مفاوضات فيينا: بين اندفاعة واشنطن ومناورات طهران

أوروبا تتوسط للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني

مفاوضات فيينا: بين اندفاعة واشنطن ومناورات طهران
TT

مفاوضات فيينا: بين اندفاعة واشنطن ومناورات طهران

مفاوضات فيينا: بين اندفاعة واشنطن ومناورات طهران

لم تتأخر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في «الوفاء» بوعدها الانتخابي حول الانخراط في مفاوضات مع إيران، وإن كانت غير مباشرة، وذلك بهدف العودة إلى لاتفاق النووي الذي خرج منه سلفه الرئيس السابق دونالد ترمب وعاد ليفرض العقوبات على طهران ويضيف إليها حتى.
«الدبلوماسية» التي يقول بايدن إنها الطريق الوحيد لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، تُرجمت دورتين من مفاوضات غير مباشرة مع طهران، استضافتها منذ مطلع أبريل (نيسان) الجاري العاصمة النمساوية فيينا، التي هي مكان ولادة الاتفاق الأصلي. وهذه المرة لعبت الدول الأوروبية دور الوسيط، إذ كان مسؤولوها ينتقلون بين الفندق الذي يستضيف المفاوضات مع الإيرانيين والفندق الآخر مقابله حيث يقيم الأميركيون، حاملين الرسائل بين الجانبين. ويُذكر أنه رغم تفضيل الولايات المتحدة الحوار المباشر، رفضت إيران العرض منذ البداية، وهي ما زالت ترفض الكلام حتى عن مفاوضات غير مباشرة. وهي تقول إن المطلوب واضح: إعادة العمل بالاتفاق الأصلي الذي توصلت إليه مع الدول الـ5 زائد 1، من دون زيادة أو نقصان.
وبالفعل، يبدو أن واشنطن توصلت إلى قناعة بأن هذه هي المقاربة الأفضل، على الأقل، حتى الآن. وتخلّت، وإنْ مؤقتاً، عن وعود بايدن الانتخابية بتوسيع نطاق الاتفاق ليشمل تدخّلات إيران في منطقة الشرق الأوسط وبرنامجها للصواريخ الباليستية. ولتاريخه، يمكن القول إنه إن تحقق شيء من التقدم في جولتين من التفاوض، ستُستكملان بجولة ثالثة الأسبوع المقبل. ولكن ما الذي تحقق فعلاً؟ وما حظوظ التوصل إلى اتفاق خلال شهر... كما يأمل بعض المشاركين في هذه المفاوضات؟

مدى التفاؤل أو التشاؤم حيال مآل المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية يعتمد على مَن تسأل من المشاركين. بيد أن الجميع يتفق على الأقل على أنها تسير على الطريق الصحيح. ففي اليوم الأول من المفاوضات التي انطلقت في 6 أبريل الماضي، أمكن الاتفاق على تشكيل لجنتي خبراء: الأولى تدرس رفع العقوبات الأميركية، والثانية تركّز على عودة إيران لالتزاماتها ضمن «خطة العمل المشتركة»، وهو الاسم الرسمي للاتفاق النووي الموقّع عام 2015.
اختتمت الجولة الأولى أعمالها بعد 5 أيام، عادت الوفود بنهايتها إلى دولها للتشاور. الوفد الإيراني يترأسه عباس عراقجي، نائب وزير الخارجية الإيراني، والوفد الأميركي يترأسه روبرت مالي المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران. الرجلان يعرف أحدهما الآخر معرفة جيدة، وسبق لهما أن خاضا المفاوضات الرئيسة معاً ضمن كبار المفاوضين، كلٌّ عن دولته، في الاتفاق الأصلي عام 2015.
إلا أنه لم تمضِ أيام قليلة حتى عادت الوفود مرة جديدة إلى فيينا للجولة الثانية من المفاوضات، بتأخر يوم واحد، تبيّن لاحقاً أنه لأسباب لوجيستية تتعلق بتأخر وصول أحد الوفود الأوروبية على أثر إصابة فرد منه بفيروس «كوفيد - 19» ولكنّ هذا التأخر كان مصحوباً بتوترات ومخاوف في أعقاب تعرّض مفاعل «نطنز» النووي -بوسط إيران- لما وصفته إيران بـ«عملية تخريب إرهابية» دمّرت أجزاء كبيرة منه، ودفعت إيران إلى التصعيد وإعلان رفع تخصيبها اليورانيوم بنسبة 60% من 20%، ما يقرّبها أكثر من درجة النقاوة المطلوبة لتطوير سلاح نووي والتي تصل إلى 90%.
لقد كان واضحاً أن إيران اختارت الخروج بهذا الإعلان من فيينا نفسها. ولكن رغم المخاوف من أن يعرقل هذا التصعيد الذي تبعه بيان أوروبي شديد اللهجة يُدين فيه قرار طهران رفع مستوى تخصيبها اليورانيوم، استمرت المفاوضات. وبينما رأى بايدن نفسه أن هذا الإعلان «لا يساعد» في المفاوضات، فإنه مع ذلك قال إنه لن يدع هكذا إعلان يعرقل المفاوضات.

