فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

المغامرة الأوروبية لرئيس نادي ريال مدريد تشبه «كارثة آرمادا»

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية
TT

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

منذ بداية تفشي جائحة «كوفيد – 19» مطالع ربيع العام الفائت، لم يتقدم أي خبر في وسائل الإعلام الأوروبية على وقائع الفيروس وتطوراته إلى أن كُشف النقاب يوم 18 أبريل (نيسان) الفائت عن مشروع «السوبر ليغا» أو «دوري الكبار».
هذا المشروع كان سيجمع 12 نادياً تملك أقوى فرق كرة القدم الأوروبية، وتعد أغنى الأندية وأنجحها، على أن تنضم إليها لاحقاً ثلاثة أندية أخرى هي بايرن ميونيخ وبوروسيا دورتموند من ألمانيا وباريس سان جيرمان، فيما يشبه الدوري «الارستقراطي» خارج دائرة الاتحادات الوطنية والإقليمية والدولية لهذه الرياضة.
فلورنتينو بيريز، رئيس نادي ريال مدريد، أحد أعرق أندية كرة القدم في إسبانيا والعالم، والمتوج 13 مرة بطلاً للأندية الأوروبية منذ تأسيس هذه البطولة في العام 1955، كان رائد هذا المشروع الذي اعتمل وراء الكواليس منذ سنوات. ولقد تشكلت معالم {دوري السوبر} النهائية في انتظار اللحظة المناسبة لإطلاقه، ولكن لم يُكتب له من العمر سوى 48 ساعة.

تخرج فلورنتينو بيريز في معهد البوليتكنيك التابع لجامعة مدريد، وتدرج في وظائف عمومية عدة في إسبانيا، قبل أن يدخل المعترك السياسي في العام 1976 عضواً في حزب «اتحاد الوسط الديمقراطي» الذي أسسه أدولفو سواريز، أول رئيس للوزراء في إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو.
بعدها تولى بيريز مناصب في مجلس بلدية مدريد، ثم في وزارات الصناعة والطاقة والنقل والزراعة، قبل أن ينتقل إلى القطاع الخاص، عندما قرر في العام 1983 مع مجموعة من رجال الأعمال شراء شركة للمقاولات كانت تواجه مصاعب مالية. وهي الشركة التي جعل منها «رأس حربة» لتنفيذ سلسلة من المشاريع الكبرى للبناء والبنى التحتية في الفترة التي كانت إسبانيا تنفتح على العالم وتعد للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة بعد أربعة قرون من العزلة.
هذه الشركة، التي يملك فلورنتينو بيريز الحصة الأكبر من أسهمها، ما لبثت أن أصبحت كبرى شركات المقاولات في إسبانيا وواحدة من كبرى الشركات الأوروبية، بعدما اشترت شركة «ابرتيس» الفرنسية ودخلت بحصة كبرى في شركة «اتلانتيس» الإيطالية. ولها حالياً فروع في القارات الخمس، ويقدر رأسمالها في سوق الأسهم الإسبانية بما يزيد على 22 مليار دولار أميركي.

