لبنان يودّع عرفات حجازي.. أحد أقدم وجوه الإعلام المرئي

نقابة محرري الصحافة نَعَتْهُ واحدًا من أهمّ معلمي الخطابة

عرفات حجازي
عرفات حجازي
TT

لبنان يودّع عرفات حجازي.. أحد أقدم وجوه الإعلام المرئي

عرفات حجازي
عرفات حجازي

«أستأذنكم بالمغادرة... فجر الغد سأطير إلى طنجة في المغرب العربي للمشاركة في اجتماع الأمانة العامة والمكتب الدائم لاتحاد الصحافيين العرب. اذكرونا في دعائكم». بهذه الكلمات التي كتبها عشيّة رحيله، استأذن الإعلامي اللبناني عرفات حجازي وبصورة غير مباشرة متابعيه على حسابه الخاص على موقع «تويتر»، كأنه كان يعرف سلفا أن القدر له بالمرصاد.
عرفات حجازي الذي يعدّ واحدا من أهم وأقدم الوجوه المعروفة في الإعلام المرئي، وشغل منصب رئيس النشرة الإخبارية في «تلفزيون لبنان» على مدى سنوات متتالية، غيّبه الموت فجر البارحة عن عمر يناهز 69 عاما إثر ذبحة قلبية أصيب بها فجأة. وإثر انتشار خبر وفاته انهمرت التعليقات التي ترثيه وتضيء على شخصيته الإعلامية، على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان أول هؤلاء الإعلامية اللبنانية كابي لطيف التي غرّدت تقول: «غاب الإعلامي ذو الوجه الباسم في الأيام السوداء... تقاسمنا سويا وجع السنوات الأولى من الحرب اللبنانية وخيبة الأحلام المتكسرة... وداعا عرفات حجازي... تاري الأحبة عا غفلة بيروحو ما بيعطو خبر».
أما وزير الثقافة الأسبق غسان سلامة فغرّد قائلا: «عملت في مطلع مسيرتي صحافيا لسنوات ثلاث مع عرفات حجازي في قسم الأخبار في تلفزيون لبنان. كان طيبا وبسيطا، رحمه الله». وكان لرئيس نقابة محرري الصحافة إلياس عون كلمة نعى فيها الإعلامي الكبير فقال: «أنت الذي لم يغضب أحد منك سنغضب عليك هذه المرة لأنك بكّرت برحيلك وقسوت علينا بغيابك». وتابع: «لبنان الذي أحببته وناضلت بقلمك وكلمتك من أجله حزين على فقدانك. الصحافة اللبنانية التي صنعت مرحلة من مراحلها تبكي غيابك عنها، أنت الذي لم تغب عنها يوما ولم تغب همومها عنك. نقابتك التي كانت ملاذك في سنواتك الأخيرة على هذه الأرض الفانية، وكنت خير ممثل لها في المحافل العربية والدولية، حزينة هي أيضا على خسارتك وفقدك ورحيلك الباكر إلى الباري، الذي يريد في جنّته أتقياء وأنقياء وأصفياء أمثالك».
وُلد عرفات حجازي الذي يحمل وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة ضابط في بلدة عيتا الجبل عام 1946، ودرس العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية، كما نال إجازة في علم الاجتماع والفلسفة من جامعة بيروت العربية. عُرف عنه حبّه للغة العربية وقراءته للخبر بموضوعية، إلا أن إنسانيته المفرطة خانته مرات قليلة عندما لم يستطع أن يخبئ تأثّره ودموعه عند تلاوته خبرا يحمل في طيّاته الأسى والحزن الكبيرين. وهذا ما حصل معه مثلا في 14 سبتمبر (أيلول) من عام 1982، عندما أذاع في ملحق إخباري خبر اغتيال رئيس الجمهورية اللبناني الأسبق بشير الجميل، فلم يستطع تمالك دموعه وبكى مباشرة على الهواء تأثّرا.
انتقل من تدريس اللغة العربية إلى عالم الإعلام عندما بدأ في أوائل السبعينات من القرن الماضي عمله محررا في تلفزيون لبنان، ليتدرج بعدها ويصبح رئيس قسم الأخبار ومن ثم رئيس النشرة الإخبارية فيه. من أشهر برامجه التلفزيونية «ما وراء الأخبار» الذي كان يلتقي خلاله وفي موعده الأسبوعي شخصية سياسية يحاورها حول أوضاع لبنان والعالم العربي عامة.
عمل عضوا في نقابة المحررين منذ 36 عاما وتولّى أمانة صندوقها منذ نحو ثلاث سنوات، وهو عضو في لجنة الحريات الصحافية في اتحاد الصحافيين العرب، وقد انتخب عام 1992 أفضل مذيع عربي في استفتاء أجرته شركة «داتا» للإحصاءات. تردد اسمه في التسميات التي سبقت تعيين مدير جديد لتلفزيون لبنان، إثر رحيل مديره السابق إبراهيم الخوري. عمل في مجموعة من الصحف اللبنانية ووكالات الأنباء إلى جانب عمله التلفزيوني والإذاعي، كما تولّى مسؤوليات مهنية في تلفزيون «إيه إن بي»، بعد تركه عمله مستشارا لرئيس مجلس النواب نبيه بري.
أسس موقع «الانتشار» الإلكتروني، وله عدة أبحاث ومؤلفات ومحاضرات وشارك في ندوات محلية وعربية ودولية. مارس عرفات حجازي مهنة التعليم وكان من بين تلامذته في المدرسة الحربية قائد الجيش اللبناني الحالي الجنرال جان قهوجي.
يعرف عنه أنه كان محاميا جريئا عن زملائه الصحافيين والعاملين معه في أي منصب يشغله. ويروى عنه في هذا الإطار أنه وعندما كان يترأس تحرير جريدة «الدستور» علم بأن أحد الوزراء منع مندوب الصحيفة من دخول مكتبه، بعد أن كان قد كتب خبرا لا يصب في مصلحة ذلك الوزير. فما كان منه إلا أن منع نشر أخباره ولا حتى ذكر اسمه في الإعلانات التجارية التي تظهر في «الدستور»، فما كان من هذا الوزير إلا أن حضر إلى مكتب عرفات حجازي في الصحيفة شخصيا، مقدّما اعتذاره منه لتصرّفه تجاه المحرر المندوب للصحيفة، طالبا منه فتح صفحة جديدة معه، إلا أن عرفات حجازي أصرّ على أن يحضر المندوب المعنى بهذه الحادثة وأن يعتذر منه الوزير مباشرة لطي الصفحة، وهكذا كان.
رحل «أبو ياسر»، كما كان يحبّ أن يناديه أصدقاؤه، وقد ترك عطره في الصحافة اللبنانية من خلال تجارب خاضها على مدى نصف قرن. هذه التجارب من شأنها أن تكون بمثابة مدرسة عريقة بدأ تاريخها في زمن تلفزيون الأبيض والأسود، وتتضمن عبرا وأحداثا ومواقف يستفيد منها كل إعلامي أو طالب يدرس هذا الاختصاص ويرغب في الارتقاء بها إلى الأعلى.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)