- جولة ثانية متوترة
وهكذا انطلقت الجولة الثانية، وإنْ بتأخير يوم وبجلسة متوترة، انتقد فيها عراقجي امتناع الدول الأوروبية عن إدانة استهداف مفاعل «نطنز»، الذي اتهمت طهرانُ إسرائيل بتدبيره. ومن ثم، مكثت الوفود أسبوعاً تقريباً بدأت خلاله عملية صياغة الاتفاق على الأمور التي لم تعد محل خلاف، واتفقت في ختامه على تشكيل لجنة ثالثة مهمتها درس «تسلسل الخطوات» التي ستُتخذ في سياق العودة للاتفاق كاملاً. وبذا تكون هذه اللجنة انخرطت في معالجة واحدة من نقاط الخلاف الأساسية في هذه المفاوضات، وهي: مَن سيخطو الخطوة الأولى؟
طهران ما زالت متمسكة بأن ترفع واشنطن كامل العقوبات أولاً، ثم تعود إيران لالتزاماتها بعد أن تتأكد من أن العقوبات رُفعت فعلاً. ولقد كرّر الرئيس الإيراني حسن روحاني هذا التسلسل في الخطوات بعد اختتام الجولة الثانية قبل أيام. أما واشنطن فتقول إنها لن ترفع العقوبات قبل أن تعود طهران لكامل التزاماتها. وهنا، يسعى الوسطاء خلال العملية التفاوضية إلى إيجاد حل مقبول لاتخاذ خطوات متوازية من الجانبين.
غير أن المشكلات التي تهدد التفاوض لا تقتصر فقط على تسلسل الخطوات. إذ إن ميخائيل أوليانوف، السفير الروسي للمنظمات الدولية الذي يمثل بلاده في هذه المفاوضات، يتحدث عن «العشرات والعشرات» من النقاط التي ما زالت محل خلاف. ويضيف أن نقطة الخلاف الرئيسة تتمثل في تحديد العقوبات التي يمكن رفعها.
وفي حين تطالب إيران برفع كل العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، ويصل عددها إلى 1600 عقوبة، تقول واشنطن إنها مستعدة لرفع العقوبات المتعلقة بالاتفاق النووي فقط. ومعلومٌ أن ترمب كان قد فرض عقوبات مرتبطة أيضاً ببرنامج إيران للصواريخ الباليستية، ودورها المزعزع للاستقرار في المنطقة، وكذلك عقوبات تتعلق بحقوق الإنسان. وراهناً، يخضع البنك المركزي وقطاع النفط في إيران لعقوبات مختلفة مرتبطة بالاتفاق النووي وغيرها. ومقابل ذلك، تطالب طهران برفع كامل للعقوبات المرتبطة بالقطاعين النفطي والمالي ما يسمح لها بأن تبيع نفطها من دون قيود وتُجري معاملات مالية مع الخارج.