- أحلامه مع ريال مدريد
عام 1994، ترشح بيريز لرئاسة نادي ريال مدريد، لكنه فشل في تحقيق الهدف الذي قال يوماً إنه كان يحلم به منذ الصغر. ثم عاود الكرة في عام 2000، واعداً الناخبين بأنه في حال فوزه سيتعاقد مع اللاعب البرتغالي لويس فيغو، الذي كان يومذاك النجم الأبرز في نادي برشلونة، الغريم التقليدي للريال ومنافسه الأول على صدارة المشهد الإسباني لكرة القدم. وبالفعل هذا ما حصل.
إذ بعد أشهر من فوزه في تلك الانتخابات، أعلن التعاقد مع فيغو، الذي انضم إلى ريال مدريد في الموسم التالي بعدما دفع الريال في حينه مبلغ 62 مليون يورو ثمناً لفيغو، في أغلى صفقة لشراء لاعب حتى ذلك التاريخ. وهكذا فتح بيريز باب الصفقات الكبيرة التي خرجت عن السيطرة وغدت بمثابة أشبه بـ«مناطحة» بين الأندية الثرية لاجتذاب كبار النجوم، طمعاً بالشهرة والفوز بالألقاب، وترويجاً لعلاماتها التجارية. وبعد فيغو كرت سبحة النجوم الكبار من زين الدين زيدان إلى ديفيد بيكهام ورونالدو وروبرتو كارلوس... ووصولاً إلى كريستيانو رونالدو، حتى أطلق على تلك النخبة من اللاعبين لقب «لوس غالاكتيكوس» Los Galacticos، أي «الآتون من مجرة أخرى».
ما كان الهدف الذي سعى فلورنتينو بيريز إلى تحقيقه بالتعاقد مع هذه الكوكبة من النجوم مقصوراً على الفوز بالبطولات المحلية والدولية، بل شمل سعيه إلى تحويل الريال إلى علامة تجارية (ماركة) كبرى يمكن تصديرها إلى كل أنحاء العالم. ولتحقيق هذا الهدف لجأ إلى بيع عقارات الملاعب والمنشآت التاريخية التي تتدرب فيها فرق النادي على تخوم ضواحي مدريد الشمالية بمبلغ 480 مليون يورو. ثم شيّد أربع ناطحات سحاب يتردد أنه أعطاها أسماء فيغو وزيدان ورونالدو وبيكهام للدلالة على أنه بفضلها تمكن من شراء أولئك اللاعبين الأربعة.

- استقالة ثم عودة
بيريز استقال عام 2006 من رئاسة النادي بعد فشله في كسب أكثر من لقبين فقط لبطولة الدوري الإسباني، وامتنعت عليه بطولة الأندية الأوروبية التي تضعها الأندية الكبرى - خاصة الريال - في طليعة أهدافها كل موسم. إلا أنه عاد وترشح لرئاسة النادي بعد ذلك بثلاث سنوات، ففاز وغيّر هذه المرة سياسته التعاقدية بصورة جذرية، ما أتاح للريال أن يفوز حتى اليوم بثلاثة ألقاب للدوري المحلي وأربع بطولات للأندية الأوروبية. وعندما فاز برئاسة النادي مرة أخرى - بالتزكية - في يوم 13 أبريل الفائت، فإنه فاخر بأن ريال مدريد إبان فترات رئاسته حصد 47 لقباً: 21 بطولة لكرة السلة، و26 لكرة القدم منها خمس بطولات للأندية الأوروبية وخمس بطولات عالمية للأندية وأربع بطولات لحاملي ألقاب الدوري والكؤوس المحلية في أوروبا، فضلاً عن بطولات الدوري الإسباني والكأس الإسبانية.
وفعلاً، كانت الولايات الأخيرة لفلورنتينو بيريز في رئاسة الريال مدريد حافلة بالانتصارات والإنجازات الرياضية، إلا أنها كانت أيضاً مرحلة راكم فيها النادي ديوناً كبيرة بسبب المشاريع الضخمة التي أطلقها قبل أن يصطدم بجائحة «كوفيد – 19» التي أدخلت عالم الرياضة في غيبوبة ما زال يجد صعوبة في الخروج منها. وعلى غرار العديد من الأندية الأوروبية الكبرى، يواجه ريال مدريد استحقاقات مكلفة جداً لسداد ديونه، مثل القرض المصرفي بقيمة 575 مليون يورو لتمويل مشروع تحديث ملعبه الشهير «سانتياغو برنابيو» في قلب العاصمة، والقرض الذي حصل عليه من الحكومة بقيمة 200 مليون يورو لمواجهة تداعيات الجائحة. ويقدر الخبراء بأن الإيرادات التي خسرها النادي بسبب الجائحة تزيد على 400 مليون يورو.

