الرياض.. عاصمة الصحراء قصة صمود

عين على هندسة «البيت السياسي» السعودي وأخرى على استقرار الإقليم

السعودية:«الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»
السعودية:«الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»
TT

الرياض.. عاصمة الصحراء قصة صمود

السعودية:«الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»
السعودية:«الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا»

في أوائل عام 2011. بدايات ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي»، كان سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، يعقد مؤتمرا صحافيا في جدة، غرب السعودية. ويصرح بـ«أن من يشير بإصبعه تجاه السعودية سنقطعها له».
كان الفيصل يجيب عن سؤال حول احتمالية وجود تدخلات خارجية لزعزعة استقرار البلاد كما هي مؤشرات الحال في طلائع دول «الربيع العربي»، آن ذاك. كان «البيت السياسي» في الرياض، يوجه رسالة لا مواربة فيها إلى أن «عملاق الصحراء» السياسي والاقتصادي لن يتوانى عن استخدام ثقله، لخلق التوازن الإقليمي مقابل هذا الزلزال الذي يهدد الجغرافيا والأمن الوطني. مرت 4 سنوات من عمر هذا التصريح، وصمدت «الرياض» ضد رياح «ربيع المنطقة» الذي لم يكن سوى ديكور لامع لـ«ربيع أصولي» قطباه رمزي «الإسلام السياسي»، السني ممثلا في «الإخوان المسلمين» ومقابله الشيعي ممثلا في طهران، وما بينهما من حركات العنف المسلح المتطرفة، ومجاميع المرتزقة، وشذاذ الآفاق، الغرباء الذين لا أوطان لهم.

