فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

المغامرة الأوروبية لرئيس نادي ريال مدريد تشبه «كارثة آرمادا»

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية
TT

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

فلورنتينو بيريز... قائد مؤامرة «دوري السوبر» الكروية

منذ بداية تفشي جائحة «كوفيد – 19» مطالع ربيع العام الفائت، لم يتقدم أي خبر في وسائل الإعلام الأوروبية على وقائع الفيروس وتطوراته إلى أن كُشف النقاب يوم 18 أبريل (نيسان) الفائت عن مشروع «السوبر ليغا» أو «دوري الكبار».
هذا المشروع كان سيجمع 12 نادياً تملك أقوى فرق كرة القدم الأوروبية، وتعد أغنى الأندية وأنجحها، على أن تنضم إليها لاحقاً ثلاثة أندية أخرى هي بايرن ميونيخ وبوروسيا دورتموند من ألمانيا وباريس سان جيرمان، فيما يشبه الدوري «الارستقراطي» خارج دائرة الاتحادات الوطنية والإقليمية والدولية لهذه الرياضة.
فلورنتينو بيريز، رئيس نادي ريال مدريد، أحد أعرق أندية كرة القدم في إسبانيا والعالم، والمتوج 13 مرة بطلاً للأندية الأوروبية منذ تأسيس هذه البطولة في العام 1955، كان رائد هذا المشروع الذي اعتمل وراء الكواليس منذ سنوات. ولقد تشكلت معالم {دوري السوبر} النهائية في انتظار اللحظة المناسبة لإطلاقه، ولكن لم يُكتب له من العمر سوى 48 ساعة.

تخرج فلورنتينو بيريز في معهد البوليتكنيك التابع لجامعة مدريد، وتدرج في وظائف عمومية عدة في إسبانيا، قبل أن يدخل المعترك السياسي في العام 1976 عضواً في حزب «اتحاد الوسط الديمقراطي» الذي أسسه أدولفو سواريز، أول رئيس للوزراء في إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو.
بعدها تولى بيريز مناصب في مجلس بلدية مدريد، ثم في وزارات الصناعة والطاقة والنقل والزراعة، قبل أن ينتقل إلى القطاع الخاص، عندما قرر في العام 1983 مع مجموعة من رجال الأعمال شراء شركة للمقاولات كانت تواجه مصاعب مالية. وهي الشركة التي جعل منها «رأس حربة» لتنفيذ سلسلة من المشاريع الكبرى للبناء والبنى التحتية في الفترة التي كانت إسبانيا تنفتح على العالم وتعد للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة بعد أربعة قرون من العزلة.
هذه الشركة، التي يملك فلورنتينو بيريز الحصة الأكبر من أسهمها، ما لبثت أن أصبحت كبرى شركات المقاولات في إسبانيا وواحدة من كبرى الشركات الأوروبية، بعدما اشترت شركة «ابرتيس» الفرنسية ودخلت بحصة كبرى في شركة «اتلانتيس» الإيطالية. ولها حالياً فروع في القارات الخمس، ويقدر رأسمالها في سوق الأسهم الإسبانية بما يزيد على 22 مليار دولار أميركي.

