راشد المبارك.. رجل العلم والحوار والتسامح

رحل في الرياض أمس عن 80 عامًا

د. راشد المبارك
د. راشد المبارك
TT

راشد المبارك.. رجل العلم والحوار والتسامح

د. راشد المبارك
د. راشد المبارك

فقدت الأسرة الثقافية والعلمية في السعودية، أمس، العالم والأكاديمي والأديب السعودي الدكتور راشد المبارك الذي رحل عن 80 عاما، كانت حافلة بالعلم والبحث والتحقيق والتأليف، والنشاط العلمي والبحثي، كما كانت حافلة باحتضان الفكر ورعاية الحوار وتكريم الأدباء.
رغم أن الدكتور راشد المبارك ولد في الأحساء عام 1935 من أسرة علمية واجتماعية عريقة، فإن إقامته كانت في الرياض التي عرفته بوصفه أحد أبرز الشخصيات العلمية والاجتماعية، وقد جمع بين العلم والأدب، فهو أستاذ متخصص في الفيزياء والكيمياء، وهو كذلك أديب وشاعر، وناقد يتذوّق بحس مصقول وينقد ببصيرة نافذة، وعرف كذلك باعتباره محققا أسهم بفعالية في إنجاز الموسوعة العربية العالمية، أكبر الموسوعات العلمية في العالم العربي.
في المجال العلمي، ألفّ كتابه «كيمياء الكم» وهو أشبه بمنهاج لطلبة الدراسات العليا والجامعية، كما ألفّ كتاب «هذا الكون ماذا نعرف عنه؟»، الذي كتبه بصياغة رصينة أقرب ما تكون للصياغة الأدبية الممتعة منها للعلم الجاف. ونشر أبحاثا مبتكرة في عدة مجلات علمية عالمية عن تأثر طاقة الإلكترون.
وكتب في الفكر والسياسة والتاريخ، كما قدم بحثا متميزا عن المتنبي بعنوان «المتنبي ليس شاعرا»، حاول فيه معرفة عامل النبوغ لدى المتنبي، وسبب التفوق عنده، وأظهرت هذه الدراسة قدرته النقدية الباهرة. وفي الأدب والشعر كتب «شعر نزار بين احتباسين»، وله ديوانان من الشعر: «قراءة في دفاتر مهجورة»، و«رسالة إلى ولادة».
وفي الفكر كتب «فلسفة الكراهية»، و«التطرف خبز عالمي»، فقد كان راشد المبارك مسكونا بهاجس التعايش والحوار، ونبذ التطرف، ومد الجسور بين التيارات الثقافية، وخلق فضاءات للتواصل، وهو لذلك حوّل ديوانيته الأحدية التي تقام في منزله بالرياض إلى مناسبة للحوار الفكري، وتجسير العلاقة بين مختلف الأطياف الثقافية.
ومثلما كان معنيا بنشر ثقافة التسامح ورعاية التواصل، كان معنيا كذلك بمواجهة أفكار الكراهية التي انطلق عقالها وأصبحت وبالا على الدولة والمجتمع، وسببا لتفشي الاحتراب وتقسيم المجتمعات.
في كتابه «فلسفة الكراهية: دعوة إلى المحبة»، يتحدث راشد المبارك عن «فئة من الناس تحترف الكراهية، تزرعها وتسقيها وتنميها وتدعو إليها وتُبشّر بها»، ثم يقول في توصيف هذه الظاهرة بأن «الكراهية صارت في بعض النفوس نوعا من العقيدة لها جلال العقائد التي تجب حمايتها وصيانتها».
ويقترب أكثر من تشخيص وباء الكراهية بالقول: «تعددت دوائر الكراهية لدى فئة من المسلمين، وإذا كانت الدائرة الأولى القريبة من المركز تضم المخالفين في العقيدة والملة (..) فإن هناك دوائر أخرى اتسعت لتشمل المشاركين في الدين والعقيدة من المخالفين في الطائفة أو المذهب».
درس المبارك في جامعة القاهرة، حيث حصل على الدرجة الجامعية في الفيزياء والكيمياء بتقدير جيد جدا من كلية العلوم في عام 1964، وابتعث للدراسة وحصل على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969، وحصل على الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كاردف عام 1974، وعمل أستاذا لكيمياء الكم في كلية العلوم بجامعة الملك سعود حتى عام 1992، وعمل أيضا مديرا للمختبرات الكيماوية بوزارة الزراعة، وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، وعضو مجلس الأمناء بمعهد تاريخ العلوم العربية بجامعة فرانكفورت، ورئيس المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بمدينة الرباط بالمغرب، وعضو المجلس الأعلى للإعلام في السعودية، وعضو مجلس الإدارة بدارة الملك عبد العزيز.
في حفل تكريم راشد المبارك الذي أقامته أسرة آل المبارك في الأحساء في أكتوبر (تشرين الأول) 2008، تحدث الدكتور مرزوق بن تنباك قائلا: «إن الدكتور راشد تجاوز في فكره السائد والمألوف إلى البحث عن الحقيقة، وفي علاقته وصلاته مع الناس تجاوز من تربطهم القرابة والنسب دون إهمال الحقوق إلى كل العرب، وفي صداقاته تجاوز المحلية إلى المحيط العالمي الإنساني».
في حين وصف المفكر الدكتور إبراهيم البليهي راشد المبارك بأنه «مثقف تنوعت معارفه وامتدت اهتماماته، وهو قبل ذلك وبعده ذو بصيرة فكرية زاخرة. إنه مفكر عميق الفكر وناقد، والأهم من ذلك أنه يدرك مسؤولية المثقف».
أما عبد الله القفاري، الذي قرأ تجربة راشد المبارك في كتابه «راشد المبارك: ريادة في الفكر والثقافة»، فقال «أقرأ في راشد ملامح الإنسان الذي طالما عشقت وجوده وهمْت في عالمه. إنه راشد المثقف.. له حضور كبير في مشهد الثقافة». وبالمناسبة فإن هذا الكتاب الذي يقع في 260 صفحة من القطع المتوسط، وطبع في مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقدم له الشيخ جميل الحجيلان، يستعرض عبر أربعة فصول تجربة الشيخ راشد المبارك في العلم والثقافة والحياة العامة. وضّم القفاري في الكتاب بعض المقالات المهمة التي كتبها راشد المبارك، بينها مقاله «محاولة للفهم: الغزو الثقافي.. وهم أم حقيقة؟»، ومقال «رسالة إلى كل من تؤرقه هموم أمته إرادة القوة عندما تكون وجها آخر للتهور»، ومقال «حتى لا تتصدع الحصون»، ومقال «كلمة إلى من يعنيهم الأمر في الدولة والمجتمع».



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».