مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

مسؤولون عسكريون رصدوا تجارب ميليشيات على استخدامها

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
TT

مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)

انطلقت 3 سيارات دفع رباعي في الصباح الباكر، من مدينة مصراتة الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس. 9 شبان من قوات الميليشيا التي تديرها جماعة الإخوان، مدججين بالأسلحة والحماسة والاندفاع، يقطعون مئات الكيلومترات إلى جنوب شرقي المدينة.
المهمة تبدو بسيطة لكنها معقدة. استكشاف ما تبقى من موقع للأسلحة الكيماوية التي كان العقيد معمر القذافي يخفيها في مخازن بالصحراء. هذه عملية خطرة وسرية، لكن بدا أنه لا أحد يأبه للعواقب. يأكلون شطائر التونة.. يلقون النكات ويضحكون، بينما الشمس تشرق فوق التراب الأحمر، والمحركات تهدر والإطارات تثير وراءها الغبار والحصى.
في النهاية جرى إلقاء القبض على اثنين على الأقل من هؤلاء المغامرين الذين ينتمون لقوات غير نظامية تحارب الجيش الوطني الليبي والسلطات الشرعية في البلاد مترامية الأطراف وقليلة السكان. روى كل منهما قصصا مثيرة للقلق عن مساعي المتطرفين للاستيلاء على بقايا مخزون القذافي الغامض من الأسلحة الكيماوية، منذ مقتله في خريف 2011 حتى الآن. كما قدما شرحا للرحلة منذ قيامها من مصراتة.
ووفقا لمصدر عسكري ليبي، ترك القذافي قبل رحيله 3 مواقع على الأقل في أنحاء البلاد، كانت تضم أكثر من ألف طن مكعب من مواد تستخدم في صنع أسلحة كيماوية، ونحو 20 طنا مكعبا من الخردل الذي يتسبب بحروق شديدة للجلد، إضافة لعدة ألوف من القنابل المصممة للاستخدام مع خردل الكبريت. كان يفترض أن يدمر القذافي هذا المخزون بناء على اتفاقات دولية عام 2004، لكن عملية التخلص من هذه «المواد المعلومة» لم تصل إلا لنحو 60 في المائة بسبب الانتفاضة المسلحة ضد القذافي، وفقا للمصدر نفسه.
لدى المتطرفين معلومات تقول إن منطقة «رواغة» الواقعة في محافظة الجفرة، التي كانت واحدة من مقرات قيادة جيش القذافي الحساسة، ما زال بها براميل من البلاستيك المقوى وذات لون أزرق، وفيها أيضا حاويات من الصاج، تضم كلها سوائل وغازات كيماوية من مواد الخردل المهلكة، وإن الحراسة على هذه المخازن ما زالت ضعيفة. تقريبا 3 ينتمون إلى السلطات الشرعية الهشة في البلاد التي تعاني الفوضى، وتسليحهم لا يزيد على بنادق من نوع كيه 47 وسيارة، ويعاونهم بشكل غير منتظم نحو 10 من أبناء قبائل المنطقة.
وللوصول إلى هنا كان لا بد من المرور على مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، التي أصبحت تحت سيطرة أنواع جديدة من المسلحين.. التفاهم كان قد جرى سلفا حول تقاسم «حصص الكيماوي» مع قادة ميليشيات سرت، لكن الآن حان وقت التنفيذ. ينتظر في هذه المدينة - التي ما زالت جدرانها، منذ أكثر من 3 سنوات، مثقوبة بقذائف المدفعية وقصف طيران حلف الناتو - اثنان من الزبائن المنتمين لجماعة أنصار الشريعة المتطرفة والموالية لتنظيم داعش، في سيارتهما.