- تكتيكات التفاوض الإيراني
وعند هذه النقطة، يرى البعض أن تمسّك إيران بالخطاب نفسه حول رفع الولايات المتحدة كامل العقوبات قبل أن تعود إلى التزاماتها، ليس إلا أداة من أدوات التفاوض. وتقول سنام وكيل، الباحثة في الشؤون الإيرانية في معهد «تشاتام هاوس» بالعاصمة البريطانية لندن، إن هذا الخطاب الإيراني هو «جزء من تكتيكات التفاوض، وهو مهمّ بالنسبة إلى الداخل الإيراني». وهي ترى أن المفاوضات حتى الآن «مثمرة، ولكن الأطراف حذرة لأنه ما زال هناك كثير من العمل المطلوب إنجازه خصوصاً حول تسلسل الخطوات».
مع ذلك لا ترى وكيل، خلال حوار لها مع «الشرق الأوسط» أن هذه الخلافات كبيرة لدرجة أن تعرقل المفاوضات، وتوضح: «واقع أن المفاوضات مستمرة... وأن الجانبين حذران، أمر إيجابي»، مضيفةً أن «هدف الجانبين ما زال نفسه»، وهو إعادة العمل بالاتفاق النووي.
وحقاً، في هذه الأثناء، يسود داخل المفاوضات شعور مشابه بأن الطلبات الإيرانية العلنية محاولة لانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب. ويقول أحد المشاركين في المفاوضات لـ«الشرق الأوسط» إن الإيرانيين «قدموا ورقتين للتفاوض، واحدة توضح توقعاتهم وأخرى تتضمن رؤيتهم... إنها عملية سائرة قدماً، لكنني لا أذكر أي مفاوضات جرى فيها تبني ورقة قدمها أحد الأطراف كما هي».
في أي حال، رغم هذه الخلافات، فإن التزام الطرفين على الأقل يبدو واضحاً. البعض يرى أن مجرد عودة الوفد الإيراني إلى فيينا يشكّل إشارة إيجابية رغم اللهجة التصعيدية العلنية. وواشنطن بعد فوز بايدن في الانتخابات الأخيرة أكّدت مراراً التزامها بإعادة الاتفاق واستعدادها لتقديم تنازلات، رغم الصعوبات. وقد كرّر مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، ذلك بعد الجولة الثانية، في حديث للإعلامية الأميركية المعروفة كريستيان أمانبور –وهي إيرانية الأصل- فقال: «حققنا بعض التقدم، غير أنه ما زالت هناك مسافة يجب قطعها، ولكن في النهاية الولايات المتحدة ملتزمة بالعودة للاتفاق على أساس الامتثال المتوازي». وحسب سوليفان، فإن واشنطن تواجه تحدّيين في هذه المفاوضات: الأول تحديد العقوبات التي يمكن رفعها مقابل الالتزامات التي ستعود إليها إيران. والآخر قضية التسلسل. الأولوية بالنسبة إلى واشنطن الآن تتعلق بـ«المحتوى»، حسب مستشار الأمن القومي، وهو بالفعل عمل اللجنتين اللتين شُكّلتا خلال الجولة الأولى من المفاوضات.
على صعيد متصل، في حين لا تتوافر تفاصيل كثيرة عن الالتزامات التي أبدت إيران جهوزيتها للعودة إليها ضمن أي اتفاق محتمل، فإن معلومات أكثر رشحت عن العقوبات التي يمكن للولايات المتحدة أن ترفعها. وقد نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤول في الخارجية الأميركية قوله إن واشنطن قدّمت لطهران أمثلة عن 3 فئات من العقوبات: فئة أولى تتضمن العقوبات التي يمكن رفعها وفئة ثانية لن ترفعها، وفئة ثالثة مصنّفة «حالات صعبة» ما زالت الإدارة الأميركية تدرس إمكانية رفعها.
ووفق المسؤول الأميركي فإن العقدة الأساسية هي العقوبات المصنّفة في الفئة الثالثة، لأن «إدارة دونالد ترمب -حسب زعمه- فرضت عن عمد عقوبات تحت تسمية الإرهاب، على الرغم من أنها فُرضت فقط بهدف إعاقة أو منع عودة الولايات المتحدة للاتفاق». وقالت الصحيفة إن المسؤول رفض تحديد عدد أو نوع العقوبات المصنفة ضمن كل فئة. وهذا، بينما تحدث البعض عن استعداد واشنطن لرفع عقوبات تتعلق بالبنك المركزي المصنّفة تحت تمويل الإرهاب، مع الإبقاء على العقوبات المرتبطة بالحرس الثوري.

