أوراق أكاديمية وعلمية... وتحديات جديدة في عام الجائحة

مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية يصدر تقريره السنوي

أوراق أكاديمية وعلمية... وتحديات جديدة في عام الجائحة
TT

أوراق أكاديمية وعلمية... وتحديات جديدة في عام الجائحة

أوراق أكاديمية وعلمية... وتحديات جديدة في عام الجائحة

تؤدي مراكز الأبحاث والدراسات ومصانع الفكر في المجتمعات الحديثة أدواراً استراتيجيّة كمرجعيّات للسياسات العامّة للدول وترشيد عمليّات صنع القرار فيها. وهي من خلال إنتاجها المتخصص للأفكار والتحليلات والرؤى حول العلاقات الدوليّة ومختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والعلميّة، إضافة إلى استشرافات المستقبل تسهم في تعزيز مناعة الدّول وتعظيم مصادر قوّتها الناعمة وتجنيبها المخاطر وتوسيع مساهمتها كجزء من الأسرة الإنسانيّة الكبيرة، وتوفير أوعية محترفة لحفظ تراكمها المعرفيّ.
ومنذ تأسيس المعهد الملكي (البريطانيّ) للسياسات الدفاعية عام 1831 كأوّل مراكز الأبحاث المستقلّة عن البيروقراطيّات الحكوميّة والمتخصصة في خدمة متخذي القرار بصيغتها الحديثة، ازدادت أهمية تلك المراكز للدول الحديثة في ظل بيئة دولية سيمتها الغالبة تضاعف التعقيد، وتسارع التغير المستمر، وتضخّم الأزمات المركبة العابرة للحدود والتخصصات، لا سيّما في ظل حالة الانفجار المعرفيّ وتشظي مصادر المعلومات التي أنتجتها وسائل التكنولوجيا الحديثة وتستدعي وجود مرجعيّة موثوقة ذات قدرات فنيّة دقيقة لتقييم المواقف وتحديد أبعاد المسائل ذات الصلة، ومن ثم رسم مسارات التحرّك المتاحة. على أنّ الاستفادة من تلك المراكز - على تنوّع تخصصاتها وآليات علمها - لا تنحصر عادة بدوائر صنع القرار وعمليّات مراكز صنع السياسات العامة الداخلية والخارجية للدول والمؤسسات الرسميّة، بل ويمتد تأثيرها لخدمة مجتمعاتها ككل، سواء على صعيد تطوير البحث الأكاديميّ والتشبيك بين الخبراء والمتخصصين على مستوى أبعد من حدود الإقليم الجغرافيّ، أو على مستوى توعية الرأي العام والمجتمع بمجمله حول خلفيّات القضايا الملحة وأساليب مواجهة المخاطر المرتبطة بها بمنهجية علمية رصينة.
في الإطار العربي تنامى الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات في العقود الأخيرة؛ سواء منها الرّسميّة أو تلك التي عُني بتأسيسها القطاع الخاص، واتسعت دائرة نشاطها كمّاً ونوعاً وتخصصاً، وأصبح بعضها جزءاً مهمّاً من مكونات المشهد العلميّ والأكاديمي والمعرفيّ في دولها، ومساهماً فاعلاً في تدعيم سياسات تلك الدول وحضورها إقليميّاً ودوليّاً، ومنح استجاباتها للتّغيرات الرئيسية الجارية في منطقة الشرق الأوسط والعالم بشكل عام صبغة تتجاوز ردود الأفعال.
في المملكة العربيّة السعوديّة التي توفّرت على عدد من أهم مراكز الدراسات والأبحاث في المنطقة، برز مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية منذ تأسيسه في عام 1983 محوراً علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً متقدماً لا في خدمة المملكة فحسب، بل وأيضاً كفضاء تلاقٍ وتحاور وتبادل للمعارف بين الباحثين والمفكرين عبر العالم، لا سيّما في الدوائر العربيّة والإسلاميّة محققاً بذلك رؤية الملك فيصل بن عبد العزيز الذي أراد للسعوديّة منذ السبعينات - وفق تصريح معروف له من عام 1975 - أن تصبح مصدر إشعاع حضاريّاً للإنسانيّة كلّها.
