يبدو أن كنوز «ألف ليلة وليلة» لن تنفد، فلا تزال حكاياتها بأسمارها وخوارقها وعجائبها مطروحة على طاولة الأدب والفن. عن هذه الحكايات وكيف أصبحت مادة للدراما الإنسانية يدور كتاب «ألف ليلة وليلة في الدراما الإذاعية» للباحث د. طارق عبده دياب، الذي يرصد أبرز تجليات «الليالي» عند تحويلها إلى مسلسلات وسهرات إذاعية، مسلطاً الضوء عن سر عبقريتها وكونها لا تزال مادة جاذبة للمشاهد.
عن سر تسمية الليالي بهذا الاسم وتعدد آراء الباحثين حولها، يوضح المؤلف أن أقرب هذه التفسيرات للحقيقة هو ميل العرب إلى الموسيقى اللفظية والسلاسة التعبيرية، مما جعلهم يرفضون قصر التسمية على عبارة «ألف ليلة»، بل أضافوا إليها كلمة ليلة لتصبح «ألف ليلة وليلة»، فضلاً عن تشاؤمهم من الأرقام المدورة مثل العشرة والمائة والألف. وحول مؤلفها المجهول يرى أنه أسهم في تأليف الكتاب العديد ممن لم نعرف لهم أسماء وتم تداول حكاياتهم بالليالي ثم تدوينها بلغة تمزج بين الفصحى والعامية وبأسلوب سهل لتناسب القارئ العادي.
بين «الغول» و«الرُّخ»
يخصص المؤلف النصف الأول من كتابه لإضاءة عديد من الشخصيات والمخلوقات التي تزخر بها «الليالي» وتجعلها كتاباً عجائبياً بامتياز، مثل «الغول» الذي يمثل العنف والقسوة فيأكل لحوم الإنسان كأنما يأكل وجودهم الإنساني نفسه، كما أنه ينقسم لنصفين ويتكاثر بطريقة مزعجة تشبه الكوابيس.
ويعد الغول، بحسب تراث الليالي، نوع من الإنسان المتوحش أو حيوان انعزل فتوحش وتغوّل. وتارة يكون خيالاً توهمه الناس المستوحشون في القفار، أو هو رؤى تحدثها الكواكب في حركاتها فيتصور الناس أشكالاً مخيفة. ويظهر الغول في حكايات ألف ليلة باعتباره وحشاً بعين مشقوقة بالطول يتطاير منها الشرر. ويرى المؤلف أن الخيال الشعبي أبدع في حكايات ألف ليلة وليلة كائناً خرافياً آخر هو «الرُّخ» الذي يعتبر من وحوش الطير التي تتميز بالقدرات الخارقة، فهو ذلك الطائر الأسطوري الذي يحجب جناحاه الشمس عن الدنيا فتغيم وتظلم وتصيب بحارة السفن برعب وتنقل الإنسان من مكان إلى مكان في لحظات. ويبدو من وصف الراوي الشعبي له أنه نسخة عملاقة من النسر الكبير مع تضخيم أجزاء معينة من جسده بخاصة منقاره وساقيه وجناحيه. وهكذا برغم أنه طائر خرافي فإنه يحمل سمات طائر معروف شاء الخيال الشعبي أن يجعله عملاقاً ضخماً بحيث يخرج في وصفه عن كل ما هو مألوف من وحوش السماء على نحو يجعل القارئ في حالة لا تنتهي من التشويق.
وهناك كذلك الحصان الطائر والبساط السحري اللذين يطيران بالبطل في حكايات ألف ليلة وليلة إلى أي مكان يريده ويقطعان المسافات الطويلة في لمح البصر، فيحلق بالقارئ في السماء وبحرية بعيداً عن ضغوط الأرض فيشعر الإنسان بالسعادة. وشخصية الحصان السحري المدجج الطائر ورد ذكرها في مواضع عدة من الليالي، كما جاءت في الأسفار الهندية الخمسة في «البنجاتنترا». ويرى البعض من المتحمسين للأصل الهندي لألف ليلة وليلة أن عنصر الخوارق وأبرزها الحصان الطائر مأخوذة من الثقافة الهندية.
