مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

مسؤولون عسكريون رصدوا تجارب ميليشيات على استخدامها

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
TT

مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)

انطلقت 3 سيارات دفع رباعي في الصباح الباكر، من مدينة مصراتة الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس. 9 شبان من قوات الميليشيا التي تديرها جماعة الإخوان، مدججين بالأسلحة والحماسة والاندفاع، يقطعون مئات الكيلومترات إلى جنوب شرقي المدينة.
المهمة تبدو بسيطة لكنها معقدة. استكشاف ما تبقى من موقع للأسلحة الكيماوية التي كان العقيد معمر القذافي يخفيها في مخازن بالصحراء. هذه عملية خطرة وسرية، لكن بدا أنه لا أحد يأبه للعواقب. يأكلون شطائر التونة.. يلقون النكات ويضحكون، بينما الشمس تشرق فوق التراب الأحمر، والمحركات تهدر والإطارات تثير وراءها الغبار والحصى.
في النهاية جرى إلقاء القبض على اثنين على الأقل من هؤلاء المغامرين الذين ينتمون لقوات غير نظامية تحارب الجيش الوطني الليبي والسلطات الشرعية في البلاد مترامية الأطراف وقليلة السكان. روى كل منهما قصصا مثيرة للقلق عن مساعي المتطرفين للاستيلاء على بقايا مخزون القذافي الغامض من الأسلحة الكيماوية، منذ مقتله في خريف 2011 حتى الآن. كما قدما شرحا للرحلة منذ قيامها من مصراتة.
ووفقا لمصدر عسكري ليبي، ترك القذافي قبل رحيله 3 مواقع على الأقل في أنحاء البلاد، كانت تضم أكثر من ألف طن مكعب من مواد تستخدم في صنع أسلحة كيماوية، ونحو 20 طنا مكعبا من الخردل الذي يتسبب بحروق شديدة للجلد، إضافة لعدة ألوف من القنابل المصممة للاستخدام مع خردل الكبريت. كان يفترض أن يدمر القذافي هذا المخزون بناء على اتفاقات دولية عام 2004، لكن عملية التخلص من هذه «المواد المعلومة» لم تصل إلا لنحو 60 في المائة بسبب الانتفاضة المسلحة ضد القذافي، وفقا للمصدر نفسه.
لدى المتطرفين معلومات تقول إن منطقة «رواغة» الواقعة في محافظة الجفرة، التي كانت واحدة من مقرات قيادة جيش القذافي الحساسة، ما زال بها براميل من البلاستيك المقوى وذات لون أزرق، وفيها أيضا حاويات من الصاج، تضم كلها سوائل وغازات كيماوية من مواد الخردل المهلكة، وإن الحراسة على هذه المخازن ما زالت ضعيفة. تقريبا 3 ينتمون إلى السلطات الشرعية الهشة في البلاد التي تعاني الفوضى، وتسليحهم لا يزيد على بنادق من نوع كيه 47 وسيارة، ويعاونهم بشكل غير منتظم نحو 10 من أبناء قبائل المنطقة.
وللوصول إلى هنا كان لا بد من المرور على مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، التي أصبحت تحت سيطرة أنواع جديدة من المسلحين.. التفاهم كان قد جرى سلفا حول تقاسم «حصص الكيماوي» مع قادة ميليشيات سرت، لكن الآن حان وقت التنفيذ. ينتظر في هذه المدينة - التي ما زالت جدرانها، منذ أكثر من 3 سنوات، مثقوبة بقذائف المدفعية وقصف طيران حلف الناتو - اثنان من الزبائن المنتمين لجماعة أنصار الشريعة المتطرفة والموالية لتنظيم داعش، في سيارتهما.