وينتج المركز منذ ما يقرب من ثلاثة عقود بحوثاً أصيلة في مختلف مجالات الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية تتعلّق بقضايا ذات راهنية، ويوفّر منصة لتفاعل الخبراء والباحثين أفراداً أو في إطار مؤسسات علميّة وأكاديمية في المملكة وخارجها لتبادل المناقشات الفكرية والمجادلات الثقافية، وينقل المعرفة إلى نطاق عريض من قرّاء العربيّة والإنجليزيّة عبر دار الفيصل الثقافية - وهي ذراع النشر بالمركز - التي تصدر كتباً ودورياتٍ تتناول موضوعات عن المملكة والمجتمعات العربية والإسلامية ومسائل ذات بعد عالميّ. وعلاوة على ذلك، يجمع المركز في مكتبته تراكماً منظّماً من المعارف التاريخية والحديثة بأحدث أدوات حفظ المعلومات واسترجاعها، ويحفظ في «دارة آل فيصل» أرشيف وذكريات الملك فيصل بن عبد العزيز وأسرته، كما يُعنى متحفهُ بعرض مجموعة من أهم المخطوطات الثمينة والقطع الفنية الإسلاميّة النادرة.
كان عام 2020 عاماً فريداً من نوعه على الصُّعُد كافة، فقد أثَّرت جائحة كورونا في البشرية جمعاء وشهدت المملكة حصّتها من الإصابات، ونفذت إجراءات وقائيّة وإغلاقات عدّة مرّات، وهو ما انعكس على جميع مناحي الحياة، والاقتصادية منها بخاصة، لكن إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية تداركت الأمور سريعاً، ونجحت خلال وقت قياسيّ في نقل كثير من أنشطته الاجتماعية والثقافية والتعليمية والتجارية والمالية إلى الفضاء السيبريّ، الأمر الذي مكّن المركز من أداء دور رئيس في التحضير لقمة مجموعة العشرين بالتعاون مع مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية، حيث كُلِّف المركزان باستضافة مجموعة الفكر العشرين (T20) التي هي بمثابة منتدى للمراكز الفكرية تابع لمجموعة العشرين مكلّف بتقديم توصيات في السياسات العامة قائمة على الأدلة وأفضل الممارسات لمتخذي القرار المشاركين في القمة الخامسة عشرة لمجموعة العشرين (G20) - انعقدت بالرياض في 21 و22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 - وذلك على الرغم من التحديات اللوجيستية المعقدة التي فرضها الوباء.
وقد تضمنت مجموعة الفكر 20 في نسختها السعوديّة أهدافاً تشمل المناخ والبيئة (إنشاء اقتصادات دائرية منخفضة الانبعاثات الكربونية لتحقيق الأهداف المناخية)، والنساء والشّباب (تمكين المرأة وإعداد الشباب من أجل مجتمع شامل للجميع)، والتعددية والتنمية الاقتصادية والتمويل (توفير الرخاء عبر التعاون الدولي والتنمية الاقتصادية والاستدامة المالية)، والموارد المستدامة (توفير وتعزيز الإمدادات بشكل مستدام وتحقيق الأمن الدولي للطاقة والغذاء والمياه)، والتكنولوجيا والرّقمنة (الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لمعالجة القضايا العالمية).
وفي البداية، أنشأَت مجموعةُ الفكر 20 السعودية 10 فِرَق عمل، واستجابة لتفشي «كوفيد - 19» عالميّاً، أضيف فريق عمل (حادي عشر)، لوضع توصيات سياسية لتسهيل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الوباء بشكل فعّال.