- أحلامه مع ريال مدريد
عام 1994، ترشح بيريز لرئاسة نادي ريال مدريد، لكنه فشل في تحقيق الهدف الذي قال يوماً إنه كان يحلم به منذ الصغر. ثم عاود الكرة في عام 2000، واعداً الناخبين بأنه في حال فوزه سيتعاقد مع اللاعب البرتغالي لويس فيغو، الذي كان يومذاك النجم الأبرز في نادي برشلونة، الغريم التقليدي للريال ومنافسه الأول على صدارة المشهد الإسباني لكرة القدم. وبالفعل هذا ما حصل.
إذ بعد أشهر من فوزه في تلك الانتخابات، أعلن التعاقد مع فيغو، الذي انضم إلى ريال مدريد في الموسم التالي بعدما دفع الريال في حينه مبلغ 62 مليون يورو ثمناً لفيغو، في أغلى صفقة لشراء لاعب حتى ذلك التاريخ. وهكذا فتح بيريز باب الصفقات الكبيرة التي خرجت عن السيطرة وغدت بمثابة أشبه بـ«مناطحة» بين الأندية الثرية لاجتذاب كبار النجوم، طمعاً بالشهرة والفوز بالألقاب، وترويجاً لعلاماتها التجارية. وبعد فيغو كرت سبحة النجوم الكبار من زين الدين زيدان إلى ديفيد بيكهام ورونالدو وروبرتو كارلوس... ووصولاً إلى كريستيانو رونالدو، حتى أطلق على تلك النخبة من اللاعبين لقب «لوس غالاكتيكوس» Los Galacticos، أي «الآتون من مجرة أخرى».
ما كان الهدف الذي سعى فلورنتينو بيريز إلى تحقيقه بالتعاقد مع هذه الكوكبة من النجوم مقصوراً على الفوز بالبطولات المحلية والدولية، بل شمل سعيه إلى تحويل الريال إلى علامة تجارية (ماركة) كبرى يمكن تصديرها إلى كل أنحاء العالم. ولتحقيق هذا الهدف لجأ إلى بيع عقارات الملاعب والمنشآت التاريخية التي تتدرب فيها فرق النادي على تخوم ضواحي مدريد الشمالية بمبلغ 480 مليون يورو. ثم شيّد أربع ناطحات سحاب يتردد أنه أعطاها أسماء فيغو وزيدان ورونالدو وبيكهام للدلالة على أنه بفضلها تمكن من شراء أولئك اللاعبين الأربعة.

- استقالة ثم عودة
بيريز استقال عام 2006 من رئاسة النادي بعد فشله في كسب أكثر من لقبين فقط لبطولة الدوري الإسباني، وامتنعت عليه بطولة الأندية الأوروبية التي تضعها الأندية الكبرى - خاصة الريال - في طليعة أهدافها كل موسم. إلا أنه عاد وترشح لرئاسة النادي بعد ذلك بثلاث سنوات، ففاز وغيّر هذه المرة سياسته التعاقدية بصورة جذرية، ما أتاح للريال أن يفوز حتى اليوم بثلاثة ألقاب للدوري المحلي وأربع بطولات للأندية الأوروبية. وعندما فاز برئاسة النادي مرة أخرى - بالتزكية - في يوم 13 أبريل الفائت، فإنه فاخر بأن ريال مدريد إبان فترات رئاسته حصد 47 لقباً: 21 بطولة لكرة السلة، و26 لكرة القدم منها خمس بطولات للأندية الأوروبية وخمس بطولات عالمية للأندية وأربع بطولات لحاملي ألقاب الدوري والكؤوس المحلية في أوروبا، فضلاً عن بطولات الدوري الإسباني والكأس الإسبانية.
وفعلاً، كانت الولايات الأخيرة لفلورنتينو بيريز في رئاسة الريال مدريد حافلة بالانتصارات والإنجازات الرياضية، إلا أنها كانت أيضاً مرحلة راكم فيها النادي ديوناً كبيرة بسبب المشاريع الضخمة التي أطلقها قبل أن يصطدم بجائحة «كوفيد – 19» التي أدخلت عالم الرياضة في غيبوبة ما زال يجد صعوبة في الخروج منها. وعلى غرار العديد من الأندية الأوروبية الكبرى، يواجه ريال مدريد استحقاقات مكلفة جداً لسداد ديونه، مثل القرض المصرفي بقيمة 575 مليون يورو لتمويل مشروع تحديث ملعبه الشهير «سانتياغو برنابيو» في قلب العاصمة، والقرض الذي حصل عليه من الحكومة بقيمة 200 مليون يورو لمواجهة تداعيات الجائحة. ويقدر الخبراء بأن الإيرادات التي خسرها النادي بسبب الجائحة تزيد على 400 مليون يورو.

