راشد المبارك: صالونه جمع أمراء وأدباء وطلاب جامعات

أرّقته طوال حياته حال «الكراهية» فكتب مؤلفًا خاصًا بعنوان: «فلسفة الكراهية»

راشد المبارك
راشد المبارك
TT

راشد المبارك: صالونه جمع أمراء وأدباء وطلاب جامعات

راشد المبارك
راشد المبارك

بين واحات النخيل وعلى ظلّها على أرض الأحساء الدافئة ولد الراحل الدكتور راشد بن عبد العزيز المبارك عام 1935 كان يعلم أن هذه الواحة الجميلة بجمعِها بين برد الظلّ والأعذاق، ولهب الرمال وعاتيات الرياح هي الرافعة التي ستجعله غيمة تهتزّ على أديمها الأرض فتهتز وتربو علمًا وعملا. عشق العلم والقلم والكتاب، احتفظ بأسئلته الصغيرة التي كبرت مع توجهه لدراسة الكيمياء والفيزياء، مصاحبًا في كل رحلات حياته العلمية مجال «الفلسفة» المحبب إليه، أخذ شهادته الجامعية من كليّة العلوم بجامعة القاهرة في عام 1964. ثم حاز على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969. وأخذ الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كاردف عام 1974، ستكون كل رحلته هذه من المدرسة إلى الدكتوراه ومن ثمّ التدريس في كلية العلوم بجامعة الملك سعود مجرّد قشرة في أرض تجربة المبارك العلميّة والعملية.
من الصعب أن يتخذ قناعة حول موضوعٍ علمي، فالأسئلة الزاحفة مثل الرمال لا تجعله يقف على إجابة مدافعًا عنها، لكن حين تتشكّل له الرؤية يكون مدافعًا لا يلين، يصحّ هذا على معاركه حول شاعريّة المتنبي، وبحوثه حول نزار قباني، وكتاباته في المعرّي، ولديه معاييره في النقد الأدبي وهي معايير مخاتلة وذكية، فهو يقرأ الأدب بأدواتٍ لا تقتصر على التقليدي المطروح، بل يعاند ويستخدم حتى مجالاته العلمية والفلسفية في النظر بالمعنى الشعري، والمغزى الوظيفي للكلمة والعبارة والمقولة.
في صالونه الثقافي «الأحدية» الذي بدأ عام 1981 وحتى رحيله كان محاورًا بارعًا، وقد رأيته وهو يناقش الدكتور حمزة المزيني، وإبراهيم البليهي، وتركي الحمد، وعبد الملك مرتاض، وعبد القدوس أبو صالح، وعبد الله الغذامي، لديه رصيده العلمي وحججه وأساليبه في الإقناع والمحاججة، ولا تذكّرك هذه الأحدية إلا بما تقرأ عن صالون العقاد في مصر، أو مجلس غوته في ألمانيا، أو مجالس الملوك في أوروبا حيث الحوار حول العلم والمعرفة والنظرية والأدب والتاريخ.
وفي أواخر شهر مايو (أيار) 2007 دخل بهدوء ولي العهد الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى صالون راشد المبارك، سلّم على الحاضرين بسرعة وجلس، ومن ثم شارك المثقفين والحاضرين النقاش والحوار، وبثقل تلك الشخصية السياسية الكبيرة تحدّث عن أي مقترحٍ يدور في ذهنٍ أي من الجالسين لدفع مسيرة البلاد نحو أفضل الصيغ التي تؤدي إلى راحة الناس وقضاء مصالحهم وبناء مؤسساتهم. كان صالونه مزارًا لهرم الدولة ولطلبة الجامعات وللأكاديميين والأدباء والمؤرخين، كان مجلس الراحل يشبهه، قليل التكلف سهل الحضور، لا تشعر بحرجٍ أو ملل، كما أن كل ضيفٍ في صالونه هو مهم للمضيف بغض النظر عن فارق السن أو المكانة أو الشهادة الأكاديمية.
