«الساحرة المستديرة»... كتاب جديد يرصد نشأتها في المستعمرات

عززت نزعة التحرر الوطني والهوية الثقافية

«الساحرة المستديرة»... كتاب جديد يرصد نشأتها في المستعمرات
TT

«الساحرة المستديرة»... كتاب جديد يرصد نشأتها في المستعمرات

«الساحرة المستديرة»... كتاب جديد يرصد نشأتها في المستعمرات

ارتبطت لغة كرة القدم بالسياسة منذ ظهورها إبان العصر الفيكتوري في إنجلترا وتداعيات الثورة الصناعية الأولى، فأصبحت شكلاً من أشكال سيطرتها على كثير من الأرض والبشر بمستعمراتها التي امتدت من هونغ كونغ إلى الهند، وسنغافورة، ونيوزيلندا، واسكوتلندا، ومصر، وزنجبار، وغيرها من الدول، حتى صارت بحسب المؤرخين الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
في كتابه «الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم» الصادر حديثاً عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، من إعداد كريستوفر فيرارو، وترجمه للعربية وليد رشاد زكي، يوضح المؤلف كيف ارتبطت نشأة كرة القدم بالتحرر الوطني، رغم محاولات عديدة للتأثير على ثقافة السكان المحليين والمستعمَرين بالشكل الذي يمكن معه القول «إن إنجلترا لم تكن تسعى إلى الاستعمار العسكري فحسب، لكنها كانت تسعى إلى فرض نموذج ثقافي واحد بين جميع شعوب المستعمرات». كانت كرة القدم تمثل شكلاً من أشكال النماذج الثقافية التي سعى المستعمر بشكل مقصود وغير مقصود إلى نشرها في جميع المستعمرات، وفي بعضها حاول أن يقصر لعبة كرة القدم على الإنجليز فقط، لكن سرعان ما سعى السكان المحليون إلى تعلم اللعبة وتحولت من مجرد لعبة إلى أداة من أدوات التغيير السياسي.

نصف يوم للعب

جمع الكتاب بين دفتيه ستة نماذج من المستعمرات، هي: هونغ كونغ، والهند، وزنجبار، ونيوزيلندا، وسنغافورة، إلا أن مصر احتلت المساحة الأكبر بينها والأكثر خصوصية وأهمية؛ نظراً لموقعها بين ملتقى قارات العالم القديم، وأن موقعها المتميز دفع إلى حفر قناة السويس التي باتت تشكل أهمية كبيرة بالنسبة لإنجلترا الفيكتورية في مرحلة الاستعمار حتى تضمن حركة التجارة، بخاصة مع الهند الشرقية وخطوط البرق مع باقي المستعمرات للتواصل الفعال. ثم، يتناول الكتاب العلاقة بين الهوية الثقافية وكرة القدم التي تعلمها المصريون بسرعة، بحكم تراثهم الذي يزخر بالكثير من الألعاب الشعبية المشابهة؛ ما جعلها تلعب دوراً مقصوداً وغير مقصود في عملية التحول السياسي منذ الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 وحتى 1956 عام العدوان الثلاثي عليها.
ويرصد الكتاب الدور السياسي التي لعبته كرة القدم في إنجلترا، وما أحدثته هذه الرياضة داخل المصانع، فقد بدأت الاحتجاجات العمالية جراء زيادة ساعات العمل؛ ما دفع ذلك السلطة والرأسمالية الوليدة إلى محاولة إخضاع الطبقة العاملة والاستجابة لمطالبها دون أن يبرحوا المصنع، فاتخذوا من يوم السبت نصف يوم للعب كرة القدم ووسيلة لإخضاع الجسد المنفلت بلغة ميشيل فوكو إلى جسد منضبط. وهكذا تم تشكيل فرق كرة القدم داخل المصانع. وتأسس دوري المصانع الذي فاز فيه فريق مصنع ولتش آرسنال للأسلحة، أقدم نادٍ مهني في العالم وما زال يلعب حتى الآن تحت مسمى نادي الآرسنال، كما برز أيضاً نادي عمال السكة الحديد والذي يعرف الآن باسم نادي مانشستر يونايتد. وبالفعل حققت كرة القدم غرضها في إخضاع الطبقة العاملة وإدماجها في أنشطتها داخل المصانع وخارجها. بينما ظلت مهمة تحديث مصر والحفاظ على قناة السويس وتحويلها إلى مستعمرة مثمرة تتطلب استجلاب عدد كبير من العمال من إنجلترا، فجلبوا معهم فنون هذه الرياضة، وقد لعبت هذه العمالة الصناعية البريطانية في مصر دوراً أساسياً خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر في تنامي شعبية لعبة كرة القدم، وبدا ذلك جلياً من خلال الأندية الاجتماعية والفرق التي أقامها هؤلاء العمال خلال فترة مكوثهم في مصر، مثل فريق نادي السكة الحديد فهو من الفرق التي تم إنشاؤها في هذا العصر بواسطة عمال السكك الحديدية البريطانيين والإيطاليين، ويعد أقدم فريق كرة قدم مصري ولا يزال مستمراً في الدوري حتى الآن. ويلفت المؤلف إلى أن أندية كرة القدم المرتبطة بالمصنع أو العمل الصناعي مثل السكك الحديد كانت شائعة في إنجلترا قبل مطلع القرن، وعشرات منها موجودة في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكثيراً ما ترعى هذه الأندية المنظمات والشركات وتستخدمها وسيلة إعلان لها.