- «السوبر ليغا» و«الآرمادا»
المطلعون على ما يجري في الدوائر العليا لكرة القدم الأوروبية يعرفون أن فكرة «السوبر ليغا» كانت تراود فلورنتينو بيريز منذ سنوات، وأنه ينشط منذ عقدين لإقناع الأندية الكبرى بالانضمام إلى المشروع الذي يعتبر أن ريال مدريد، نظراً لسجله التاريخي، هو المرشح الطبيعي لقيادته. كذلك، يعرف المطلعون أن هذا المشروع يواجه معارضة شديدة من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، الذي يخشى فقدان سيطرته على المصدر الأساسي للموارد المالية التي تدرها كرة القدم، ناهيك عن معارضة الاتحادات الوطنية التي ستضطر للاكتفاء بفتات الإيرادات التي سيذهب معظمها إلى الأندية الكبرى.
في أي حال، رأى بيريز، الذي كان يتحين الفرصة منذ سنوات لإطلاق هذا المشروع، أن الأزمة العميقة التي تعيشها كرة القدم بسبب الجائحة، والوضع الاقتصادي الحرج الذي تعاني منه معظم الأندية الأوروبية الكبرى، يشكلان الفرصة السانحة لتحقيق حلمه الرياضي الأكبر والخروج من الضائقة المالية التي يرزح الريال تحت وطأتها.
لكن ماذا حصل... فأفشل هذا المشروع بعد أقل من 48 ساعة على إطلاقه وتصدره النشرات الإخبارية في وسائل الإعلام الأوروبية، وتهافت رؤساء الدول والحكومات على التنديد به ورفضه؟
وأين أخطأ بيريز ورؤساء الأندية الكبرى في حساباتهم وتقديراتهم؟
أحد كبار المعلقين الرياضيين الإسبان اعتبر أن الهزيمة التي تعرض لها مشروع «السوبر ليغا» بقيادة فلورنتينو بيريز «لا تعادلها في تاريخ العلاقات الخارجية الإسبانية سوى هزيمة أسطول «الآرمادا» الإسباني الجبار أمام السواحل البريطانية في مثل هذه الأيام من العام 1588، عندما حاول العاهل الإسباني الملك فيليبي الثاني احتلال بريطانيا وإخضاعها للسيطرة الكاثوليكية.
يومذاك كانت إسبانيا تملك أقوى أسطول بحري في العالم، ويمتد نفوذها من أوروبا إلى الفلبين بشرق آسيا، بعدما بسطت سيطرتها على معظم القارة الأميركية. غير أن عوامل الطبيعة، التي لم تكن في الحساب، خانت الأسطول الإسباني عندما هبت عليه عاصفة هوجاء أغرقت ثلث سفنه وأجبرت الباقي على العودة إلى سواحل البرتغال وإسبانيا. ويقول المؤرخون إن بعض مستشاري فيليبي الثاني كانوا قد حذروه من مخاطر الأنواء البحرية في تلك الفترة من السنة، لكنه مال إلى الغرور اعتقاداً منه أن أحداً لن يتمكن من الوقوف بوجه قوته العسكرية الضاربة.
الشيء نفسه حصل مع رئيس نادي ريال مدريد في محاولته الهيمنة على كرة القدم الأوروبية عبر مشروع «السوبر ليغا»، إذ فوجئ بالتصريحات الفورية المضادة التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية والانتفاضات الشعبية الحاشدة لجماهير كرة القدم والعديد من رموزها بجانب الاتحادات المحلية والإقليمية والدولية.
في حسابات فلورنتينو بيريز وأعوانه، وعلى رأسهم أندريا أنييلي، رئيس نادي يوفنتوس - أغنى أندية إيطاليا - كانت كل الشروط متوافرة لنجاح المشروع: الحوافز المالية ظاهرة للجميع وكافية للقبول بالصفقة، والبطولات الوطنية لا يمكن أن تجازف بخسارة نخبة نواديها، كما أن الفرق الوطنية لن تتخلى عن أفضل اللاعبين الذين سيشاركون في مباريات «السوبر ليغا». ولكن لم يخطر في بال بيريز أن المصلحة المادية ليست وحدها التي تحرك الجماهير، وأن البعض إذا وضعوا أمام خيار الحصول على 10 في المائة من صفقة مقابل 90 في المائة للطرف الآخر سيفضل قلب الطاولة وإفشال الصفقة.
وبينما اختفى أندريا آنييلي عن الأضواء تقريباً، أصر فلورنتينو بيريز على الظهور في وسائل الإعلام من غير أن يخفي مرارته ودهشته لما وصفه بـ«العدوانية المنظمة» ضد المشروع، موجهاً أصابع الاتهام إلى الأندية الإنجليزية، وبالتحديد إلى مانشستر سيتي، ملمحاً إلى أنه وراء المؤامرة لإجهاض المشروع بعدما كان من أشد المتحمسين له.
ومن ثم حذر بيريز من أن المشروع هو «خشبة الخلاص الوحيدة للأندية التي ترزح تحت أعباء الخسائر والديون بسبب الجائحة... وأن القلة التي ستنجو من الإفلاس هي التي تملكها الدول أو أصحاب الثروات الكبيرة». وتابع في تحذيره «أن المواقف التي صدرت عن قادة الدول الأوروبية ليست رياضية على الإطلاق، بل يقف خلفها أولئك القادة على أبواب انتخابات ولا يريدون المجازفة بشعبيتهم».
الهزيمة التي مُني بها أسطول «الآرمادا»، أواخر القرن الـ16 الميلادي، لم تمنع استمرار الحرب بين بريطانيا وإسبانيا لـ16 سنة، قبل أن تنتهي بمعاهدة سلام لصالح التاج الإسباني. والذين يعرفون فلورنتينو بيريز جيداً يؤكدون أنه لن يتخلى عن هذا المشروع... الذي يعتبره تتويجاً لمسيرته الشخصية والرياضية.