ومع تبني الراحل راشد المبارك للمناهج الحديثة، وتأييده للأنظمة المؤسساتية، ومساندته للأنماط الليبرالية، وتوجهه نحو تفسير «العلمانية» بوصفها لا تتعارض مع الدين، غير أنه انفتح على كل التيارات، جمع بين صداقات متضادة في الاتجاه والتعبير. وفي مجلسه يجتمع عبد القدوس أبو صالح وحمزة المزيني، ويستضيف الكل بنفس المستوى من البشاشة والترحيب، ذلك أنه آمن أن الحوار والتواصل هو الأساس لبناء أرضية ثقافية في المجتمع السعودي.
يصف الراحل ندوته بأن هدفها: «إقامة جسور بين حقلين من المعرفة، هما العلوم الكونية، التطبيقية والعلوم الإنسانية، وتزويد المختص في أحد جوانب الحقلين بشيء من المعرفة عن حقل الطرف الآخر تقترح الأحدية برنامجها من خلال المشاركين فيها فتحدد الموضوعات التي يرى المشاركون تناولها ويوكل الحديث في كل موضوع إلى متخصص يعطى فترة كافية ليتمكن من خلالها من إعداده في الندوة لمدة ساعة واحدة ثم يبدأ النقاش، الندوة ليست مقتصرة على فئة بل هي مفتوحة لكل قاصد ووافد».
أرّقته طوال حياته حال «الكراهية» فكتب مؤلفًا خاصًا بعنوان: «فلسفة الكراهية» طبع عام 2001 كان العالم حينها يقف على قدمٍ واحدة جراء الضربات القاسية التي تلقّتها الدول والمجتمعات من ممارسات تنظيم القاعدة. خلاصة رؤيته حول الكراهية يوجزها بقوله: «العنف هو أحد مظاهر الكراهية، وإحدى وسائل التعبير عنها، وهو إحدى نتائج الكراهية وثمرة من ثمارها، فموقعه موقع النتائج من المقدمات، على أن العلاقة بين الاثنين - العنف والكراهية - علاقة يحكمها قانون الجدل فالكراهية تنتج العنف والعنف يورث كراهية أو يزيدها أو يوسع من دائرتها إنه شيء يمثل بمتوازنة الفعل العكسي (كراهية تنتج العنف، وعنف يورث الكراهية)».
حين زار المبارك مصر كان العلمان البارزان آنذاك هما سيد قطب وعبد الله القصيمي، ويشير في حوارٍ مطوّل معه نشر في «عكاظ» في 17 - 7 - 2004: «ذكرُ عبد الله القصيمي وشهرته سبقت وصولي إلى مصر، وكان يأتي أحيانًا إلى دار البعثات، وكان يأتي إلى السفارة السعودية، وقد التقيت به أول مرة في السفارة السعودية، فعرفته وكان بيننا تواصل خلال إقامتي في القاهرة، وكنا نتبادل الزيارات ولم ينقطع الاتصال بيننا إلى أن تركت مصر... كانت له ندوة، وكان أغلب الذين يأتون إلى مصر يغرمون برجلين اثنين متبايني الاتجاهات هما: عبد الله القصيمي وسيد قطب، كانت مجموعة تلتف حول عبد الله القصيمي وتأخذ منه، وتقابلها مجموعة أخرى تلتف حول سيد قطب وتأخذ عنه».
المفارقة أن الراحل زار قطب والقصيمي، ويشير هو إلى عجب رجال الأمن المصري حينها واشتباهه إذ كيف يزور المبارك هذين الرجلين معًا على ما بينهما من فرق جذري بل جوهري، لكنه الفضول حيث أراد تجاوز الحدّية الشعبية في الاطلاع على ما يطرح في المجتمع المصري حينها.
أرّقته هموم مجتمعه المتصلة بالمجال الديني والخطاب الفقهي، وفي كتابه «أوراق ودفاتر لم تقرأ» (ص: 96) يتحدّث بمرارة، معترفًا بأنه يصاب بالدهشة والأسى وهو يرى جهودًا مضنية تصرف عن العمل للمقاصد الكبرى التي تقوم بها الأمم، وتبنى بها المجتمعات، إلى جزئيات من الأمر تتخذ موضوعًا للشقاق والمنازعة، ويكون مما يثير الخصومة مثلا موضع اليدين من الصدر في الصلاة، والثوب أيطول أم يقصر، والمرأة تبدي وجهها أم تخفيه، وسماع نغمٍ هل يحل أم يحرم.