ومن بين فِرَق العمل الإحدى عشرة هذه، أشرف مركزُ الملك فيصل مباشرة على أعمال خمسة فرق، وقد أنتجت هذه الفرقُ الخمسةُ 49 موجزاً للسياسات في المجموع، من أصل 146 موجزاً أنجزتها المجموعة، وخضعَت موجزات السياسات هذه لمراجعة خارجية دقيقة من ثلاث مراحل، بعد مراجعة داخلية شاملة قبلَ الانتقال إلى عملية التحرير النهائية.
وبحسب الكلمة الافتتاحية للتقرير السنوي للمركز عن عام 2020 التي كتبها الأمير تركي الفيصل بن عبد العزيز رئيس مجلس الإدارة، فإن الجهود التي بذلت لإنجاح أنشطة قمّة الريّاض والتحضيرات المكثفّة لها من خلال استضافة مجموعة الفكر العشرين بمختلف فعالياتها المتوازية والمتلاحقة، لم تأتِ على حساب النشاط المعرفيّ الأساسي للمركز في إعداد البحوث والدراسات العلمية الأصيلة في مختلف ميادين البحث كما تنظيم الفعاليات الثقافيّة على تفاوت أنواعها ندوات ومحاضرات عامة وحلقات نقاشيّة ومعارض فنون بمشاركة كبار المفكرين من جميع أنحاء العالم، وأقام المركز كثيراً من الأنشطة بالشراكة مع مراكز بحوث عالمية رائدة وجامعات ومؤسسات فكرية حول العالم.
ووفق التقرير السنوي، فقد أنشأ المركز خلال العام الماضي وحدتين بحثيتين جديدتين، هما: وحدة الدراسات الثقافية، ووحدة الدراسات الاجتماعية الاقتصادية. كما بدأت وحدة الدراسات الأفريقية في إصدار تقرير شهري جديد محرر باسم «متابعات أفريقيّة» يتناول الملفات والقضايا السياسية والاقتصادية والأمنية المختلفة في القارة الأفريقية التي تهم سُكّانها وانعكاساتها الإقليمية والدّولية من خلال مقاربات متعددة التخصصات وزوايا النظر. وتعاونت وحدة الدراسات الآسيوية على تحرير عدد خاص عن العلاقات بين المملكة العربية السعودية والصين في «المجلة الآسيوية للدراسات الشرق أوسطية والإسلامية». وهذا بالطبع إلى جانب الأعمال البحثية المستمرّة التي تضمنت ثمانية إصدارات من «دراسات» وهي سلسلة أوراق بحثية وإصدار واحد من «قراءات» سلسلة أوراق عن الدراسات الإنسانية، إضافة إلى عشرات «التقارير» و«التعليقات» و«تقديرات الموقف» وثمانية تقارير أسبوعية خاصة تناولت التأثيرات الإقليمية والدولية لجائحة كورونا، ومدى انعكاسها على الاقتصاد وخطط التنمية في المملكة.
وبموازاة ذلك، نشرت دار الفيصل الثقافية التابعة للمركز سبعة كتب أصيلة ومحققة ومترجمة خلال عام 2020، واستمرت في إصدار «مجلة الدراسات اللغويّة» - فصليّة محكّمة - و«مجلة الفيصل» الثقافيّة العامّة - كل شهرين - واسعة الانتشار، إضافة إلى ذلك إطلاق «المجلة الدولية للدراسات الإنسانية» - نصف سنويّة محكّمة باللغتين العربية والإنجليزية لصالح مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، فنشرت العددين الأول والثاني.
ولم يغفل الأمير تركي الفيصل بن عبد العزيز، ولا الدكتور سعد السرحان - الأمين العام - في كلمتيهما بالتقرير السنوي التعبير عن اعتزازهما وتقديرهما للفريق المتميّز من العلماء والباحثين والموظفين القائمين على مختلف أنشطة المركز الذين يحق للمملكة مباهاة العالم بكفاءتهم وإضافاتهم القيّمة والنوعيّة في الفكر والثقافة وحفظ التراث.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.