مع الضحى انضموا للقافلة التي شقت طريقها من جديد على درب إسفلتي يبلغ طوله نحو 220 كيلومترا ومكتوب على أوله «ودّان»، وهو اسم البلدة الواقعة بالقرب من منطقة «رواغة». بلدة تقع بين أشواط من النخيل، كان قد ولد فيها رئيس وزراء ليبيا المقال الدكتور علي زيدان. وسبق لمجموعة مصراتة أن جاءت إلى هنا. والآن تجري عملية إرشاد لـ«أنصار الشريعة» للحصول على نصيب من «غاز الخردل». ووفقا لأحد المقبوض عليهما فإن الصفقة كانت تبلغ ما يساوي 60 ألف دولار.
وتعاني «أنصار الشريعة» من مصاعب في حربها مع الجيش. ويبدو المدد المباشر الذي كانت تقدمه لها جماعة الإخوان يتراجع بسبب الضغوط الدولية والإقليمية على المتشددين، لكن التعاون من تحت الأرض ما زال موجودا.
ولصرف أنظار الجيش والقبائل المعادية للمتطرفين، بعيدا عن «عملية الكيماوي» استغلت المجموعة حربا تخوضها الميليشيات في صحراء النوفلية المجاورة، التي تقع شرق سرت بنحو 130 كيلومترا. وفي الجانب الآخر، أي قرب «رواغة»، أبدى حراس الموقع ومن معهم من متطوعين شجاعة كبيرة. كان الوقت يقترب من العصر حين رصدوا بمنظار روسي قديم، ومن فوق تلة، قدوم السيارات الأربع. كمنوا داخل مخزن أسلحة مهجور يقع على بعد نحو 70 مترا من حاويات الكيماوي، واستعدوا للمواجهة غير المتكافئة.
ما زالت توجد هنا آثار المعركة.. بقايا شطائر متعفنة من التونة وطلقات رصاص فارغة وقميصان واقيان من الرصاص كانا مع الشابين المقبوض عليهما. الأول يدعى «نور الدين» والثاني «اصميدة». لكنها آثار تبدو تافهة مقارنة بأطلال الدشم العسكرية التي حطمها قصف طيران الناتو أثناء مساندته للانتفاضة المسلحة التي استمرت 8 أشهر للتخلص من القذافي. وبعد مفاوضات بعيدا عن السلطات الشرعية، أجرى اثنان من شيوخ قبائل الجفرة مبادلة.. سلموا «نور الدين» و«اصميدة» لوسيط عن جماعة الإخوان، وتسلموا مقابلهما 25 شابا ينتمون لقبائل مختلفة، وكانوا يواجهون التعذيب والموت في سجن «طمينة» بمصراتة، ومن بينهم أبناء لقبائل «المعدان» و«المغاربة».
من المعروف أن قبائل الجفرة، التي كانت يوجد على أراضيها أحد أهم مقرات وزارة الدفاع في عهد القذافي، وكان يتردد عليها وزيره الذي قتل معه في سرت، اللواء أبو بكر يونس، ظلت ترفض تدخل الناتو والانتفاضة المسلحة وحكم المتطرفين في طرابلس. ويقول أحد شيوخ الجفرة إن أبناء المحافظة رصدوا منذ وقت مبكر محاولات الميليشيات نهب مخازن الأسلحة الضخمة منذ الانتفاضة المسلحة.
ويوضح مسؤول سابق في «لواء الجفرة»، وهي كتيبة شبه عسكرية كانت تتكون من نحو 300 من شباب المنطقة، وأسسها مسؤول سابق كان عضوا في المجلس الانتقالي في 2011، إن «اللواء» كان يشرف على حراسة المنطقة رغم ضعف ما لديه من إمكانات، لكن الذي زاد من القلق بشأن مصنع السلاح الكيماوي أن مركز الحراسة نفسه كان يقع على بعد نحو 17 كيلومترا، ولهذا فإنه لا يمكن التأكد مما إذا كان قد جرى العبث بتلك المواد أو سرقتها من عدمه.. «لا يوجد ما نقيس به كميات السوائل والغازات الموجودة فيها».