ويستمر في هذا النقد الواضح في كتاباته الأخيرة ومنها مؤلفه: «من قضايا المجتمع السعودي» وفي الصفحات الأولى يتحدّث عن القمع الذي يمارسه من يحتكر الاختصاص بالشريعة تجاه بقية المسلمين الذين يريدون التحدث بشؤونهم، معتبرًا أن من يحمل أعلى الشهادات من كلية الشريعة لا يجوز أن يقال عنه أنه متخصص في الشريعة إلا من باب المجاز ذلك أن موضع دراسته وما أعطي من أجلها شهادته هو بحث في إحدى جزئيات الشريعة الصغيرة جدًا مثل تصرف الفضولي، أو الولاية على القاصر أو المسؤولية الطبية أو ما إلى ذلك.
من أكثر الكتب تعبيرًا عن الراحل المبارك كتابه: «هذا الكون ماذا نعرف عنه» أراد منه نشر المعرفة بالطبيعة، وحاول جهده أن يجعل النظريات المعقّدة بمتناول القارئ العادي، والكتاب أقرب الكتب شبهًا بمؤلفه ذلك أنه توّاق دائمًا حتى رحيله بالاستزادة من الفهم للكون والتفاصيل العلمية التي تطرح حوله، لئلا يكون العربي والمسلم غائبًا عن العلم، وقاصرا عن الفهم. في مداخلاته التي تعقب محاضرة الضيف بأحديته كان كثيرًا ما يتحدث عن علاقة العرب بالعلوم بمرارة، وكانت نبرة صوته تزداد حدة حين يتحدّث عن اهتمام العرب بصناعة الكلام بدلا من صناعة المعرفة والعلم.
خلاصة مرارة الراحل تجاه هذا الخلل يلخّصه بصرامة العالم الذي يريد لمجتمعه أن يستيقظ يكتب في (ص: 22) من الكتاب: «وعلى الرغم مما جاء في القرآن من الدعوة إلى التفكير في جوانب هذا الكون وتأمل أسراره وسننه، فقد وقف الفرد العربي عند (قفا نبك) وقوفًا طال به حتى أصابه بما يشبه الشلل المعجز عن الحركة إلى الآفاق الأخرى من المعرفة، واحتلت (قفا نبك) ومثيلاتها من عقل الفرد العربي ووجدانه مكانة تقرب من القداسة، وصار على كل فردٍ من قبل أن توضع جمهرة أشعار العرب وحتى الوقت الحاضر، أن يروض مداركه وتذوقه لكي يحس ويتبين السمو الوجداني والبياني في مثل: (ترى بعر الآرام في عرصاتها) و(تظلّ العذارى يرتمين بلحمها وشحم) و(تقول وقد مال الغبيط بنا معًا: عقرت بعيري) إنه شيء طبيعي ومنتظر أن يكون محصلة هذه القوى المتجهة إلى نقطة واحدة هو الاهتمام والانصراف إلى صناعة الكلام».
كان الراحل المبارك على غرار الفلاسفة الكبار «حياتهم هي فلسفتهم»، ومع قيمة كل الذي كتبه طوال الثمانين عامًا، غير أن النبل والمروءة والخلق الرفيع والتواصل وقيم الحوار هي أبرز ما تركه للجيل الذي عايش صالونه الأدبي وتابع أفكاره ومقالاته، كان مستقيمًا كالسهم، لا يسبق كرم بيته إلا كرم خلقه، وخلال آلامه وتعبه في السنوات العشر الأخيرة بقي كما هو يتواصل ويحاور ويناقش، تعلّمت منه أجيال كاملة، فهو رجل تقريب لا تفريق، ونمط سلم وحوار، ولم يكن شتّامًا ولا هجوميًا، بل كان يقول كلمته ويمضي.
بين الأحساء والرياض، طوى الأدب والخلق، ولا عجب فهو من أسرة اشتهرت بالعلم والمعرفة.
كان طوال حياته توّاقًا إلى الارتواء من الحب، متعطشًا للسلام، وأبلغ من يصفه شعره:
خَفَقَاتٌ مِنْ جَنَاحٍ عَاشِقٍ
أَيْكَة تَخْضَلُ فِي بَوْحٍ كَنَارْ
قَطَعَ العُمْرَ حَنِينًا ظَامِئًا
لِنَدًى، وَرْدٌ إِلَى ذَوْبِ نَضَارْ
بَاحِثًا فِي عَطَشٍ، فِي لَهْفَة
عَنْ يَنَابِيعَ، وَعَنْ ضَوْءِ نَهَارْ
يَا حَنِينَ الضَّوْءِ أَظْمَأْتَ الظَّمَا
فِي حَشَاشَاتِي، وَأَبْعَدْتَ المَدَارْ.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.