قبل 60 عاماً، في الثاني عشر من أبريل (نيسان) 1961، أطلق الاتحاد السوفياتي السابق أول إنسان إلى الفضاء، في رحلة على متن مركبة «فوستوك» (الشرق) الفضائية استمرت 108 دقائق، دار فيها يوري غاغارين، أول رائد فضائي، دورة واحدة حول كوكب الأرض، وحقق السوفيات بها سبقاً فضائياً تاريخياً لم تشهد البشرية له مثيلاً.
وقد استعرضت الصحف البريطانية حديثاً كتاباً لمؤلفه ستيفن ووكر، بعنوان: «ما وراء (الحدث): القصة المذهلة لأول إنسان يغادر كوكبنا في جولة نحو الفضاء»، الذي يروي تفاصيل الحدث، وما وراءه من المشكلات التقنية التي كادت أن تقود إلى كارثة للمركبة الفضائية الأولى، وربما مقتل أول رائد فضاء.
يقارن ووكر، المعروف بأعماله في إنتاج الأفلام الوثائقية ودراسته للتاريخ، بين رحلة غاغارين على مركبة «فوستوك» ورحلات مركبة «ميركوري»، وروادها السبعة، التي أطلقت بين مايو (أيار) 1961 ومايو (أيار) 1963. كما يقارن بين البرنامجين الفضائيين الروسي والأميركي في الستينيات من القرن الماضي، فالبرنامج السوفياتي كان بقيادة رئيس المصممين الفضائيين سيرغي كورولوف الذي كان مصمم صواريخ، وسجن عام 1938 لفترة أيام حكم جوزيف ستالين لينقذه أحد أصدقائه. أما البرنامج الثاني، فكان تحت قيادة فيرنهر فون براون، مصمم الصواريخ الشهير لألمانيا النازية، الذي اصطاده الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية. وفي حين كان رواد الفضاء الأميركيين يتمتعون بالسباحة على الشواطئ العامة، ويسجلون مقابلات صحافية، كان أقرانهم السوفيات يقبعون في معسكراتهم المغلقة.
وفي حين كانت مقصورة «ميركوري» تبدو مقصورة لطائرة مقاتلة، فإن المقصورة الفضائية السوفياتية كانت لا تمتلك سوى 4 أجهزة عمل، لأن أغلب الوظائف كانت أوتوماتيكية. وهكذا، وبعد انطلاق «فوستوك» بصاروخ بقدرة 20 مليون حصان، لتخترق الغلاف الجوي للأرض، وصولاً إلى مدارها حول الأرض، لم يكن على الطيار الشاب غاغارين سوى تغيير شدة الإضاءة، وتشغيل الراديو والمروحة، مثلما يفعل أي راكب طيارة!
وسمح التصميم كذلك لغاغارين بإدارة عملية دخول العودة إلى الأرض يدوياً في حالة الطوارئ، بإدخال شفرة كانت موضوعة داخل ظرف محكم الإغلاق بالقرب منه. وعلى عكس «ميركوري»، لم تكن هناك أي فرصة لغاغارين لإيقاف أو إحباط المهمة.
يقول الكاتب إن الفرق الأساسي بين البرنامجين أن البرنامج السوفياتي نجح، إذ كان الصاروخ أكبر وأفضل، وذلك بعد تكييف صاروخ مصمم لنقل قنبلة ذرية كبيرة. إلا أنه يشير إلى أن السباق كان حثيثاً، وأنه كان بمقدور الأميركيين إرسال أول إنسان إلى الفضاء في 24 مارس (آذار) من ذلك العام، غير أنهم ارتأوا إطلاق سفينة غير مأهولة أولاً في مدار قريب من الأرض.
ويشير الكاتب إلى أن مهمة «فوستوك» كادت أن تنتهي بكارثة في أثناء عملية الهبوط، وفي أثناء دخول الغلاف الجوي للأرض بسرعة 18 ألف ميل (28970 كلم) في الساعة، إذ حدث عطل لمدة ثانيتين في محرك صاروخ المرحلة الثالثة، ما أدى إلى أن تكون سرعة المركبة أكبر لعدم قدرة محرك الكبح على العمل أوتوماتيكياً في تلك الفترة الوجيزة. وقاد ذلك إلى دوران المركبة بشكل مريع، حيث سمع غاغارين أصوات قرقعة وشم رائحة في أثناء تشقق واحتراق أجزاء من الغلاف الخارجي للمركبة.