عدم اليقين من مصير الأسلحة الكيماوية لا يقف عند الصعيد المحلي هنا فقط، بل موجود لدى كبار المعنيين الدوليين بهذه القضية؛ فالبعض من مفتشي الأسلحة الدوليين، كما يقول أحد نواب البرلمان الليبي عن منطقة الجنوب، يأتي ويصرح بأن مخزون الخردل مثلا لم يمسسه أحد بعد سقوط نظام القذافي.. «لكن أطرافا أخرى من منظمة حظر هذا النوع من السلاح يرسلون لنا رسائل بأنه ما زالت توجد مخزونات من الأسلحة الكيماوية.. ليست ليبيا فقط في فوضى. بل الجميع».
ويقول أحد الناشطين في مدينة ودان، في الجفرة، ويدعى محمود الشيباني، إن الألوف من قطع الأسلحة وصناديق الذخيرة استولت عليها الميليشيات في شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، حين جرى رصد تحركات للقذافي بين مدينتي بني وليد وسرت، المجاورتين للجفرة، لكن اهتمام الميليشيات بمصنع غاز الخردل لم يبدأ إلا بعد ذلك، واستمر طوال السنوات الثلاث الماضية، و«كنا نتصدى لمحاولات السرقة.. لكن لا يمكن لغير المتخصصين مثلنا هنا أن يحددوا ماذا جرى. من الممكن أن يكون البعض استولى على الغاز من المستودعات.. أعني أن المستودعات موجودة، لكن هل يوجد فيها الغاز كما تركه القذافي كاملا أم جرى نقل كميات منه إلى أماكن أخرى. لا أعرف».
في زيارة للجفرة عقب مقتل القذافي بعدة أيام، كان يوجد مصنع عسكري صغير لتحضير الأسلحة الكيماوية، دون حراسة، وجرى التحذير من أبناء المنطقة من تعرضه للسرقة أو وصول ما فيه للأيدي الخطأ. وجرى نقل المناشدة من أبناء الجفرة للأمم المتحدة من أجل التدخل. وبعد مضي أكثر من 3 سنوات، يبدو أن الخطر ما زال قائما، ليس في منطقة «رواغة» قرب ودان والجفرة فقط، ولكن في الكثير من المناطق الأخرى التي كشفت عنها أخيرا مصادر عسكرية ليبية لـ«الشرق الأوسط».
ممنوع دخول أي عناصر إلى مواقع الجيش التي تحتوي على هذا النوع من معامل تصنيع الأسلحة الكيماوية وتخزينها. كان هذا النظام متبعا أيام القذافي. من يقترب من مثل هذه الأماكن عليه أن يكون قد حصل على تصريح مسبق من السلطات، أيا كانت رتبته، وأن يقيد ما يدخل أو يخرج في السجلات. ومنذ سقوط النظام لم يعد أحد يلتفت لمثل هذه القيود. يمكن لأي ميليشيا أن تدخل وتأخذ ما تريد دون أن تعلم أي جهة ماذا أخذت، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية.
المصنع الموجود في وادي «رواغة» كانت تحرسه، أثناء الانتفاضة المسلحة، كتيبة من مصراتة اسمها «كتيبة السد». وتقول المصادر في الجفرة إن عناصر من هذه الكتيبة نقلت معها كميات غير معروفة من غاز الخردل، أثناء عودتها إلى بلدتها المطلة على البحر المتوسط، وذلك قبل أن يأتي 3 خبراء من الأمم المتحدة في ذلك الوقت، لمعاينة المصنع وخزانات غاز الخردل، وإقامة ساتر ترابي لمنع السيارات من النزول إلى الوادي. لكن الشيخ سعيد، أحد أبناء مدينة ودان، يقول إنه توجد مدقات أخرى من السهل الدخول من خلالها إلى المصنع.