- «السوبر ليغا» و«الآرمادا»
المطلعون على ما يجري في الدوائر العليا لكرة القدم الأوروبية يعرفون أن فكرة «السوبر ليغا» كانت تراود فلورنتينو بيريز منذ سنوات، وأنه ينشط منذ عقدين لإقناع الأندية الكبرى بالانضمام إلى المشروع الذي يعتبر أن ريال مدريد، نظراً لسجله التاريخي، هو المرشح الطبيعي لقيادته. كذلك، يعرف المطلعون أن هذا المشروع يواجه معارضة شديدة من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي يخشى فقدان سيطرته على المصدر الأساسي للموارد المالية التي تدرها كرة القدم، ناهيك عن معارضة الاتحادات الوطنية التي ستضطر للاكتفاء بفتات الإيرادات التي سيذهب معظمها إلى الأندية الكبرى.
في أي حال، رأى بيريز، الذي كان يتحين الفرصة منذ سنوات لإطلاق هذا المشروع، أن الأزمة العميقة التي تعيشها كرة القدم بسبب الجائحة، والوضع الاقتصادي الحرج الذي تعاني منه معظم الأندية الأوروبية الكبرى، يشكلان الفرصة السانحة لتحقيق حلمه الرياضي الأكبر والخروج من الضائقة المالية التي يرزح الريال تحت وطأتها.
لكن ماذا حصل... فأفشل هذا المشروع بعد أقل من 48 ساعة على إطلاقه وتصدره النشرات الإخبارية في وسائل الإعلام الأوروبية، وتهافت رؤساء الدول والحكومات على التنديد به ورفضه؟
وأين أخطأ بيريز ورؤساء الأندية الكبرى في حساباتهم وتقديراتهم؟
أحد كبار المعلقين الرياضيين الإسبان اعتبر أن الهزيمة التي تعرض لها مشروع «السوبر ليغا» بقيادة فلورنتينو بيريز «لا تعادلها في تاريخ العلاقات الخارجية الإسبانية سوى هزيمة أسطول «الآرمادا» الإسباني الجبار أمام السواحل البريطانية في مثل هذه الأيام من العام 1588، عندما حاول العاهل الإسباني الملك فيليبي الثاني احتلال بريطانيا وإخضاعها للسيطرة الكاثوليكية.
يومذاك كانت إسبانيا تملك أقوى أسطول بحري في العالم، ويمتد نفوذها من أوروبا إلى الفلبين بشرق آسيا، بعدما بسطت سيطرتها على معظم القارة الأميركية. غير أن عوامل الطبيعة، التي لم تكن في الحساب، خانت الأسطول الإسباني عندما هبت عليه عاصفة هوجاء أغرقت ثلث سفنه وأجبرت الباقي على العودة إلى سواحل البرتغال وإسبانيا. ويقول المؤرخون إن بعض مستشاري فيليبي الثاني كانوا قد حذروه من مخاطر الأنواء البحرية في تلك الفترة من السنة، لكنه مال إلى الغرور اعتقاداً منه أن أحداً لن يتمكن من الوقوف بوجه قوته العسكرية الضاربة.
الشيء نفسه حصل مع رئيس نادي ريال مدريد في محاولته الهيمنة على كرة القدم الأوروبية عبر مشروع «السوبر ليغا»، إذ فوجئ بالتصريحات الفورية المضادة التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية والانتفاضات الشعبية الحاشدة لجماهير كرة القدم والعديد من رموزها بجانب الاتحادات المحلية والإقليمية والدولية.
في حسابات فلورنتينو بيريز وأعوانه، وعلى رأسهم أندريا أنييلي، رئيس نادي يوفنتوس - أغنى أندية إيطاليا - كانت كل الشروط متوافرة لنجاح المشروع: الحوافز المالية ظاهرة للجميع وكافية للقبول بالصفقة، والبطولات الوطنية لا يمكن أن تجازف بخسارة نخبة نواديها، كما أن الفرق الوطنية لن تتخلى عن أفضل اللاعبين الذين سيشاركون في مباريات «السوبر ليغا». ولكن لم يخطر في بال بيريز أن المصلحة المادية ليست وحدها التي تحرك الجماهير، وأن البعض إذا وضعوا أمام خيار الحصول على 10 في المائة من صفقة مقابل 90 في المائة للطرف الآخر سيفضل قلب الطاولة وإفشال الصفقة.
وبينما اختفى أندريا آنييلي عن الأضواء تقريباً، أصر فلورنتينو بيريز على الظهور في وسائل الإعلام من غير أن يخفي مرارته ودهشته لما وصفه بـ«العدوانية المنظمة» ضد المشروع، موجهاً أصابع الاتهام إلى الأندية الإنجليزية، وبالتحديد إلى مانشستر سيتي، ملمحاً إلى أنه وراء المؤامرة لإجهاض المشروع بعدما كان من أشد المتحمسين له.
ومن ثم حذر بيريز من أن المشروع هو «خشبة الخلاص الوحيدة للأندية التي ترزح تحت أعباء الخسائر والديون بسبب الجائحة... وأن القلة التي ستنجو من الإفلاس هي التي تملكها الدول أو أصحاب الثروات الكبيرة». وتابع في تحذيره «أن المواقف التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية ليست رياضية على الإطلاق، بل يقف خلفها أولئك القادة على أبواب انتخابات ولا يريدون المجازفة بشعبيتهم».
الهزيمة التي مُني بها أسطول «الآرمادا»، أواخر القرن الـ16 الميلادي، لم تمنع استمرار الحرب بين بريطانيا وإسبانيا لـ16 سنة، قبل أن تنتهي بمعاهدة سلام لصالح التاج الإسباني. والذين يعرفون فلورنتينو بيريز جيداً يؤكدون أنه لن يتخلى عن هذا المشروع... الذي يعتبره تتويجاً لمسيرته الشخصية والرياضية.


