ظهيرة أحد الأيام منذ وقت قريب، وخلف باب بسيط في جنوب لندن، كانت هناك تحولات كيميائية ملحوظة تحدث تحت متابعة العين الساهرة للرسام فرانك بولينغ. في هذه الأثناء، تولى فريق من المساعدين له كانوا يرتدون أقنعة صناعية، تقطير الأمونيا ومسحوق الذهب وهلام الأكريليك والماء على لوحة زيتية مصنوعة من القماش ومعلقة على جدار الاستوديو الخاص ببولينغ.
وبدا الفنان البالغ 87 عاماً أنيقاً مع ارتدائه سترة مخملية خضراء، وتولى توجيه الإجراءات من على مقعد متحرك كان يجلس عليه في منتصف الغرفة.
ووجه تعليماته إلى أحد مساعديه على النحو التالي بينما كان يوجه التحركات على اللوحة القماشية المعلقة باستخدام مؤشر يعمل بالليزر: «ضع (الجل) على حواف المربع. رش مسحوق الذهب على هذا الجزء. رش الماء بكل مكان».
وأضاف: «رائع. الآن، ألق كل ما تبقى في الدلو على السطح».
وكان باستطاعة بولينغ توجيه التعليمات إلى مساعديه على هذا النحو الصريح الواضح لأنهم في حقيقة الأمر أفراد أسرته: ابنه، بين بولينغ، وابنة زوجته، مارسيا سكوت، وحفيده، سامسون ساملاند بولينغ. أما زوجته فنانة النسيج، راشيل سكوت، فقد عكفت على صنع حدود ملونة حول أعماله من خلال لصق شريط قماشي مطلي.
جدير بالذكر هنا أنه على امتداد الجزء الأكبر من حياته المهنية، التي بدأت في خمسينات القرن الماضي، حرص بولينغ على إبداع أعماله الفنية التي تتطلب جهداً بدنياً بنفسه، لكن نظراً لهشاشة حالته الصحية خلال العقد الماضي، بدأ بولينغ في التنازل عن مهام الرسم على نحو متزايد لأفراد من أسرته ـ وإن كان لا يزال مسيطراً على جميع التفاصيل، بدءاً من حجم وموضع اللوحة القماشية وصولاً إلى خلط الصبغة وطبقات الألوان، وكيفية استخدام المواد المختلفة.
وبدا واضحاً من المزاح اللطيف الذي دار داخل الاستوديو أن بولينغ يستمتع بهذه الجلسات العائلية التي تشمل أفراداً من أجيال مختلفة. وبعد سنوات كثيرة داخل أرض التيه بعالم الفن، يستمتع بولينغ اليوم بتقدير متأخر له ولأعماله. عام 2019، نظم متحف «تيت» ببريطانيا معرضاً كبيراً لأعمال بولينغ.
جدير بالذكر أن بولينغ صاغ حياته المهنية بين بريطانيا والولايات المتحدة، واعتمد على لغة بصرية تقر تقاليد رسم المناظر الطبيعية الإنجليزية والتعبيرية التجريدية الأميركية.
على الصعيد الشخصي، ولد بولينغ عام 1934 في غويانا، وكانت حينذاك مستعمرة بريطانية. واجتاز بولينغ خلال مسيرته الفنية العديد من الأساليب الفنية، منها الشكل التعبيري وفن البوب والرسم الميداني بالألوان. واشتهر بولينغ بما عرف بـ«لوحات الخرائط»، التي تذيب صوراً بانورامية ملونة مزدانة بخرائط باهتة لغويانا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. واشتهر بولينغ كذلك بشلالاته القوية من الأصباغ، التي عرفت باسم «اللوحات المصبوبة»، ونقوشه شبه المنحوتة والمرصعة بأشياء من حياتنا اليومية، من المجوهرات إلى ألعاب بلاستيكية. ورغم خلو لوحاته من الطابع التمثيلي، فإنها تعد بمثابة وثائق من حياته.