كانت الكمية الموجودة في براميل من الصاج هنا تبلغ نحو 9 أطنان من هذا الغاز الفتاك، إلى جانب عشرات البراميل المصنوعة من البلاستيك المقوى بمواد عازلة، التي أصبحت الآن ملوثة بالمواد الكيماوية. وتوجد أيضا خزانات تشبه الأقماع كانت تستخدم في عملية النقل. الآن من السهل أن ترى آثار هذه المواد وتشم رائحتها الكريهة والنفاذة، وهي ذات لون بني يميل إلى السواد، وتشبه الصدأ الذي ينتج عن اختلاط الماء بالحديد لفترة طويلة. وتعد محافظة الجفرة منطقة بعيدة عن تقاطعات الطرق مع المدن الليبية الأخرى، وهي بعيدة أيضا عن الأنظار فيما عدا بعض القواعد العسكرية والمطارات التي كانت دائبة الحركة في عهد القذافي. أبناؤها مسالمون بشكل عام، ويشتهرون بقرض الشعر وتأليف المطولات الغنائية الشعبية. وتضم 4 مدن هي «سوكنة» و«هون» و«الفقها» بالإضافة إلى «ودان».
وفي مقابلة مع مسؤول عسكري ليبي بشأن كمية الأسلحة الكيماوية الموجودة في ليبيا، قال إنها «للأسف، في أماكن أصبحت معلومة للميليشيات.. لقد استولت على كميات منها لاستخدامها في حربها مع الجيش، سواء بشكل مباشر.. أي باستخدامها ضد القوات العسكرية، أو بشكل غير مباشر، من خلال التهديد باستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية».
ويضيف الرجل الذي يعمل بالقرب من قائد الجيش الليبي، اللواء خليفة حفتر، في حديث موثق، رغم طلبه عدم الإشارة لاسمه صراحة: «توجد أسلحة كيماوية ليس فقط في منطقة ودان، بل هناك أيضا أسلحة كيماوية موجودة في منطقة سوكنة وفي منطقة هون».
ويضيف: «هذه مواقع كانت مقرا للقيادة العسكرية الليبية لمدة 20 سنة، من ضمن عهد القذافي الذي استمر 42 سنة.. توجد في هذه المنطقة أيضا مخازن كثيرة غير معروف عددها.. المعلومات التي لدينا أن الميليشيات المسلحة سرقت كميات كبيرة من هذا المخزون. المشكلة أن المواد الكيماوية التي وصلت لأيدي المتطرفين لا تحتاج إلى أجهزة من أجل استخدمها كأسلحة، لأنها معدة للاستخدام سلاحا منذ سنين».
وقدم المصدر العسكري تسجيلا مصورا جرى رصده لواحدة من الميليشيات المسلحة في جنوب طرابلس وهي تقوم بتجريب أسلحة كيماوية استولت عليها من أحد مخازن جيش القذافي.. يقع هذا المخزن في منطقة تعرف باسم «مشروع اللوز» وهي موجودة في تجاويف جبلية تقع على الطريق بين منطقتي «بوجهيم» و«هون».
وجرت هذه التجربة وعدة تجارب أخرى في مواقع خالية قريبة من منطقة مزدة على بعد 160 كيلومترا جنوب طرابلس. يبدو أحد عناصر الميليشيات، في التسجيل المصور، وهو يطلق قذيفة من سلاح في منطقة صحراوية. حين سقطت القذيفة أحدثت لهبا، ثم أعقب ذلك انبعاث دخان أبيض كثيف، إلى أعلى، على شكل «عيش الغراب»، ثم يزيد من الانتشار قبل أن يتحرك مع اتجاه الريح في سحابة كبيرة تزداد اتساعا لتغطي ألوفا من الأمتار المربعة بمرور الوقت.
مصدر عسكري آخر يقول إن قيادات في الجيش الوطني الليبي تعلم بوصول أسلحة كيماوية لأيدي جماعات من المتطرفين، لكنها لا تريد أن تعلن عن ذلك حتى لا تثير الفزع في البلاد، أو تعطي لتلك الجماعات إحساسا بالقوة. ورغم أنه يقول إن الجماعات لن تجرؤ على استخدام تلك الأسلحة الفتاكة لأنها ستتضرر من مفعولها أيضا، فإنه لا يستبعد أن يقدم تنظيم داعش الدموي على أعمال انتقامية بواسطة ما يمكن أن يكون قد وصل لعناصره سواء من غاز الخردل أو غاز السارين السام.