مع الضحى انضموا للقافلة التي شقت طريقها من جديد على درب إسفلتي يبلغ طوله نحو 220 كيلومترا ومكتوب على أوله «ودّان»، وهو اسم البلدة الواقعة بالقرب من منطقة «رواغة». بلدة تقع بين أشواط من النخيل، كان قد ولد فيها رئيس وزراء ليبيا المقال الدكتور علي زيدان. وسبق لمجموعة مصراتة أن جاءت إلى هنا. والآن تجري عملية إرشاد لـ«أنصار الشريعة» للحصول على نصيب من «غاز الخردل». ووفقا لأحد المقبوض عليهما فإن الصفقة كانت تبلغ ما يساوي 60 ألف دولار.
وتعاني «أنصار الشريعة» من مصاعب في حربها مع الجيش. ويبدو المدد المباشر الذي كانت تقدمه لها جماعة الإخوان يتراجع بسبب الضغوط الدولية والإقليمية على المتشددين، لكن التعاون من تحت الأرض ما زال موجودا.
ولصرف أنظار الجيش والقبائل المعادية للمتطرفين، بعيدا عن «عملية الكيماوي» استغلت المجموعة حربا تخوضها الميليشيات في صحراء النوفلية المجاورة، التي تقع شرق سرت بنحو 130 كيلومترا. وفي الجانب الآخر، أي قرب «رواغة»، أبدى حراس الموقع ومن معهم من متطوعين شجاعة كبيرة. كان الوقت يقترب من العصر حين رصدوا بمنظار روسي قديم، ومن فوق تلة، قدوم السيارات الأربع. كمنوا داخل مخزن أسلحة مهجور يقع على بعد نحو 70 مترا من حاويات الكيماوي، واستعدوا للمواجهة غير المتكافئة.
ما زالت توجد هنا آثار المعركة.. بقايا شطائر متعفنة من التونة وطلقات رصاص فارغة وقميصان واقيان من الرصاص كانا مع الشابين المقبوض عليهما. الأول يدعى «نور الدين» والثاني «اصميدة». لكنها آثار تبدو تافهة مقارنة بأطلال الدشم العسكرية التي حطمها قصف طيران الناتو أثناء مساندته للانتفاضة المسلحة التي استمرت 8 أشهر للتخلص من القذافي. وبعد مفاوضات بعيدا عن السلطات الشرعية، أجرى اثنان من شيوخ قبائل الجفرة مبادلة.. سلموا «نور الدين» و«اصميدة» لوسيط عن جماعة الإخوان، وتسلموا مقابلهما 25 شابا ينتمون لقبائل مختلفة، وكانوا يواجهون التعذيب والموت في سجن «طمينة» بمصراتة، ومن بينهم أبناء لقبائل «المعدان» و«المغاربة».
من المعروف أن قبائل الجفرة، التي كانت يوجد على أراضيها أحد أهم مقرات وزارة الدفاع في عهد القذافي، وكان يتردد عليها وزيره الذي قتل معه في سرت، اللواء أبو بكر يونس، ظلت ترفض تدخل الناتو والانتفاضة المسلحة وحكم المتطرفين في طرابلس. ويقول أحد شيوخ الجفرة إن أبناء المحافظة رصدوا منذ وقت مبكر محاولات الميليشيات نهب مخازن الأسلحة الضخمة منذ الانتفاضة المسلحة.
ويوضح مسؤول سابق في «لواء الجفرة»، وهي كتيبة شبه عسكرية كانت تتكون من نحو 300 من شباب المنطقة، وأسسها مسؤول سابق كان عضوا في المجلس الانتقالي في 2011، إن «اللواء» كان يشرف على حراسة المنطقة رغم ضعف ما لديه من إمكانات، لكن الذي زاد من القلق بشأن مصنع السلاح الكيماوي أن مركز الحراسة نفسه كان يقع على بعد نحو 17 كيلومترا، ولهذا فإنه لا يمكن التأكد مما إذا كان قد جرى العبث بتلك المواد أو سرقتها من عدمه.. «لا يوجد ما نقيس به كميات السوائل والغازات الموجودة فيها».