مفاهيم خاصة

يشير الكتاب من خلال هذه المقاربة متعددة المستويات إلى علامة خاصة بخصوصية دخول كرة القدم إلى مصر، فجهود الجيش البريطاني والمعلمين والإداريين البريطانيين وعمال الصناعة، كل هؤلاء خدموا بالفعل عملية التحول في مفهوم الذات المصرية لدرجة معينة، وفي خضم هذه العملية بدأ العديد من المصريين في اتباع الممارسات والأساليب البريطانية، وفي بعض الحالات فإن النزعة العنصرية البريطانية لم تسمح بتأسيس فرق كرة قدم مختلطة تجمع بين المصريين والبريطانيين. ويلفت الكتاب إلى أن مثل هذه السياسات خلقت مفاهيم خاصة، وعززت من القومية، كما شجعت بالفعل على نمو الحركات القومية ضد الاستعمار. وبحلول أوائل القرن العشرين باتت كرة القدم المصرية عبر فرقها القومية، سواء المدنية أو العسكرية أكثر فخراً، حيث أصبحت قادرة على هزيمة الإنجليز أصحاب اللعبة وواضعي قواعدها. ففي دورة الألعاب الأولمبية عام 1924 بباريس أظهر الفراعنة أن انتصاراتهم قبل أربع سنوات في وقت مبكر لم تكن خطأ، فقد هزم المصريون المجر 3 - 0 قبل أن تنهزم من السويد في الدور نصف النهائي.

إثبات للجدارة

كان البريطانيون سعداء بتقديم كرة القدم للسكان المحليين، وخلال عقديين شهد المصريون تعلم اللعبة ونمت مهاراتهم وقد تجرأ البعض على الحلم بأنه من الممكن التغلب على المحتل في لعبته الخاصة، وعوضاً عن الانتصار في حرب صريحة على البريطانيين فإن الانتصار عليهم في ملعب كرة القدم كان في متناول اليد، فقد فاز المصريون في عام 1920، وكان هذا الفوز مليئاً بالدلالات السياسية وحدث في وقت من تصاعد الثورات القومية، وقد جاء بعد عام واحد من الاحتجاجات المصرية والتي أدت إلى وضع دستور جديد للبلاد، وانهار وضع مصر باعتبارها مستعمرة بريطانية، ويبدو أنه أصبح من الممكن أن ينهزم المستعمر، صاحب اللعبة.
وهكذا في جميع أجزاء هذا البحث كانت لعبة كرة القدم دائماً سياسية، واستخدمت في نهاية المطاف لإثبات جدارة دولة على أخرى في البطولة الدولية. وكلما توسع البريطانيون في إمبراطوريتهم أخذوا اللعبة والمباريات معهم لأسباب ثقافية. ويذكر الكتاب؛ أنه لذلك سمح المسؤولون الاستعماريون بالمنافسة المباشرة في الكثير من الأماكن، بينما في بلدان أخرى اتسموا بالغطرسة ولعبوا مع أنفسهم فقط، وفي مستعمرات مثل زنجبار استخدم البريطانيون بوعي اللعبة لتذويب الفوارق المختلفة بين الجماعات العرقية.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».