رحيل المفكر السويسري كونغ... عدو نظرية صدام الحضارات والثقافات

أخيراً، رحل عن هذا العالم واحد من أهم المفكرين العالميين وأكثرهم تأثيراً وحضوراً؛ إنه الفيلسوف اللاهوتي الكبير هانز كونغ. وقد وُلد في سويسرا عام 1928، وتُوفى في ألمانيا قبل شهر واحد (بتاريخ 6 أبريل/ نيسان 2021). وكان كونغ أستاذاً لعلم الدين في كلية اللاهوت بجامعة توبنجين لمدة 36 عاماً، حيث تقاعد عام 1996. وهذه الكلية هي التي خرجت العباقرة الثلاثة في القرن التاسع عشر: هيغل، وهولدرلين، وشيلنغ. كان هانز كونغ رجل دين بالدرجة الأولى، ولكنه كان مطلعاً على تاريخ الفلسفة من أولها إلى آخرها بشكل منقطع النظير. وعندما تقرأه لا تكاد تظن أنه رجل دين، وإنما فيلسوف. فقد كان واسع الاطلاع على العلوم الفيزيائية والبيولوجية والإبيستمولوجية بشكل مدهش فعلاً. ولا أعتقد أنه يوجد رجل دين واحد بهذا الحجم في العالم كله. وكان يتميز بالانفتاح على الآخرين. فقد كان، وهو الكاثوليكي، محباً للمذهب الآخر المضاد له: أي البروتستانتي. وكان يكتب عن مارتن لوثر، زعيم الإصلاح الديني مؤسس البروتستانتية، بكل مودة وإعجاب، وهذا شيء نادراً أن يصدر عن شخصية كاثوليكية. وقد أمضى قسماً كبيراً من وقته في السعي إلى إقامة التقارب بين المذاهب المسيحية، وبالأخص بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، بل أكثر من ذلك: لقد كان منفتحاً جداً على الإسلام، ويريد التقارب معه بأي شكل، وكان يكتب عن الإسلام والمسلمين بكل مودة وإعجاب أيضاً.
كان هانز كونغ العدو اللدود لنظرية صدام الحضارات والثقافات والأديان. كان يعتقد أن الناس الطيبين موجودون في كل الجهات، وكذلك الناس الأشرار. وما يهمه كان إزالة سوء التفاهم بين الناس الطيبين من مسيحيين ومسلمين ويهود، وجعلهم يتحاورون ويتقاربون ويهدمون جدران العزلة السيكولوجية الرهيبة التي تفصل بعضهم عن بعض. وكان يدعو أيضاً إلى التقارب مع البوذية والهندوسية وبقية أديان الشرق الأقصى. وقد فتح معها حواراً دينياً فلسفياً معمقاً إلى أقصى الحدود. انظر كتابه: المسيحية وأديان العالم. وانظر مذكراته أيضاً بعنوان: معركتي من أجل الحرية. كان يدعو إلى الإخاء الكوني بين الأديان والثقافات المختلفة. كان العدو اللدود لنظرية صدام الحضارات والأديان والثقافات. ولهذا السبب فقد شارك في إعادة تأسيس البرلمان العالمي للأديان في مدينة شيكاغو عام 1993، وهو البرلمان الذي دعا إليه ممثلي جميع الأديان الكبرى للبشرية، وفي طليعتها الإسلام. ثم دشن بعدئذ مؤسسة كبيرة تحت اسم: مؤسسة الأخلاق الكونية. وهي تهدف إلى تقوية التعاون بين الأديان الكبرى التي تؤمن بالمبادئ الأخلاقية ذاتها، على اختلاف عقائدها وطقوسها وشعائرها. فهناك نواة أخلاقية مصغرة مشتركة بين جميع الأديان الكبرى للبشرية، وهي ما ندعوه في الإسلام بمكارم الأخلاق. وفي عام 1996، جرت مناظرة عميقة بين هانز كونغ الكاثوليكي والفيلسوف البروتستانتي الكبير بول ريكور حول «بيان من أجل الأخلاق الكونية للعالم»، وهو البيان الذي كان هانز كونغ قد دبجه ونشره عالمياً.