عدم اليقين من مصير الأسلحة الكيماوية لا يقف عند الصعيد المحلي هنا فقط، بل موجود لدى كبار المعنيين الدوليين بهذه القضية؛ فالبعض من مفتشي الأسلحة الدوليين، كما يقول أحد نواب البرلمان الليبي عن منطقة الجنوب، يأتي ويصرح بأن مخزون الخردل مثلا لم يمسسه أحد بعد سقوط نظام القذافي.. «لكن أطرافا أخرى من منظمة حظر هذا النوع من السلاح يرسلون لنا رسائل بأنه ما زالت توجد مخزونات من الأسلحة الكيماوية.. ليست ليبيا فقط في فوضى. بل الجميع».
ويقول أحد الناشطين في مدينة ودان، في الجفرة، ويدعى محمود الشيباني، إن الألوف من قطع الأسلحة وصناديق الذخيرة استولت عليها الميليشيات في شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، حين جرى رصد تحركات للقذافي بين مدينتي بني وليد وسرت، المجاورتين للجفرة، لكن اهتمام الميليشيات بمصنع غاز الخردل لم يبدأ إلا بعد ذلك، واستمر طوال السنوات الثلاث الماضية، و«كنا نتصدى لمحاولات السرقة.. لكن لا يمكن لغير المتخصصين مثلنا هنا أن يحددوا ماذا جرى. من الممكن أن يكون البعض استولى على الغاز من المستودعات.. أعني أن المستودعات موجودة، لكن هل يوجد فيها الغاز كما تركه القذافي كاملا أم جرى نقل كميات منه إلى أماكن أخرى. لا أعرف».
في زيارة للجفرة عقب مقتل القذافي بعدة أيام، كان يوجد مصنع عسكري صغير لتحضير الأسلحة الكيماوية، دون حراسة، وجرى التحذير من أبناء المنطقة من تعرضه للسرقة أو وصول ما فيه للأيدي الخطأ. وجرى نقل المناشدة من أبناء الجفرة للأمم المتحدة من أجل التدخل. وبعد مضي أكثر من 3 سنوات، يبدو أن الخطر ما زال قائما، ليس في منطقة «رواغة» قرب ودان والجفرة فقط، ولكن في الكثير من المناطق الأخرى التي كشفت عنها أخيرا مصادر عسكرية ليبية لـ«الشرق الأوسط».
ممنوع دخول أي عناصر إلى مواقع الجيش التي تحتوي على هذا النوع من معامل تصنيع الأسلحة الكيماوية وتخزينها. كان هذا النظام متبعا أيام القذافي. من يقترب من مثل هذه الأماكن عليه أن يكون قد حصل على تصريح مسبق من السلطات، أيا كانت رتبته، وأن يقيد ما يدخل أو يخرج في السجلات. ومنذ سقوط النظام لم يعد أحد يلتفت لمثل هذه القيود. يمكن لأي ميليشيا أن تدخل وتأخذ ما تريد دون أن تعلم أي جهة ماذا أخذت، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية.
المصنع الموجود في وادي «رواغة» كانت تحرسه، أثناء الانتفاضة المسلحة، كتيبة من مصراتة اسمها «كتيبة السد». وتقول المصادر في الجفرة إن عناصر من هذه الكتيبة نقلت معها كميات غير معروفة من غاز الخردل، أثناء عودتها إلى بلدتها المطلة على البحر المتوسط، وذلك قبل أن يأتي 3 خبراء من الأمم المتحدة في ذلك الوقت، لمعاينة المصنع وخزانات غاز الخردل، وإقامة ساتر ترابي لمنع السيارات من النزول إلى الوادي. لكن الشيخ سعيد، أحد أبناء مدينة ودان، يقول إنه توجد مدقات أخرى من السهل الدخول من خلالها إلى المصنع.