محتالون ونبلاء
ونجد في «ألف ليلة وليلة» وصفاً دقيقاً لعادات الناس وتقاليدهم وطباعهم وأزيائهم وما يشربون ويأكلون، وأحوال معيشتهم، لذلك هي ليست مجرد عمل قصصي نلتقي معه بالمتعة وإثارة الخيال فحسب، إنما هذه الدرة من القصص تعد وثيقة اجتماعية للحياة العربية قديماً سواء في الصحراء أو في المدينة. من هنا تتميز «الليالي» بالتنوع والثراء في الشخصيات فنرى التاجر والملك والوزير والصياد والخياط والحلاق واللص والجندي والجزار والمحتال والجارية والصائغ والخباز. إنها شخصيات ونماذج يتكون منها المجتمع العربي الذي يحتوي على مختلف الطبقات في «ألف ليلة وليلة»، حيث تتحاور فيه شخصيات أبطال الملاحم والبطولة النبيلة مع شخصيات أبطال المدينة من الشطار والعياق واللصوص ممن يأخذون من الأغنياء ليعطوا الفقراء والمحتاجين. ويتفنن الرواة في وصف محاسن المرأة الجميلة النادرة التي تعكس مفاهيم الجمال النسائي عند العرب ويظهرونها العاشقة أو المعشوقة التي تحب من أول نظرة ثم يحدث الفراق الذي تتعدد أسبابه لمجرد إطالة القصة. ومن سمات المرأة بالليالي أنها إذا خانت أو كادت فهي لا تخون حبيبها ولا تكيد له وإنما تخون في سبيل الوصول إليه وتكيد لتتجنب أهوال فراقه.
ويوضح الكتاب ما تحفل به «الليالي» من حياة الصعلكة، وحكايات الشحاذين والصعاليك والتي تعد من أطرف النماذج، ويكون كشف ماضيها أحد الأسباب في تغيير مجرى أحداث الحكاية. والصعلوك أو الشحاذ يكون في الأصل ملكاً أو تاجراً خسر ماله، حيث إن أكبر حكايات ألف ليلة وليلة من حيث المساحة والتي تمتد من الليلة التاسعة وحتى الليلة الحادية والثلاثين هي حكاية «حمال بغداد والبنات الثلاث» والتي تتضمن حكايات الصعاليك الثلاثة الذين هم في الأصل أبناء ملوك أو أمراء خسروا مملكتهم.
دراما إذاعية
في النصف الثاني من الكتاب، يتطرق المؤلف إلى أبرز تجارب استلهام حكايات ألف ليلة إذاعياً. وهنا يبرز اسم الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا مع المخرج محمد محمود شعبان «بابا شارو»، حيث قدم هذا الثنائي العديد من المسلسلات المستمدة من حكايات الليالي في دراما إذاعية في الفترة من عام 1955 وحتى 1971. ومن عناصر البناء الذي أبرزها أبو فاشا عند تحويله قصص الليالي إلى عمل إذاعي، الحبكة القائمة على التشويق مثل حكاية «بدر باسم». هنا يبدأ التمهيد بلحظة آنية وهي دخول النخاس على الملك طهرمان، الذي كان له ثلاث زوجات ومائة سرية ولم يرزق بولد، ومعه جارية رائعة الجمال يشتريها منه الملك وتظل صامتة لا يعرف سرها إلى أن تتخلى عن صمتها بعد أن يتزوجها ويعتقها ويطلق زوجاته الثلاث وتنجب منه الولد.
ومن عناصر الدراما الإذاعية الأخرى «الصراع» الذي يحقق للمتلقي مزيداً من الإثارة والتشويق من خلال النزاع بين قوتين متكافئتين ومتساويتين لكنهما متضادتان في الاتجاه. وينقسم الصراع إلى خارجي وداخلي. يظهر الصراع الخارجي في مسلسل «ألف ليلة وليلة» من خلال الفرق بين الطبقات الاجتماعية أو ما يطلق عليه الصراع الطبقي فـ«السمندل» والد جوهرة الذي يعيش في البحار يرفض زواج «بدر باسم» من ابنته لأنه يعيش في البر. وعندما يتقدم لطلب ابنته يتعالى عليه ويسخر منه وينادي على الجنود لقطع رقبته لكن «بدر» تنقذه تربيته وخبراته وذكاؤه وعلمه وثقافته فتأتي جيوش جدته لنجدته. أما الصراع الداخلي فيتمثل في الخير والشر اللذين يتنازعان كقوتين داخل السندباد البحري حين يجد نفسه وحيداً في الكهف دون طعام أو شراب فيوسوس له الشيطان أن يقتل كل من يُحكم عليه بالموت في الكهف فيدخله ومعه قليل من الخبز والماء.