ولا ننسى أنه هو مؤلف الثلاثية الشهيرة عن الأديان التوحيدية الكبرى: أي اليهودية (1980)، والمسيحية (1994)، والإسلام (2010). وكل واحد من هذه الكتب يحاذي الألف صفحة أو يتجاوز ذلك. يقول عن الإسلام مثلاً ما معناه: أصبح واضحاً أننا نعيش منعطفاً خطيراً حساساً فيما يخص العلاقات الدولية، وبالأخص العلاقات بين الغرب والإسلام، وهذا يشمل أيضاً العلاقة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ونحن نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التنافس الصراعي بين الأديان وصدام الثقافات والحضارات، وإما الحوار بين الثقافات وتحقيق السلام والتآخي بين الأديان. وهذا شرط أساسي لتحقيق السلام بين الأمم والشعوب. ولذلك طرحت الشعار التالي: لا سلام في العالم من دون سلام بين الأديان. ثم يردف البروفسور هانز كونغ قائلاً: لكي نتحاشى هذا الخطر القاتل الذي يتهدد البشرية، فإنه من الملح العاجل أن نهدم الجدران العدائية العازلة بين الشعوب. ينبغي تفكيك الأحكام المسبقة السائدة عند كل دين ضد الأديان الأخرى. ماذا يقول المسيحي في جلساته الخاصة عن المسلم مثلاً؟ أو العكس؟ وماذا يقول اليهودي عنهما كليهما؟ شيء مرعب في كل الحالات! إنها تصورات عدائية سوداء متبادلة بين جميع الأطراف متوارثة على مدار القرون؛ إنها كليشيهات طائفية مسمومة موروثة عن العصور الوسطى. باختصار شديد، ينبغي أن نتجاوز كل ذلك، ونطوي صفحة الماضي الأليم. ينبغي أن نقيم جسور الحوار والتفاهم بين الأديان لكي نعرف ماذا يجمع بيننا وماذا يفرق. ينبغي أن نخرج من عقلية النبذ والتكفير التي سادت القرون الوسطى كلها (بين قوسين: لقد طبقت الإمارات العربية المتحدة هذا البرنامج الحضاري المستقبلي حرفياً عندما أصدرت وثيقة الأخوة الإنسانية، وعندما أنشأت بيت العائلة الإبراهيمية في أبوظبي).
في عام 1989، نشر هانز كونغ كتاباً مهماً بعنوان: من أجل لاهوت جديد يليق بالقرن الحادي والعشرين. وفيه طرح هذا السؤال: إلى أين يذهب اللاهوت الديني؟ إلى أين يذهب علم الدين في جوهره ومحتواه؟ وفيه يقول إنه ينبغي على علم اللاهوت أن يحل ثلاثة تحديات. التحدي الأول يتمثل في إقامة التقارب بين المذاهب المسيحية الثلاثة: الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانتية. ومعلوم أن الحروب والعداءات واللعنات التكفيرية اشتعلت بينها على مدار القرون، وقد آن لها أن تنتهي. ينبغي أن تخرج من قوقعتها المذهبية الضيقة لكي تتلاقى على أرضية أوسع وأهم: أي أرضية المبادئ الإنجيلية الكبرى. وهذا ما حصل في الواقع بعد أن استنارت أوروبا وتطورت وتجاوزت المرحلة الطائفية كلياً. وأما التحدي الثاني فيخص إقامة التقارب بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة: أي اليهودية، والمسيحية، والإسلام. وهنا نجد أن المهمة أشد صعوبة وعسراً، ولكنها ليست مستحيلة إذا ما صدقت النوايا وصلحت الأعمال. وأما التحدي الثالث فيخص ما يلي: ينبغي على علم اللاهوت الديني أن يجدد موديلاته التأويلية أو نماذجه المعرفية أو باراديغماته كما يقول علماء الإبيستمولوجيا وفلسفة العلوم. وهذا ما فعلته العلوم الطبيعية والفيزيائية، فلماذا لا تفعله العلوم الدينية؟ ثم يقدم الفيلسوف اللاهوتي الشهير النصيحة التالية: ينبغي أن يجدد علم اللاهوت فهمه القديم الانغلاقي المتزمت للدين لأنه لم يعد صالحاً لهذا العصر (بين قوسين: هذه النصيحة تكاد تكون موجهة شخصياً لجماعة الإخوان المسلمين). فنحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، لا في العصور الوسطى المظلمات. نحن نعيش في عالم العلوم الفيزيائية والبيولوجية والتكنولوجية المتطورة جداً. نحن نعيش في عالم يسوده العقل النقدي المستنير والتطور الفلسفي الكبير وانفتاح العالم بعضه على بعض. وينبغي على العلوم الدينية أن تساير كل ذلك، وأن تستوعبه. ينبغي أن تسير في اتجاه حركة التاريخ، لا عكسها (بين قوسين أيضاً: هذا ما فهمه جيداً ولي العهد القائد المستنير محمد بن سلمان. انظر تصريحاته المفعمة بالعقل والحكمة على التلفزيون السعودي مؤخراً). ثم يضيف البروفسور هانز كونغ قائلاً: نحن نعيش في عالم الحداثة على الأصعدة والمستويات كافة، ولكننا نعيش أيضاً في عالم ما بعد الحداثة الذي كشف عن نواقص الحداثة. باختصار شديد، فإنه يلزمنا فكر ديني مرن جداً متنور جداً أيضاً. لقد حققت الحداثة التنوير الديني، بدءاً من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، وحسناً فعلت. ولكنها خرجت من الدين كلياً، ووقعت في التطرف المعاكس. ولذلك يجب علينا نقد انحرافات الحداثة وشططها. وفي نهاية المطاف، فنحن بحاجة إلى تدين ما بعد التنوير وما بعد الحداثة!