مقالات ذات صلة

برشلونة يغلق منطقة المشجعين الخاصة بسبب سوء السلوك

رياضة عالمية نادي برشلونة يغلق منطقة خاصة في ملعبه مخصصة لجماهيره الأكثر حماسة بعد سلسلة من الغرامات بسبب سوء السلوك (رويترز)

برشلونة يغلق منطقة المشجعين الخاصة بسبب سوء السلوك

أغلق نادي برشلونة الإسباني لكرة القدم منطقةً خاصةً في ملعبه، مخصصة لجماهيره الأكثر حماسة، بعد سلسلة من الغرامات؛ بسبب سوء السلوك.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية هانزي فليك (أ.ف.ب)

فليك للاعبي برشلونة: يجب أن نتخلص من الأخطاء

شدد المدرب الألماني هانزي فليك الإثنين عشية لقاء بريست الفرنسي في مسابقة دوري أبطال أوروبا، على ضرورة أن يتخلص فريقه برشلونة من الأخطاء التي كلفته خسارة نقطتين.

«الشرق الأوسط» (برشلونة)
رياضة عالمية فينسيسوس جونيور (رويترز)

ضربة موجعة لريال مدريد... إصابة فينسيسوس تغيبه شهراً

تعرض المهاجم الدولي البرازيلي فينسيسوس جونيور لإصابة في عضلة الفخذ الخلفية ما سيبعده لفترة عن فريقه ريال مدريد بطل الدوري الإسباني ومسابقة دوري أبطال أوروبا.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية كيليان مبابي (رويترز)

مبابي: بدأت الانسجام مع لاعبي الريال

يعتقد كيليان مبابي أنه انسجم أخيراً مع زملائه بريال مدريد، بعد تسجيله هدفاً في الفوز 3-0 على مضيفه ليغانيس، بدوري الدرجة الأولى الإسباني لكرة القدم، أمس الأحد.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية أعرب أنشيلوتي عن ثقته في أن قراره الخططي بتغيير موقع كيليان مبابي في الهجوم أتى بثماره (رويترز)

أنشيلوتي: تغيير موقع مبابي أتى بثماره أمام ليغانيس

أعرب كارلو أنشيلوتي مدرب ريال مدريد عن ثقته بأن قراره الخططي بتغيير موقع كيليان مبابي في الهجوم أتى بثماره بعدما أنهى الفرنسي صيامه عن التهديف بالفوز 3 - صفر

«الشرق الأوسط» (ليغانيس)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.