كانت الكمية الموجودة في براميل من الصاج هنا تبلغ نحو 9 أطنان من هذا الغاز الفتاك، إلى جانب عشرات البراميل المصنوعة من البلاستيك المقوى بمواد عازلة، التي أصبحت الآن ملوثة بالمواد الكيماوية. وتوجد أيضا خزانات تشبه الأقماع كانت تستخدم في عملية النقل. الآن من السهل أن ترى آثار هذه المواد وتشم رائحتها الكريهة والنفاذة، وهي ذات لون بني يميل إلى السواد، وتشبه الصدأ الذي ينتج عن اختلاط الماء بالحديد لفترة طويلة. وتعد محافظة الجفرة منطقة بعيدة عن تقاطعات الطرق مع المدن الليبية الأخرى، وهي بعيدة أيضا عن الأنظار فيما عدا بعض القواعد العسكرية والمطارات التي كانت دائبة الحركة في عهد القذافي. أبناؤها مسالمون بشكل عام، ويشتهرون بقرض الشعر وتأليف المطولات الغنائية الشعبية. وتضم 4 مدن هي «سوكنة» و«هون» و«الفقها» بالإضافة إلى «ودان».
وفي مقابلة مع مسؤول عسكري ليبي بشأن كمية الأسلحة الكيماوية الموجودة في ليبيا، قال إنها «للأسف، في أماكن أصبحت معلومة للميليشيات.. لقد استولت على كميات منها لاستخدامها في حربها مع الجيش، سواء بشكل مباشر.. أي باستخدامها ضد القوات العسكرية، أو بشكل غير مباشر، من خلال التهديد باستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية».
ويضيف الرجل الذي يعمل بالقرب من قائد الجيش الليبي، اللواء خليفة حفتر، في حديث موثق، رغم طلبه عدم الإشارة لاسمه صراحة: «توجد أسلحة كيماوية ليس فقط في منطقة ودان، بل هناك أيضا أسلحة كيماوية موجودة في منطقة سوكنة وفي منطقة هون».
ويضيف: «هذه مواقع كانت مقرا للقيادة العسكرية الليبية لمدة 20 سنة، من ضمن عهد القذافي الذي استمر 42 سنة.. توجد في هذه المنطقة أيضا مخازن كثيرة غير معروف عددها.. المعلومات التي لدينا أن الميليشيات المسلحة سرقت كميات كبيرة من هذا المخزون. المشكلة أن المواد الكيماوية التي وصلت لأيدي المتطرفين لا تحتاج إلى أجهزة من أجل استخدمها كأسلحة، لأنها معدة للاستخدام سلاحا منذ سنين».
وقدم المصدر العسكري تسجيلا مصورا جرى رصده لواحدة من الميليشيات المسلحة في جنوب طرابلس وهي تقوم بتجريب أسلحة كيماوية استولت عليها من أحد مخازن جيش القذافي.. يقع هذا المخزن في منطقة تعرف باسم «مشروع اللوز» وهي موجودة في تجاويف جبلية تقع على الطريق بين منطقتي «بوجهيم» و«هون».
وجرت هذه التجربة وعدة تجارب أخرى في مواقع خالية قريبة من منطقة مزدة على بعد 160 كيلومترا جنوب طرابلس. يبدو أحد عناصر الميليشيات، في التسجيل المصور، وهو يطلق قذيفة من سلاح في منطقة صحراوية. حين سقطت القذيفة أحدثت لهبا، ثم أعقب ذلك انبعاث دخان أبيض كثيف، إلى أعلى، على شكل «عيش الغراب»، ثم يزيد من الانتشار قبل أن يتحرك مع اتجاه الريح في سحابة كبيرة تزداد اتساعا لتغطي ألوفا من الأمتار المربعة بمرور الوقت.
مصدر عسكري آخر يقول إن قيادات في الجيش الوطني الليبي تعلم بوصول أسلحة كيماوية لأيدي جماعات من المتطرفين، لكنها لا تريد أن تعلن عن ذلك حتى لا تثير الفزع في البلاد، أو تعطي لتلك الجماعات إحساسا بالقوة. ورغم أنه يقول إن الجماعات لن تجرؤ على استخدام تلك الأسلحة الفتاكة لأنها ستتضرر من مفعولها أيضا، فإنه لا يستبعد أن يقدم تنظيم داعش الدموي على أعمال انتقامية بواسطة ما يمكن أن يكون قد وصل لعناصره سواء من غاز الخردل أو غاز السارين السام.