وبعد أن قذف غاغارين نفسه من المركبة بعد 106 دقائق من إطلاقها فوق سماء روسيا، وقعت منه «حزمة النجاة»، وانغلق «مفتاح التنفس» الجوي لديه، وانفتحت المظلة الاحتياطية بالخطأ... وكل هذه الأعطال كادت تقود إلى موته، إلا أنه هبط بسلامة، وبشكل جيد، على أرض حقل قرب نهر الفولغا، بالقرب من امرأة كانت تزرع البطاطا... ثم كان عليه أن يستأجر فرساً لكي يصل إلى أقرب هاتف، كما يقول الكاتب!
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الكتاب عن احتمالات فشل أول رحلة في الفضاء، إذ أشار محللون روس إلى وجود عدد من الاحتمالات التي كانت ستقود إلى فشل الرحلة كلية. فمثلاً، أشارت المصادر الروسية فعلاً إلى أن «إمدادات الطوارئ القابلة للارتداء» انقطعت عن غاغارين في أثناء الهبوط. وكان على الصندوق الحاوي للإمدادات الذي يبلغ وزنه 30 كيلوغراماً، والذي يحتوي على أساسيات البقاء على قيد الحياة، النزول تحت أقدام رائد الفضاء، إذ إنه مربوط بحبل متين ببدلة الفضاء. كما كان هناك قارب قابل للنفخ في داخله، كان يمكن أن يغدو مفيداً في حالة سقوط الرائد في نهر الفولغا، وطعام وأدوية ومحطة راديو ومسدس.
وأورد تحليل من وكالة «تاس» الروسية، قبل 4 سنوات، تلك الأعطال، ضمن 10 احتمالات لفشل تلك المهمة الفضائية الأولى في التاريخ، إذ أدى تأخر أمر إيقاف عمل الوحدة المركزية للصاروخ أولاً إلى رفع «فوستوك» مسافة 85 كلم أعلى من مدارها المطلوب، ثم وقع عطل آخر عندما بدأت «فوستوك» مع غاغارين في الهبوط أدى إلى عدم نزول المركبة على مسارٍ منحنٍ، بل مسطح أكثر. كما حدث نتيجة للتشغيل غير الطبيعي لمحركات الفرامل أن دارت المركبة بسرعة زاوية كبيرة، وكانت النتيجة كما وصفها السوفيات «فرقة رقص الباليه»: رأس - أرجل، أرجل مع سرعة دوران عالية جداً. وقال غاغارين في وقت لاحق: «كان كل شيء يدور. أرى أفريقيا، ثم الأفق، ثم السماء».
وتذكر تلك المصادر أن غاغارين تحدث عن أنه، على ارتفاع نحو 110 كم، نتيجة التسخين إلى 150 درجة مئوية من الاحتكاك مع الغلاف الجوي: «حسب مشاعري، كانت هناك لحظة، نحو 2 - 3 ثوانٍ، عندما بدأت القراءات على الأدوات (تشوش)، وبدأت عيناي تتحول إلى اللون الرمادي قليلاً». ويعد فقدان التركيز، وتغميق العينين، علامة واضحة على أن الرائد سيفقد الوعي، لكن غاغارين كان قادراً على تحمل هذا الاختبار أيضاً.
ولم تصل مركبة الهبوط مع غاغارين إلى منطقة الهبوط التي كانت تبعد 180 كيلومتراً فقط، بينما كانت قوات البحث والإنقاذ تنتظر على بعد 200 كيلومتر تقريباً من هذا المكان.
وعودة إلى الكتاب، يتحدث ووكر عن بعض صفات غاغارين، بشبابه اليانع وضحكته اللطيفة، على الرغم من نشأته الصعبة. فعندما كان بعمر 7 سنوات، اجتاحت جحافل القوات النازية روسيا، وحرقت قريته، واحتلت داره، وشغلت إخوته الكبار عبيداً لديها، وشنقت أحد إخوته... إلا أنه تفوق في حياته المهنية. وأخيراً، لم يغطِ على رحلة غاغارين التاريخية إلا الحدث التاريخي بالهبوط على القمر. وكانت رحلته تلك قد دفعت الرئيس الأميركي جون كنيدي إلى دفع عجلة الأبحاث للفوز في سباق الرحلات الفضائية.
الكتاب: ما وراء (الحدث): القصة المذهلة لأول إنسان يغادر كوكبنا في جولة نحو الفضاء
Beyond: The Astonishing Story of the First Human to Leave Our Planet and Journey into Space
المؤلف: ستيفن ووكر
Stephen Walker