مقالات ذات صلة

برشلونة يغلق منطقة المشجعين الخاصة بسبب سوء السلوك

رياضة عالمية نادي برشلونة يغلق منطقة خاصة في ملعبه مخصصة لجماهيره الأكثر حماسة بعد سلسلة من الغرامات بسبب سوء السلوك (رويترز)

برشلونة يغلق منطقة المشجعين الخاصة بسبب سوء السلوك

أغلق نادي برشلونة الإسباني لكرة القدم منطقةً خاصةً في ملعبه، مخصصة لجماهيره الأكثر حماسة، بعد سلسلة من الغرامات؛ بسبب سوء السلوك.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية هانزي فليك (أ.ف.ب)

فليك للاعبي برشلونة: يجب أن نتخلص من الأخطاء

شدد المدرب الألماني هانزي فليك الإثنين عشية لقاء بريست الفرنسي في مسابقة دوري أبطال أوروبا، على ضرورة أن يتخلص فريقه برشلونة من الأخطاء التي كلفته خسارة نقطتين.

«الشرق الأوسط» (برشلونة)
رياضة عالمية فينسيسوس جونيور (رويترز)

ضربة موجعة لريال مدريد... إصابة فينسيسوس تغيبه شهراً

تعرض المهاجم الدولي البرازيلي فينسيسوس جونيور لإصابة في عضلة الفخذ الخلفية ما سيبعده لفترة عن فريقه ريال مدريد بطل الدوري الإسباني ومسابقة دوري أبطال أوروبا.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية كيليان مبابي (رويترز)

مبابي: بدأت الانسجام مع لاعبي الريال

يعتقد كيليان مبابي أنه انسجم أخيراً مع زملائه بريال مدريد، بعد تسجيله هدفاً في الفوز 3-0 على مضيفه ليغانيس، بدوري الدرجة الأولى الإسباني لكرة القدم، أمس الأحد.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
رياضة عالمية أعرب أنشيلوتي عن ثقته في أن قراره الخططي بتغيير موقع كيليان مبابي في الهجوم أتى بثماره (رويترز)

أنشيلوتي: تغيير موقع مبابي أتى بثماره أمام ليغانيس

أعرب كارلو أنشيلوتي مدرب ريال مدريد عن ثقته بأن قراره الخططي بتغيير موقع كيليان مبابي في الهجوم أتى بثماره بعدما أنهى الفرنسي صيامه عن التهديف بالفوز 3 - صفر

«الشرق الأوسط» (ليغانيس)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.