تزايد تأثير الإعلام {الجديد» على الساحة التونسية

بعد 10 سنوات من إلغاء وزارته

آمال الحاج علي
آمال الحاج علي
TT

تزايد تأثير الإعلام {الجديد» على الساحة التونسية

آمال الحاج علي
آمال الحاج علي

بعد 10 سنوات من الإطاحة بحكم الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي وإلغاء وزارة الإعلام والمؤسسات الحكومية التي تشرف على قطاع الاتصال الداخلي والخارجي ما زال المشهد الإعلامي في تونس متقلباً ويعكس مشهداً سياسياً متأزماً.
ويتساءل الإعلاميون والمثقفون والسياسيون منذ وصول بعض معارضي النظام السابق إلى السلطة حول مدى إمكانية تطوير المشهد الإعلامي من دون حُسن حوكمة ملف التمويل، وإحداث مؤسسات بديلة عن وزارة الإعلام والهيئات الحكومية السابقة التي كانت تتحكم في توزيع الإعلانات وفي التمويل العمومي للقطاع. ويرى البعض أن الإجابة تتطلب فهم تطور واقع الإعلام في البلاد وتأثره بعوامل كثيرة من بينها تزايد تأثير «الإعلام الجديد» والمواقع الإلكترونية والاجتماعية مثل «فيسبوك» و«يوتيوب» و«إنستغرام».
في الواقع، تسجل جلّ الدراسات والتقارير المختصة عن تطوّر الحياة السياسية في تونس، بعد 10 سنوات من نهاية حكم بن علي، أن توسّع هامش الحريات عموماً وحرية الصحافة خاصة، يعد أهم مكسب حقيقي تحقق بعد عقود من نظام الحزب الواحد و«التعددية المنقوصة». إلا أن تراكم الصعوبات المالية في معظم مؤسسات الإعلام الحكومية والخاصة عمّق أزمة المشهد الإعلامي وعقّده، ولا سيما مع انكماش جمهور «الإعلام التقليدي» وتزايد تأثير «الإعلام الجديد» أو«الإعلام البديل» والمواقع الاجتماعية التي تحوّل فيها المواطن من «مستهلك»... إلى «منتج» أو «مواطن صحافي».
لقد ساءت الأوضاع المالية لمعظم مؤسسات القنوات التلفزيونية والإذاعية وسارت نحو الإفلاس والعجز. وهذا ما فتح الباب أمام تبادل الاتهامات بين أصحابها والصحافيين والسياسيين باللجوء إلى المال السياسي المشبوه داخلياً» وإلى «التمويل الأجنبي» و«الوقوع في فخ لعبة المحاور» الإقليمية والدولية، كما تقول آمال الحاج علي، وهي رئيسة تحرير عدد من المواقع التونسية الناطقة بالفرنسية.
وفي الوقت نفسه، صنّفت المواقع الاجتماعية سياسياً ومالياً حسب مساندتها أو معارضتها لهذا الطرف السياسي أو ذاك، حسب الأكاديمي صلاح الدين الدريدي الخبير الدولي في الإعلام. كذلك أضحت وسائل الإعلام غير التابعة للحكومة تصنَّف من حيث توجّهاتها السياسية ومواقفها تبعاً لقربها من «الغالبية الحاكمة والبرلمانية» بقيادة حزب «حركة النهضة» (الإسلامي) أو من الأطراف السياسية التي تعتبر أن «الربيع العربي» كان «مؤامرة خارجية» قادتها واشنطن وباريس وأنقرة. وتتزعم التيار الثاني عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحرّ وقيادات من «اليسار الراديكالي» الماركسي والقومي مثل حزب العمال الشيوعي و«حركة الشعب» وحزب التيار الشعبي.

المهنية والتوظيف

إلا أن بعض الندوات العلمية التي تعقد في كلية الصحافة في الجامعة التونسية، وأيضاً في مراكز الدراسات المستقلة، تعتبر أن المشهد الإعلامي التونسي ازداد تعقيداً كذلك لأن عدداً كبيراً من الصحافيين والمشرفين على المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة. إذ يقول الإعلامي الأكاديمي هاني مبارك أن هؤلاء «وقعوا في فخ الخلط بين المهنية (الحرفية) والتوظيف السياسي والحزبي والانتخابي والإيديولوجي». ومن ثم، تسبب هذا الخلط، حسب الإعلامي والكاتب نصر الدين بن حديد «في فشل وسائل الإعلام في المساهمة، قولاً وفعلاً، في إنجاح مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة التي طالب بها الشباب والشعب خلال احتجاجاته الاجتماعية في نهاية 2010 ومطلع 2011».
وحسب أستاذ الإعلام المنجي المبروكي «كانت النتيجة فشل الإعلام التونسي في الانحياز فعلاً إلى فئة الشباب والطبقات الشعبية والوسطى التي تحلم منذ أكثر من 10 سنوات بإعلام جديد لا يكون موالياً لسلطات الاستبداد والقمع والرشوة والفساد».
أيضاً، تسبب هذا الفشل، حسب الإعلامي علي اللافي، في انخراط معظم وسائل الإعلام الرسمية «في الترويج لمادة إخبارية تخدم عن قصد وعن غير قصد قوى الثورة المضادة واللوبيات السياسية والمالية والأمنية التي تسعى منذ 2011 لإجهاض الثورة مبكّراً والالتفاف عليها». ويتابع اللافي قائلاً: «تسبب ذلك في احتواء شعارات التغيير والإصلاح والثورة حيناً، وتهميشها حيناً آخر، عبر توريط وسائل الإعلام والنخب في صراعات آيديولوجية ومعارك هامشية حول العقيدة والتراث والإسلام والعلمانية، بهدف صرف أنظار الشعب وصناع القرار عن أولويات التنمية والشفافية في المعاملات الاقتصادية والسياسية».
من جهته، يربط الأكاديمي والحقوقي هيكل بن محفوظ تعقيدات المشهد الإعلامي في تونس بتأزم المشهد السياسي، معتبراً أن «الأول مرآة للثاني». ويسجّل بن محفوظ أن المتحكّمين في المشهدين السياسي والإعلامي لم يستوعبوا دروس الماضي القريب، منذ استقلال البلاد عن فرنسا في مارس (آذار)، 1956. ثم موافقة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة على «التعددية الإعلامية والسياسية» منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي في عهد رئيسي الحكومة الليبراليين الهادي نويرة ومحمد مزالي. ويكشف مدير معهد الصحافة وعلوم الأخبار السابق العميد محمد حمدان في دراسة مطوّلة أن وسائل الإعلام «ساهمت في إجهاض تجارب التعددية والانفتاح السابقة»، وخاصة بمناسبة انتخابات 1981 و1989 التي شاركت فيها المعارضة بكثافة ثم بمناسبة انتخابات 2011 و2014 و2019. وأجهضت بعض لوبيات «المصالح والآيديولوجيات المتطرفة» التعددية الإعلامية ودفعت مراراً الأوضاع نحو إفشال الانتخابات السياسية والنقابية، ثم دفع السلطات الدولة نحو أولويات أمنية بحتة في معالجة الملفات السياسية تحت يافطات عديدة من بينها «مكافحة التطرف والإرهاب».

«الأخبار الكاذبة»

غير أن المتغير الأهم في المشهدين الإعلامي والسياسي بات تزايد تأثير «الإعلام الجديد» والمواقع الاجتماعية التي دعمت ظاهرة ما يسمى بـ«الصحافي المواطن» و«جمهور فيسبوك ويوتيوب».
وقد أعد الباحث محمد العربي عزّوز دراسة مطولة عن «المواقع الاجتماعية بعد ثورة 2011» تناول فيها «تزايد خطر توظيف فيسبوك» في معارك سياسية وآيديولوجية، ونشر الأخبار الكاذبة والإشاعات والافتراء. وتوصل عزّوز إلى استنتاجات مهمة من بينها أن استخدام «فيسبوك» في تونس مرّ بمرحلتين أساسيتين:
-المرحلة الأولى قبل ثورة 2011 حين كانت الوحدة هي السمة البارزة، أي وحدة غالبية المشتركين ضد النظام السابق
-المرحلة الثانية، أي مرحلة ما بعد إسقاط حكم بن علي، وفيها انقسم «صحافيو الفيسبوك والمواقع الاجتماعية» والمتحكمون في وسائل الإعلام الحديثة، مثل «يوتيوب»، إلى فئات سياسية وآيديولوجية لكل منها ارتباطاته وقناعاته الفكرية والآيديولوجية والعقائدية.
وبالتالي، تطور الصراع من مواجهة خصم مشترك إلى مواجهة داخلية بين الفئات التي كانت لها مصلحة في إسقاط النظام السابق. وهنا اختلط الغث بالسمين، وتغيرت الأولويات: بين دعاة التصعيد و«الثورة المستمرة» وأنصار التهدئة والتوافق بين الأطراف السياسية والاستقرار والكف عن المزايدات. وثمة من يربط سلبيات المرحلة الجديدة من «الفلتان الإعلامي» بما تشهده تونس من «فلتان» سياسي ونقابي أمني، وهو ما يظهر بوضوح من خلال انتهاك أخلاقيات العمل الصحافي، وتبادل الشتائم، والخروج عن قواعد الحوار المتحضر بين الفئات المختلفة سياسياً.
وفي الوقت نفسه، انتشرت في آلاف صفحات «فيسبوك» و«يوتيوب» التي يزورها ملايين المواطنين يومياً ما يصفه معلقّون بـ«استخدامات مُغرِضة» و«حملات شيطنة وتشويه للآخر»، وما إلى ذلك من تجاوزات. وتستهدف هذه الحملات كبار المسؤولين في الدولة وقيادات الأحزاب ورجال الأعمال والنقابيين والمثقفين ونشطاء المجتمع المدني، مثلما تستهدف الصحافيين والقائمين على قطاع الإعلام التقليدي.
حسب دراسة الخبير عزّوز فإن المفارقة الظاهرة للعيان هي أن «المحافظين - الإسلاميين» أصبحوا أكثر تأثيراً في الرأي العام لأنهم الأكثر تأثيراً في «فيسبوك» من «العلمانيين واليساريين أو الحداثيين عموماً». ويقول إن ذلك ما يبدو جلياً من خلال عدد المعجبين بالصفحات ذات التوجه الديني كما تبينه الأرقام. وعليه، استنتج عزّوز أن المواقع الاجتماعية مكّنت المجموعات الفكرية والسياسية الموصوفة بـ«الرجعية» والمحافظة من التأثير أكثر في ملايين المبحرين يومياً في «عالم الإنترنت» و«وسائل الإعلام البديلة».


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.