وعما إذا كان لديه تأكيدات بمخاطر استخدام تلك المواد في عمليات قتالية، يعود المسؤول العسكري الليبي ويقول إنه «للأسف هي عبارة عن غازات جاهزة للضرب»، مشيرا إلى أنه جرى نقل كميات كبيرة من مخازن «مشروع اللوز»، ومن أماكن أخرى في جنوب البلاد إلى يد المتشددين المنتمين لمدينة مصراتة، و«بالتالي تستطيع ببساطة أن تقول إن هذه الأسلحة وصلت لجماعة الإخوان وحلفائها من الميليشيات المتطرفة».
وعلى عكس نخيل محافظة «الجفرة»، تكثر في «واو الناموس» على بعد نحو 180 كيلومترا جنوب مدينة سبها في الجنوب الليبي، الطيور والحيوانات البرية، وهي تعد من الأماكن الوعرة والمهجورة. كانت تتردد عليها في الماضي عناصر تابعة للجيش في أيام القذافي. ووفقا للمصادر العسكرية فقد فطن الكثير من المتطرفين، خاصة أولئك الذين انخرط في صفوفهم ضباط وجنود ممن انشقوا عن النظام السابق، لمواقع الأسلحة والمواد الكيماوية السرية، و«استولوا عليها.. طبعا كانت لدينا معلومات عن أن البعض باع أو بادل كميات منها بأسلحة أخرى، مع جماعات متطرفة بمن فيها جماعات عابرة للحدود في دارفور وشمال مالي».
هناك ما يسمى «القوة الثالثة» المتمركزة في سبها وهي تابعة لـ«الإخوان» والمتطرفين وينضوي تحت لوائها خليط من المقاتلين الفارين من شمال مالي، والهاربين من جنوب الجزائر، وعدة مئات من جنسيات أخرى من بينهم تونسيون ومصريون وأفارقة. ويضيف المصدر الأمني أن فرنسا تشعر بالقلق من تحركات هذه القوات عبر الحدود بين ليبيا وكل من تشاد والنيجر والجزائر وصولا إلى مالي، ولهذا تراقب الموقف هناك عن طريق طائرات من دون طيار.
ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحصول على رد فرنسي رسمي حول عملياتها في الجنوب الليبي في حينه، إلا أن المصدر يقول أيضا إن فرنسا «تمكنت من مطاردة مجاميع لمتطرفين في جنوب غربي ليبيا في الشهرين الماضيين»، مشيرا إلى أن لديها قاعدة تبعد عن الجنوب الليبي بنحو 100 كيلومتر فقط، وبها نحو 200 من قوات النخبة، إضافة إلى قاعدة أخرى في نجامينا بتشاد فيها قدرة على إقلاع طائرات «رافال» لتنفيذ عمليات والعودة.
ومن المعروف أن فرنسا لها اهتمام تاريخي بالجنوب الليبي، حيث زارت أول بعثة استكشافية فرنسية المنطقة عام 1918، كما دخلت في شد وجذب مع ليبيا حول تقاسم الأدوار في الدول الأفريقية المجاورة لليبيا، على رأسها تشاد التي تحارب فيها الجانبان لسنوات. ويوضح المصدر نفسه أن التدخل الفرنسي لمساعدة ليبيا على التخلص من الإرهاب «ما زال ضعيفا»، معربا عن اعتقاده أن هذا «بسبب الضغوط الأميركية والبريطانية المنحازة لمواقف جماعة الإخوان»، وهو يشير إلى أن الكثير من دول العالم مثل أميركا وبريطانيا «لا شك أن لديها أجهزة استخبارات تعمل في الداخل الليبي ولديها علم بمواقع الأسلحة الكيماوية ومن حصل عليها، وأين يخبئها، ومع ذلك لم نر تحركا ذا شأن لمواجهة مخاطر استخدام الإرهابيين مستقبلا للأسلحة الكيماوية، ليس في ليبيا أو دول الجوار فحسب، ولكن في دول حوض البحر المتوسط أيضا».