وعما إذا كان لديه تأكيدات بمخاطر استخدام تلك المواد في عمليات قتالية، يعود المسؤول العسكري الليبي ويقول إنه «للأسف هي عبارة عن غازات جاهزة للضرب»، مشيرا إلى أنه جرى نقل كميات كبيرة من مخازن «مشروع اللوز»، ومن أماكن أخرى في جنوب البلاد إلى يد المتشددين المنتمين لمدينة مصراتة، و«بالتالي تستطيع ببساطة أن تقول إن هذه الأسلحة وصلت لجماعة الإخوان وحلفائها من الميليشيات المتطرفة».
وعلى عكس نخيل محافظة «الجفرة»، تكثر في «واو الناموس» على بعد نحو 180 كيلومترا جنوب مدينة سبها في الجنوب الليبي، الطيور والحيوانات البرية، وهي تعد من الأماكن الوعرة والمهجورة. كانت تتردد عليها في الماضي عناصر تابعة للجيش في أيام القذافي. ووفقا للمصادر العسكرية فقد فطن الكثير من المتطرفين، خاصة أولئك الذين انخرط في صفوفهم ضباط وجنود ممن انشقوا عن النظام السابق، لمواقع الأسلحة والمواد الكيماوية السرية، و«استولوا عليها.. طبعا كانت لدينا معلومات عن أن البعض باع أو بادل كميات منها بأسلحة أخرى، مع جماعات متطرفة بمن فيها جماعات عابرة للحدود في دارفور وشمال مالي».
هناك ما يسمى «القوة الثالثة» المتمركزة في سبها وهي تابعة لـ«الإخوان» والمتطرفين وينضوي تحت لوائها خليط من المقاتلين الفارين من شمال مالي، والهاربين من جنوب الجزائر، وعدة مئات من جنسيات أخرى من بينهم تونسيون ومصريون وأفارقة. ويضيف المصدر الأمني أن فرنسا تشعر بالقلق من تحركات هذه القوات عبر الحدود بين ليبيا وكل من تشاد والنيجر والجزائر وصولا إلى مالي، ولهذا تراقب الموقف هناك عن طريق طائرات من دون طيار.
ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحصول على رد فرنسي رسمي حول عملياتها في الجنوب الليبي في حينه، إلا أن المصدر يقول أيضا إن فرنسا «تمكنت من مطاردة مجاميع لمتطرفين في جنوب غربي ليبيا في الشهرين الماضيين»، مشيرا إلى أن لديها قاعدة تبعد عن الجنوب الليبي بنحو 100 كيلومتر فقط، وبها نحو 200 من قوات النخبة، إضافة إلى قاعدة أخرى في نجامينا بتشاد فيها قدرة على إقلاع طائرات «رافال» لتنفيذ عمليات والعودة.
ومن المعروف أن فرنسا لها اهتمام تاريخي بالجنوب الليبي، حيث زارت أول بعثة استكشافية فرنسية المنطقة عام 1918، كما دخلت في شد وجذب مع ليبيا حول تقاسم الأدوار في الدول الأفريقية المجاورة لليبيا، على رأسها تشاد التي تحارب فيها الجانبان لسنوات. ويوضح المصدر نفسه أن التدخل الفرنسي لمساعدة ليبيا على التخلص من الإرهاب «ما زال ضعيفا»، معربا عن اعتقاده أن هذا «بسبب الضغوط الأميركية والبريطانية المنحازة لمواقف جماعة الإخوان»، وهو يشير إلى أن الكثير من دول العالم مثل أميركا وبريطانيا «لا شك أن لديها أجهزة استخبارات تعمل في الداخل الليبي ولديها علم بمواقع الأسلحة الكيماوية ومن حصل عليها، وأين يخبئها، ومع ذلك لم نر تحركا ذا شأن لمواجهة مخاطر استخدام الإرهابيين مستقبلا للأسلحة الكيماوية، ليس في ليبيا أو دول الجوار فحسب، ولكن في دول حوض البحر المتوسط أيضا».
