال الإبداعية التي قدّمها خلالها، وضمنها في البيان الخاص بأحدث معارضه بالقاهرة «احتفالية القرد والحمار».

تنقل المر خلال 15 عاماً قضاها في مصر ما بين حواري الحسين، ومقاهي وسط البلد، وحارات السبتية، ودروب الأحياء العتيقة، متأثراً بناسها وفنانيها، ومبدعي الحِرف اليدوية، وراقصي المولوية، وبائعي التحف، ونجوم السينما والمسرح؛ لتأتي لوحاته التي تضمنها المعرض سرداً بصرياً يعبّر عن ولعه بالبلد الذي احتضنه منذ توجهه إليه.

لوحة لرجل مصري مستلهمة من صورة فوتوغرافية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول المر لـ«الشرق الأوسط»: «أعمال هذا المعرض هي تعبير صادق عن امتناني وشكري البالغين لمصر، ويوضح: «جاءت فكرة المعرض عندما وقعت عقد تعاون مع إحدى الغاليريهات المعروفة في الولايات المتحدة، وبموجب هذا العقد لن أتمكن من إقامة أي معارض في أي دول أخرى، ومنها مصر التي عشت فيها أجمل السنوات، أردت قبل بدء الموعد الرسمي لتفعيل هذا الاتفاق أن أقول لها شكراً وأعبّر عن تقديري لأصحاب صالات العرض الذين فتحوا أبوابهم لأعمالي، والنقاد الذين كتبوا عني، والمبدعين الذين تأثرت بهم وما زلت، وحتى للأشخاص العاديين الذين التقيت بهم مصادفة».

اللوحات تقدم مشاهد مصرية (الشرق الأوسط)

استلهم الفنان 25 لوحة بخامة ألوان الأكريلك والأعمال الورقية من مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والـ«بوستال كارد» المصرية القديمة، التي تعكس بدورها روعة الحياة المصرية اليومية، ودفء المشاعر والترابط المجتمعي فيها وفق المر: «لدي نحو 5 آلاف صورة مصرية، جمعتها من (الاستوديوهات) وتجار الروبابكيا، ومتاجر الأنتيكات، ومنا استلهمت لوحاتي».

ويضيف: «مصر غنية جداً باستوديوهات التصوير منذ عشرات السنين، ولديها قدراً ضخماً من الصور النادرة المُلهمة، التي تحكي الكثير عن تاريخها الاجتماعي».

الفنان صلاح المر (الشرق الأوسط)

يستطيع زائر المعرض أن يتعرف على الصور الأصلية التي ألهمت الفنان في أعماله؛ حيث حرص المر على أن يضع بجوار اللوحات داخل القاعة الصور المرتبطة بها، ولكن لن يعثر المتلقي على التفاصيل نفسها، يقول: «لا أقدم نسخة منها ولا أحاكيها، إنما أرسم الحالة التي تضعني فيها الصورة، مجسداً انفعالي بها، وتأثري بها، عبر أسلوبي الخاص».

لوحة مأخوذة عن صورة لطفل مصري مع لعبة الحصان (الشرق الأوسط)

تأتي هذه الأعمال كجزء من مشروع فني كبير بدأه الفنان منذ سنوات طويلة، وهو المزج ما بين التجريد التصويري والموضوعات ذات الطابع العائلي، مع الاحتفاء بالجماليات الهندسية، والرموز التراثية، والاستلهام من الصور، ويعكس ذلك ولعه بهذا الفن، تأثراً بوالده الذي عشق الفوتوغرافيا في شبابه.

يقول: «بدأ تعلقي بالفوتوغرافيا حين عثرت ذات يوم على كنز من الصور في مجموعة صناديق كانت تحتفظ به الأسرة في مخزن داخل المنزل بالسودان، وكانت هذه الصور بعدسة والدي الذي انضم إلى جماعة التصوير بكلية الهندسة جامعة الخرطوم أثناء دراسته بها».

لوحة مستلهمة من صورة قديمة لعروسين (الشرق الأوسط)

هذا «الكنز» الذي عثر عليه المر شكّل جزءاً مهماً من ذاكرته البصرية ومؤثراً وملهماً حقيقياً في أعماله، والمدهش أنه قرر أن يبوح للمتلقي لأول مرة بذكرياته العزيزة في طفولته بالسودان، وأن يبرز دور والده في مشواره الفني عبر هذا المعرض؛ حيث يحتضن جدران الغاليري مجسماً ضخماً لـ«استوديو كمال»؛ وهو اسم محل التصوير الذي افتتحه والده في الستينات من القرن الماضي.

لوحة تعكس تفاصيل مصرية قديمة (الشرق الأوسط)

يقول: «أقنع والدي جدي، بإنشاء استوديو تصوير بمحل الحلاقة الخاص به في (سوق السجانة) بالخرطوم، وتم تجهيز الاستوديو مع غرفة مظلمة من الخشب للتحميض، وذلك في الجزء الخلفي من الدكان».

وجوه مصرية (الشرق الأوسط)

وداخل المجسم تدفع المقتنيات الخاصة المتلقي للتفاعل مع ذكريات المر، والمؤثر الفني الذي شكل أعماله؛ ما يجعله أكثر تواصلاً، وتأثراً بلوحات المعرض؛ فالمتلقي هنا يستكشف تفاصيل تجربة الوالد في التصوير، بل يمكنه التقاط صور لنفسه داخل محله القديم!

وأثناء ذلك أيضاً يتعرف على جانب من تاريخ الفوتوغرافيا، حيث المعدات، وهي عبارة عن الكاميرا YASHIKA التي تستخدم أفلام مقاس 621 وEnlarger والستارة التي تعمل كخلفية وأدوات أخرى للتحميض والطباعة، وتجفيف الفيلم والصور بواسطة مروحة طاولة، وقص الصور بمقص يدوي: «استمر العمل لمدة سنة تقريباً، وأغلق الاستوديو قبل أن أولد، لكن امتد تأثير هذه التجربة داخلي حتى اللحظة الراهنة».

مجسم لاستوديو والد الفنان في الغاليري (الشرق الأوسط)

«احتفالية القرد والحمار» هو اسم «بوستال كارد» عثر عليه الفنان لدى تاجر روبابكيا، ويجسد مشهداً كان موجوداً في الشارع المصري قديماً؛ حيث يقدم أحد الفنانين البسطاء عرضاً احتفالياً بطلاه هما القرد والحمار، ومنه استلهم الفنان إحدى لوحات معرضه، ويقول: «تأثرت للغاية بهذا الملصق؛ وجعلت اسمه عنواناً لمعرضي؛ لأنه يجمع ما بين ملامح الجمال الخفي في مصر ما بين الفن الفطري، والسعادة لأكثر الأسباب بساطة، وصخب المدن التي لا تنام».