عبرت المنطقة أزمات سياسية كبرى في العقد الأخير. بدأت عندما استيقظ السعوديون مع العالم على مفاجأة 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية من تنظيم القاعدة. وكانت الصباحات الأمَرّ، تلك التي تلت تفجيرات مايو (أيار) 2003 وما تبعها من ملاحقات في كل جغرافيا المملكة انتهت إلى القضاء عليهم.
كان الجرح الوجداني للسعوديين عميقا، ليس من كون المهاجمين من أبنائهم فقط، بل ومن تشويههم لصورة «الإسلام» خاتم الأديان السماوية، ووصمه بالإرهاب.
«الإرهابيون سرقوا أهم الأشياء لدينا، أخذوا إيماننا وأطفالنا واستخدموهم لمهاجمتنا». قالها الأمير محمد بن نايف لريتشارد هولبروك، السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، في عام 2008. بحسب تقرير نشر في «نيويورك تايمز» أخيرا.
السعودية اليوم، في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، أعادت هندسة «البيت السياسي» من الداخل، بقرارات تعيين الأمير مقرن وليا للعهد، وتعيين الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد، وزير الداخلية الذي بزغ نجمه في العقد الأخير كأحد أبرز الوجوه السياسية في مكافحة الإرهاب.
أخيرا، في موقفين متتابعين، تؤكد فيهما الرياض على مواصلة الحرب على الإرهاب، عزّى الملك سلمان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في استشهاد الجنود في سيناء على أيدي الإرهابيين، وأعاد تأكيد وقوف الرياض مع القاهرة ضد من «يحاولون تعكير صفو» علاقتهما في مكالمة لاحقة بأيام.
> إرث التفاصيل السياسية
قبل شهور قليلة، كانت المواقع الإخبارية تضج بصور بعض نجوم «المفرقعات الإخوانية» إعلاميا، وهم يجرون عجلات حقائب سفرهم في مطار الدوحة، مغادرين عماراتها المتلألئة في خاصرة الخليج.
كنت تلك الصور المتناسلة كفيلة لدفع المراقبين للتنبه، ما هي إلا هوامش لبداية أكلاف باهظة على الدوحة تسديدها للإقليم، جراء دعمها وتبنيها لسرديات احتجاجات «الإسلام السياسي». هذه السرديات التي جعلت حتى تنظيم القاعدة ينظّر لـ«حقوق الإنسان» من خلال منبره قناة «الجزيرة»، المملوكة بالكامل للحكومة القطرية.
إرث الفوضى الذي عم جغرافيا العالم العربي، رأته القوى الإقليمية مبالغة قطرية في الرغبة في لعب دور أكبر من حجمها «الجغرافي»، هذا الإرث المعقد بالتفاصيل من الخليج إلى المغرب العربي مرورا ببلاد الشام، الذي أثقل كاهل قطر ودفعها إلى انتهاج سياسة أكثر تواضعا مع الشركاء الإقليميين والدوليين. التي انتهت باتفاقية «الرياض» الشهيرة، واقتضت عودة السفراء الخليجيين للدوحة.
«قد يستغرق الأمر سنوات كي تستعيد قطر تماما قدرا من الثقة بين الشركاء الإقليميين» بحسب كريستيان كوتس أولريشن زميل الشرق الأوسط في معهد بيكر للسياسة العامة في جامعة رايس.
ويضيف أولريشن في دراسة مطولة عن قطر و«الربيع العربي» نشرت في مركز كارنيغي للدراسات «إذا كانت قطر تسعى إلى استعادة سمعتها (وتحقيق الاستفادة القصوى) في مجال الوساطة بطريقة تتفوّق على قدرتها المؤسّسية المحدودة، فقد يحتاج المسؤولون في الدوحة إلى التراجع خطوة إلى الوراء والسماح للآخرين بتولّي زمام القيادة، وهو الأمر الذي قد لا يرغبون في القيام به».
الظل المجنح للرياض، امتد من مساندة القاهرة في انتفاضتها على حكم «الإخوان»، إلى مساندة الاستقرار في المنامة ضد حركات التمرد الطائفية، التي تقودها جمعية «الوفاق» البحرينية، ومرورا برفضها مقعد مجلس الأمن غير الدائم، الذي لم يتخذ موقفا حازما من التقتيل المنظم الذي يمارسه بشار الأسد ضد الشعب السوري، وقادت مبادرة مصالحة في اليمن، لكن أرادت أطراف أخرى أن تتحول صنعاء إلى دولة تمارس «ديمقراطية الميليشيات» بعد سيطرة الحوثي العسكرية عليها. وانتهاء بمشاركة القوات الملكية السعودية الجوية في توجيه ضربات، لتنظيم داعش، ضمن حلف دولي لوقف تقدم هذا التنظيم ذي الأدبيات البربرية، القادمة من العصور الوسطى الروحية.
> الرياض.. ومحور الاعتدال 2
قبل ساعات الشفق الأخيرة من يوم 3 يوليو (تموز)، ظهر المشير عبد الفتاح السيسي على شاشة التلفزيون المصري، ليعلن عزل الدكتور محمد مرسي عن كرسي الرئاسة، بعد تخييره بين الامتثال للمطالب السياسية للحشود العارمة في ميادين القاهرة والتنحي، لكنه رفض الاثنين.
لم تمر دقائق على هبوط الليل، حتى جاء بيان الرياض الصادر باسم الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، باعتبار التحول في القاهرة رغبة شعبية يعلن وقوفه معها، كانت تلك أول نافذة ضوء سياسي تفتح على القاهرة الجديدة.
في ذات الوقت، قادت أبوظبي دبلوماسية نشطة في المنطقة ضد الإرهاب، وصعود موجات «الإسلام السياسي» من جماعات التطرف الديني أو جماعات العنف المسلح، مثل «الإخوان المسلمين» و«داعش» و«القاعدة»، التنظيمات التي تتشارك العواصم الثلاث آنفة الذكر وضعهم على قوائم «الإرهاب».
الرياض مارست العقلانية السياسية تجاه فوضى المنطقة، ووضعت ميليشيا حزب الله وتنظيمي «القاعدة» و«داعش» في سلة وحدة. وقفت مع مصر وتحملت كل الأكلاف السياسية جراء موقفها الصلب ضد الفوضى. أعلنت في بيانات رسمية احترام رغبات الشعوب في كل «الثورات» التي عبرت المنطقة دون استثناء، ساندت العراق في أكثر فترات هجوم المالكي عليها، وباركت الحكومة الجديدة رافضة أي تقسيمات سياسية طائفية، وفي الوقت ذاته الذي حمّلت المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية تجاه سوريا، لامت واشنطن على تفاهماتها النووية مع طهران الممول الأول والمتبني للميليشيات الشيعية في المنطقة. لم تنجر الرياض في مستنقع السياسة الطائفية، التي تغذيها أجندة «الإسلام السياسي» الشيعي المصدرة من طهران، العاصمة التي تعاني اليوم أزمات داخلية خانقة من جراء استثمارها في اقتصاديات الحرب والقضايا الخاسرة في المنطقة.
> تجديد هيكلة صناعة القرار
قبل أشهر قليلة، كتبت مجلة «أميركان إنترست» تقريرا مطولا عن «7 دول عظمى»، وصفته بالقراءة الذاتية للمجلة، لترتيب 7 قوى كبرى يمكن «أن تهز العالم». مع اعتمادها معايير متفاوتة، عسكرية، اقتصادية، سياسية، تتيح لها تشكيل بيئاتها الإقليمية والتأثير على النظام الدولي ككل.
وضعت المجلة، السعودية، في المرتبة السابعة، مبرزة دورها في الوقوف بجانب مصر، بطريقة أزعجت واشنطن، فضلا عن مهاراتها في هندسة اقتصادها النفطي عند انهيار السوق الذي أدى إلى تغير في سياسات دول العالم. وحربها الجادة والفعالة ضد الإرهاب.
في خضم تنامي هذا التأثير الاقتصادي والسياسي والأمني للسعودية في محيطها الإقليمي، اتخذ الملك سلمان أولى خطوات تجديد هندسة المعمار السياسي والاقتصادي في البلاد، بإقراره إنشاء مجلسي «الشؤون السياسية والأمنية» و«الشؤون الاقتصادية والتنمية». يرأس الأول الأمير محمد بن نايف ولي ولي العهد، وزير الداخلية، فيما يرأس الثاني الأمير محمد بن سلمان، وزير الدفاع.
وبحسب البيان الصادر عن مجلس الوزراء فـ«إن مجلس الشؤون السياسية والأمنية من ضمن مهامه تحديد التوجهات والرؤى والأهداف ذات الصلة بتلك الشؤون ومراجعة الاستراتيجيات والخطط السياسية والأمنية اللازمة لذلك، ومتابعة تنفيذها والتنسيق بينها».
بينما من مهام مجلس «الشؤون الاقتصادية والتنمية» أن يحدد «التوجهات والرؤى والأهداف ذات الصلة بالشؤون الاقتصادية والتنمية، ومراجعة الاستراتيجيات والخطط الاقتصادية والتنموية اللازمة لذلك، ومتابعة تنفيذها والتنسيق بينها».
الرياض العاصمة العربية الوحيدة ضمن مجموعة «دول العشرين» الاقتصادية، وهي المنظمة العالمية التي صنعت لمراعاة الثقل الاقتصادي الذي تتمتع به عواصم هذه الدول، تدشن عهدا جديدا، بقيادة الملك سلمان، بخيارات سياسية واقتصادية متعددة، ما يجعلها تبدو «ميناء آمنا» وسط محيط متلاطم، لا يبدو أنه سيهدأ قريبا.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.