- نشاطات إيران الإقليمية
وحول موضوع العقوبات أيضاً، صرّح متحدث باسم الخارجية الأميركية بعد انتهاء الجولة الثانية من المفاوضات، بأن رفع بعض العقوبات عن إيران «لا يعني أننا لن نواصل مواجهة تصرفات إيران المزعزعة (للاستقرار) في المنطقة وهي تصبّ ضمن مصالحنا وصد مصالح شركائنا في المنطقة». ويرى آخرون أن واشنطن لن ترفع كامل العقوبات التي فرضها ترمب وذلك من أجل استخدامها لاحقاً لإجبار طهران على العودة للتفاوض حول أمور أخرى. وحسب سنام وكيل، فإن «إدارة بايدن تريد الإبقاء على بعض العقوبات بهدف إعادة الإيرانيين للتفاوض حول توسيع الاتفاق لتضمينه دور طهران مثلاً في المنطقة وأموراً أخرى». وترى وكيل أن ثمة «حاجة إلى العودة والتفاوض حول القضايا الأخرى، المتعلقة بدور إيران في المنطقة وبرنامجها للصواريخ الباليستية، لمواجهة (مخاوف إسرائيل ودول المنطقة)، ولتفادي المزيد من التصعيد العسكري في الشرق الأوسط». وتشير إلى أن هذا سيكون أيضاً في مصلحة إيران الباحثة عن انفتاح اقتصادي يريحها من تدهور الوضع.

- مخاوف أميركية من تكرار خطأ تقديرات أوباما
ترفض الولايات المتحدة تحديد سقف زمني لمفاوضات فيينا، وتشدد على أنها ما زالت في بداية الطريق. وبهذا الشأن، قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية إن ما تبقى من طريق المفاوضات «أطول مما مرّ»، وهذا، رغم زعم الرئيس الإيراني أن ما بين 60% و70% من الاتفاق أُنجز بالفعل، ويمكن تحقيق اتفاق كامل «إذا استمر الأميركيون بالتفاوض بصدق».
ومع استمرار هذه المفاوضات، تتزايد الضغوط الداخلية والخارجية على إدارة الرئيس جو بايدن لتحاشي «المغامرة» بإعادة العمل باتفاق من دون كثير من الضمانات. وبينما يكثف الإسرائيليون مشاوراتهم مع الأميركيين لمعرفة تفاصيل ما تقدمه الإدارة من إعفاءات لإيران، يتحرك الجمهوريون في واشنطن بقيادة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، في الكونغرس، للدفع باتجاه فرض مزيد من العقوبات على إيران وتعقيد العودة للاتفاق. كذلك، يحذّر شركاء واشنطن في الشرق الأوسط من مخاطر العودة لاتفاق قد يؤدي إلى سباق تسلح في المنطقة ويزيد من تدخلات إيران في دولهم في حال بدأت تجني مكاسب مالية من الاتفاق.
وحول هذا الجانب، قال فريديريك هوف في ورقة أعدها لمعهد «أتلانتيك إنستيتيوت» إن إدارة باراك أوباما كانت تأمل عند توقيعها الاتفاق مع إيران عام 2015، أن يسهم ذلك في خفض عدائية إيران وتدخلاتها في المنطقة، ولكن هذا لم يحصل.
ويذكّر هوف بتقرير الاستخبارات الأميركي السرّي عن إيران الذي كشف عنه أخيراً، والذي يقدّر أن إيران ستستمر «بتشكيل تهديد للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة على المدى المنظور».
ومن ثم، تساءل هوف عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية تقدّر اليوم أن إعادة العمل بالاتفاق النووي ستردع إيران عن تدخلاتها في المنطقة «كما ظن أوباما ذات يوم». وأضاف أنه «يأمل ألا تؤدي دبلوماسية بايدن النووية إلى دفع طهران عن غير قصد لتطوير سلاح ترى أنه في مصلحتها، وبأمل أن تجديد الاتفاق النووي معها لن يمكّنها من فعل أسوأ ما يمكّنها فعله في الشرق الأوسط، لأن عواقب ذلك سيكون قاتلاً بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة الإقليمية وللمدنيين الأبرياء الذين يكافحون يومياً في الدول التي تعاني من الوجود الخبيث لإيران وأدواتها».


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».