وبحسب المعلومات من المصادر الأمنية والعسكرية الليبية فقد تمكنت «القوة الثالثة» من الوصول أيضا إلى مخازن كبيرة للمواد الكيماوية في منطقة تسمى «تمنهنت» التي توجد فيها قاعدة كبيرة للتصنيع الحربي وقاعدة جوية على بعد 30 كيلومترا من مدينة سبها. ويقول أحد هؤلاء العسكريين في مقابلة مسجلة مع «الشرق الأوسط»: «تمنهنت مدينة يلفها النخيل وأهلها طيبون، لكنها من المناطق التي خزن القذافي في محيطها أسلحة كيماوية، وهي الآن تحت سيطرة القوة الثالثة، بما في ذلك المطار العسكري للمدينة ومطارات صغيرة ومهجورة كانت تابعة لشركات بترول».
ووفقا لمصدر أمني ليبي يعمل حاليا في الجيش، فقد أخفى القذافي أسلحة كيماوية في مخازن تقع داخل تجاويف جبلية ذات لون أسود بمنطقة «واو الناموس»، مشيرا إلى أن الميليشيات المسلحة المنضوية تحت ما يسمى «القوة الثالثة» خاضت حربا ضروسا مع ممثلي قوات الجيش ضعيف التسليح والعتاد هناك، إلى أن أمكنها السيطرة على مطار المدينة وبسط نفوذها على «واو الناموس»، في الشهور الماضية، و«من ثم جرى نقل كميات من غاز الخردل والسارين إلى مقار الميليشيات في الشمال، في مصراتة وطرابلس، عبر طائرات من نوع (يوشن).. نقلوا كميات غير معروفة وأصبحت تحت أيديهم، وهذا أمر خطير».
وعلى عكس حالة «داعش في العراق وسوريا» تتعاون مع «داعش ليبيا» الكثير من المجموعات والميليشيات المتطرفة، حيث تتفق جميعها على هدف واحد هو محاربة الجيش الوطني الليبي. ويحاول «داعش ليبيا» أن يبرز سريعا، كما فعل حين ذبح 21 مصريا، بشكل جماعي، قبل أيام، في مشاهد وحشية. ولهذا توجد مخاوف من أن تنفذ عملية خطرة. وكان يوجد في صفوف «داعش العراق وسوريا» خبير في الأسلحة الكيماوية يدعى «أبو مالك» لكنه قتل في غارة جوية شنتها قوات التحالف الشهر الماضي قرب مدينة الموصل بالعراق. ويقول مصدر عسكري في ليبيا: «يظل احتمال وصول أسلحة كيماوية لـ(داعش ليبيا) واستخدامها احتمالا ورادا، حتى لو كان ضعيفا».
وحالت الحرب بين الفرقاء الليبيين دون وضع خارطة واضحة لأسلحة البلاد الكيماوية، لكن آخر حكومة موحدة برئاسة الدكتور زيدان، التي كان يهيمن عليها «الإخوان» والميليشيات المتطرفة، قالت قبل استقالتها العام الماضي إنها دمرت آخر ما لديها من أسلحة كيماوية في منطقة الجنوب بمساعدة خبراء من ألمانيا وأميركا وكندا، وإنه «لا توجد أي كميات أخرى معروفة من الأسلحة الكيماوية»، إلا أن مسؤولا عسكريا في جيش حفتر قال إنه، رغم ذلك، ما زالت هناك مواد وأسلحة كيماوية خطيرة مخزنة في الصحراء، وبعضها يجري العثور عليه بمحض الصدفة.



واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».