وبحسب المعلومات من المصادر الأمنية والعسكرية الليبية فقد تمكنت «القوة الثالثة» من الوصول أيضا إلى مخازن كبيرة للمواد الكيماوية في منطقة تسمى «تمنهنت» التي توجد فيها قاعدة كبيرة للتصنيع الحربي وقاعدة جوية على بعد 30 كيلومترا من مدينة سبها. ويقول أحد هؤلاء العسكريين في مقابلة مسجلة مع «الشرق الأوسط»: «تمنهنت مدينة يلفها النخيل وأهلها طيبون، لكنها من المناطق التي خزن القذافي في محيطها أسلحة كيماوية، وهي الآن تحت سيطرة القوة الثالثة، بما في ذلك المطار العسكري للمدينة ومطارات صغيرة ومهجورة كانت تابعة لشركات بترول».
ووفقا لمصدر أمني ليبي يعمل حاليا في الجيش، فقد أخفى القذافي أسلحة كيماوية في مخازن تقع داخل تجاويف جبلية ذات لون أسود بمنطقة «واو الناموس»، مشيرا إلى أن الميليشيات المسلحة المنضوية تحت ما يسمى «القوة الثالثة» خاضت حربا ضروسا مع ممثلي قوات الجيش ضعيف التسليح والعتاد هناك، إلى أن أمكنها السيطرة على مطار المدينة وبسط نفوذها على «واو الناموس»، في الشهور الماضية، و«من ثم جرى نقل كميات من غاز الخردل والسارين إلى مقار الميليشيات في الشمال، في مصراتة وطرابلس، عبر طائرات من نوع (يوشن).. نقلوا كميات غير معروفة وأصبحت تحت أيديهم، وهذا أمر خطير».
وعلى عكس حالة «داعش في العراق وسوريا» تتعاون مع «داعش ليبيا» الكثير من المجموعات والميليشيات المتطرفة، حيث تتفق جميعها على هدف واحد هو محاربة الجيش الوطني الليبي. ويحاول «داعش ليبيا» أن يبرز سريعا، كما فعل حين ذبح 21 مصريا، بشكل جماعي، قبل أيام، في مشاهد وحشية. ولهذا توجد مخاوف من أن تنفذ عملية خطرة. وكان يوجد في صفوف «داعش العراق وسوريا» خبير في الأسلحة الكيماوية يدعى «أبو مالك» لكنه قتل في غارة جوية شنتها قوات التحالف الشهر الماضي قرب مدينة الموصل بالعراق. ويقول مصدر عسكري في ليبيا: «يظل احتمال وصول أسلحة كيماوية لـ(داعش ليبيا) واستخدامها احتمالا ورادا، حتى لو كان ضعيفا».
وحالت الحرب بين الفرقاء الليبيين دون وضع خارطة واضحة لأسلحة البلاد الكيماوية، لكن آخر حكومة موحدة برئاسة الدكتور زيدان، التي كان يهيمن عليها «الإخوان» والميليشيات المتطرفة، قالت قبل استقالتها العام الماضي إنها دمرت آخر ما لديها من أسلحة كيماوية في منطقة الجنوب بمساعدة خبراء من ألمانيا وأميركا وكندا، وإنه «لا توجد أي كميات أخرى معروفة من الأسلحة الكيماوية»، إلا أن مسؤولا عسكريا في جيش حفتر قال إنه، رغم ذلك، ما زالت هناك مواد وأسلحة كيماوية خطيرة مخزنة في الصحراء، وبعضها يجري العثور عليه بمحض الصدفة.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».