كان بولينغ قد انتقل إلى بريطانيا عام 1953 في سن الـ19، وتمكن من الفوز بمكان داخل كلية الفنون الملكية، حيث درس إلى جانب ديفيد هوكني وآر. بي. كيتاج. وتتميز لوحاته الأولى بالمظهر الخشن القاسي الذي يحمل تأثير فرانسيس بيكون الذي كان صديقاً لبولينغ لفترة وجيزة. إلا أنه بحلول وقت تخرجه عام 1962، كان بولينغ يبدع لوحات تحمل تركيبات وأشكالاً هندسية نابضة بالحياة ممزوجة بعناصر جمالية ترتبط بفن البوب.
ولاقت هذه الأعمال نجاحاً كبيراً في أوساط نقاد بلندن، إلا أنه عندما صاحب الاهتمام الدولي دعوة لتمثيل بريطانيا في المهرجان العالمي لفنون الزنوج في السنغال عام 1966، قال بولينغ إنه شعر بالانزعاج.
في ذلك الوقت، كانت مجموعة من الدول قد حصلت لتوها على الاستقلال من الحكم الاستعماري. وجاء هذا المهرجان بمثابة احتفاء بثقافة عموم أفريقيا، حيث جرى توجيه الدعوة إلى جمع من الفنانين والموسيقيين والكتاب وفناني الأداء من أبناء الشتات الأفريقي، بينهم ديوك ألينغتون وجوزفين بيكر. ومع هذا، شعر بولينغ بأنه جرى استقطابه من جانب مؤسسة فنية بريطانية ودفعه نحو الاضطلاع بدور لا يرغبه كفنان بريطاني أسود البشرة، على حد قوله.
من ناحيتها، قالت زوي وايتلي، المنسقة التي شاركت في المعرض الذي نظمه متحف «تيت» البريطاني بعنوان «روح أمة: الفن في عصر القوة السوداء»، خلال رسالة بعثت بها عبر البريد الإلكتروني أن بولينغ: «لطالما كان على علاقة معقدة مع الإمبراطورية والعرق ومع طرح أي توصيف له بخلاف أنه فنان فحسب».
وانتقل بولينغ إلى التجريد عندما انتقل إلى نيويورك عام 1966، الأمر الذي يعد مجرد مثال على سعيه المستمر ضد التيار. وأثناء ذروة حركة المطالبة بالحقوق المدنية، كان الكثير من الفنانين الملونين يبدعون أعمالاً تصويرية تتناول تجربة أبناء البشرة السمراء. في المقابل، كان بولينغ أكثر اهتماماً بأعمال رسامين مثل مارك روثكو وبارنيت نيومان وموريس لويس، الذين حرص على دمج تأثيراتهم معاً في أسلوب واحد مميز خاص به، يقوم على الزخارف المضغوطة وحقول الألوان الحالمة.
عن ذلك، قال بولينغ: «تستند كل هذه الحيل والابتكارات في عملي، أو الاكتشافات الفنية، إلى جرأة التعبيريين التجريديين».
وفي مقالات شارك بها في بعض المجلات، دافع بولينغ عن حق الفنانين أصحاب البشرة السمراء في التركيز على الجوانب الجمالية أكثر عن السياسة. وفي أعماله، ظل بولينغ يخوض تجارب مستمرة بشغف وولع مع الألوان وتكنيكات التلطيخ والرش والتناثر والتجميع والتقطيع في أعماله.
في خضم ذلك، ابتكر بولينغ منصة خشبية لصب الطلاء على اللوحات القماشية المعلقة على الجدران، وتغيير سرعة واتجاه تدفق الطلاء للسماح بما سماه «الحوادث الخاضعة للسيطرة» لتشكيل أعمال فنية.
لوحات فرانك بولينغ الجديدة {شأن عائلي}
لوحات فرانك بولينغ الجديدة {شأن عائلي}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة