عبر عدد من الدول الأوروبية عن قلقه من تفشي تحورات فيروس «كوفيد - 19»، خصوصاً السلالة الهندية، في كثير من دول العالم، في الوقت الذي تتلبّد سماء الهند بدخان المحارق الجماعية المرتجلة في شوارع المدن الكبرى التي تئنّ تحت وطأة أقسى الموجات الوبائية التي شهدها العالم حتى الآن. ورغم ذلك القلق تطلّ أوروبا للمرة الأولى منذ بداية هذه الأزمة على بوادر أمل في استعادة مساحات الحياة التي استولت عليها الجائحة في مناحي الترفيه والثقافة والتعليم والتجارة والسياحة، لكن من دون أن يتجرّأ أحد بعد على رفع إشارة النصر النهائي فوق جثّة هذا الفيروس الذي ما زال يتمتّع بقدرة على التحوّر والاستمرار في الفتك بالبشر.
وسجلت الهند مجددا نحو 400 ألف إصابة يومية بكوفيد-19 وحصيلة وفيات قياسية، وتواصل أمس الأحد تلقي مساعدات طبية من دول عدة تهدف الى تخفيف الضغوط عن مستشفياتها المكتظة بالمرضى وسط انقطاع في الأكسجين. وصباح أمس حطّت في نيودلهي طائرة شحن أرسلتها فرنسا محمّلة بـ28 طنا من التجهيزات الطبية وفق مراسل وكالة الصحافة الفرنسية.
ومستشفيات العاصمة الهندية مكتظة بالمرضى وتعاني من نقص حاد في الأسرة الشاغرة والأدوية والأكسجين، في شح غالبا ما تكون تداعياته فتاكة على المرضى الذين يموتون على أبواب المستشفيات لتعذّر معالجتهم. تشمل المساعدات الفرنسية ثمانية مولدات أكسجين عالية القدرة، مخصصة لتحويل الهواء إلى أكسجين طبي للمستشفيات، وفق ما أعلنته السلطات الفرنسية في بيان. وهذه التجهيزات قادرة على ملء قوارير الأكسجين بواقع 20 ألف ليتر في الساعة، وفق البيان الذي أوضح أن كل وحدة مركزية قادرة على تغذية مستشفى بسعة 250 سريرا على مدار الساعة لمدة اثني عشر عامًا.
يوم الاثنين الماضي بدأت إيطاليا خطة تدريجية حذرة لاستعادة وتيرة الحياة الطبيعية، في الوقت الذي ما زالت أرقام الوفيّات والإصابات اليومية الجديدة مرتفعة، ورغم تحذيرات الأوساط العلمية من مخاطر التسرّع الذي كانت عواقبه وخيمة في المرات السابقة. لكن الحكومة، التي اعترف رئيسها بأن القرار هو مجازفة محسوبة، شدّدت على أنها جاهزة في أي لحظة للعودة إلى فرض تدابير العزل والإقفال إذا عادت الأرقام إلى الارتفاع مجدداً. ومن جهته صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس، بقوله: «في التاسع عشر من هذا الشهر سنبدأ باستعادة فن العيش على الطريقة الفرنسية، لكن بحذر شديد ومسؤولية». وكانت الحكومة الفرنسية قد حددت هذا التاريخ كموعد مفصلي في خطة العودة التدريجية إلى وتيرة الحياة الطبيعية التي من المقرر أن تصل إلى خواتيمها نهاية الشهر المقبل، حيث يعود النشاط إلى المقاهي والمطاعم ودور السينما والمسارح والمتاحف.
من جانبها، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إن «الهدف الأول هو إعادة الحقوق الأساسية للمواطنين بأقصى سرعة ممكنة»، لكنها أوضحت أن المرحلة الانتقالية لن تكون سهلة، وأن الحكومة لن تتهاون أمام المخالفات وانتهاكات القواعد المرعيّة خلال هذه المرحلة. واللافت أن ألمانيا وإيطاليا والدول الأوروبية الأخرى التي أعلنت عن خطط الانفتاح التدريجي في الأيام الأخيرة، لم تكشف كما فعلت فرنسا عن جدول زمني تفصيلي، تحسّباً لانتكاسات لا تستبعدها الأوساط العلمية في ضوء التجارب السابقة، خصوصاً بعد الذي حصل في أوروبا بنهاية الموجة الوبائية الأولى في مثل هذه الأيام من العام الفائت، حيث تراخت الحكومات في تدابير الوقاية خلال الصيف ليعود الوباء في موجتين قاسيتين خلال الخريف والشتاء.
ويقول خبير الوبائيات السويسري أنطوان فلاهو الذي يدير معهد الصحة العالمية في جامعة جنيف: «أخطأ القادة الأوروبيون في تقديراتهم ولم يتحسّبوا لموجة الوباء الثالثة، أو رأوا أن اللقاحات سوف تخفّف الضغط على المستشفيات. لكن التطورات الأخيرة أظهرت أن موجة وبائية رابعة لم تعد مستبعدة قبل أن تتمكّن اللقاحات من منعها، خصوصاً إذا تسارعت خطط الانفتاح التي نعرف أنها تترافق عادةً مع نسبة عالية من انتهاكات تدابير الحذر والوقاية في الدول الغربية». وفي حديث هاتفي مع «الشرق الأوسط» قال فلاهو: «منذ أشهر ودائرة الخوف تتّسع في أوروبا. خوف من المستقبل وغضب أيضاً من العجز المتمادي أمام هذا الوباء، يترافق مع ازدياد انعدام الثقة بالنفس نتيجة المقارنة بالدول الأخرى التي تقدّمت في مكافحة الوباء». وأضاف: «كلّما طالت هذه الجائحة وما تستتبعه من قيود على الحياة الاجتماعية، ازدادت شهيّة الأوروبيين للحياة والحرية والتواصل المباشر مع الآخرين. لم يسبق أن عاشت القارة الأوروبية بأكملها مثل هذه الفترة الطويلة من الانطواء والعزلة، والناس تتوق بشدّة إلى موعد مع الانفراج والعودة إلى الحرية والفرح كما حصل بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية».
ومن المخاوف الأخرى التي تساور الحكومات الأوروبية نتيجة هذه الخطط للعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، ما يمكن أن ينشأ عنها من توتّر اجتماعي بين الفئات التي تمنحها شهادات التلقيح حرية أوسع خلال المراحل الأولى وتلك التي ستخضع لفترة أطول من القيود حتى حصولها على اللقاح. وكان الرئيس الفرنسي قد أعلن أن «الجواز الصحي» سيصبح إلزامياً اعتباراً من 9 يونيو (حزيران) للدخول إلى الأماكن التي توجد فيها تجمعات كبيرة، كما أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، سبق وأعلنت أن الأميركيين الذين يثبتون حصولهم على اللقاح بإمكانهم السفر إلى أوروبا والتجول من دون قيود.
ويقول المعترضون على «الجواز الصحي» إنه حلّ سيئ لمشكلة حقيقية، وأن المَخرج منها هو بتسريع حملات التلقيح وليس بتشجيع السفر قبل السيطرة على الوباء. ويدعو فلاهو «إلى الانتباه جيداً لما حصل في الهند التي رفعت إشارة النصر على الوباء منتصف الشهر الماضي لتجد نفسها الآن فريسة موجة مرعبة. ولطالما اعتقد الأوروبيون خلال هذه الجائحة أن ما يحصل في الخارج لن يحصل عندهم». وكانت معظم الدول الأوروبية قد بدأت مؤخراً بإعادة النظر في الجداول الزمنية لحملات التلقيح بعد أن بيّنت دراسات أن الجرعة الأولى وحدها تكفي للحماية من العلاج في المستشفى بنسبة تصل إلى 90%، فيما أفاد المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض السارية والوقاية منها في تقريره الدوري الأخير أنه إذا استمرّت حملات التلقيح على وتيرتها الحالية، من المتوقع أن تنخفض الوفيّات بنسبة 30% منتصف الشهر الجاري وتتراجع إلى الصفر نهاية الشهر المقبل في حال عدم ظهور طفرات جديدة مقاومة للمناعة.
قلق أوروبي من تحورات «كوفيد ـ 19»
تجربة الهند تخيف الكثيرين
قلق أوروبي من تحورات «كوفيد ـ 19»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة