بعد أكثر من عام على ظهور جائحة «كوفيد - 19» التي أوقعت حتى الآن أكثر من 2.8 مليون ضحيّة وزاد عدد الإصابات المؤكدة بها على 130 مليوناً في العالم، وفيما استسلمت كل الدول إلى الرهان الأوحد على اللقاحات التي أصبحت خشبة الخلاص الوحيدة لتجاوز الأزمة في غياب العلاجات الشافية، يجرّ عدد كبير من المعافين أذيال التداعيات الصحيّة التي خلّفها هذا الوباء بعد أشهر من «شفائهم»، والتي لا تظهر على الجداول والإحصاءات التي ترصد تمدد الفيروس رغم العبء الهائل الذي تشكّله على الأنظمة الصحية التي بات معظمها عاجزاً عن احتوائها ومعالجتها.
ويقدّر المرصد الأوروبي للنظم والسياسات الصحية، التابع لمنظمة الصحة العالمية، أن 25 في المائة من الذين يصابون بفيروس «كورونا» المستجد يعانون من عوارض بعد شهر في الأقل من تشخيص إصابتهم، وأن 10 في المائة يستمرون تحت تأثير هذه العوارض بعد أكثر من أربعة أشهر على إصابتهم. وينبّه المرصد في تقريره الدوري الأخير إلى أن معظم الأنظمة الصحية في أوروبا لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الحالات التي تستدعي علاجات فيزيائية ونفسية. «الشرق الأوسط» حصلت على إذن خاص من المستشفى الجامعي في مدينة جنيف، وهو من أحدث المراكز الصحية في سويسرا، لزيارة قسم تأهيل الاختلالات العصبية ومعاينة المشهد الذي تركته الجائحة بين المعافين بعد أكثر من عام على ظهورها، وتحدثت إلى بعض الذين يتابعون جلسات التأهيل التي تعود بدايات عدد منها إلى أواسط العام الفائت.
في زاوية على ميسرة مدخل القاعة الرئيسية نراقب جنفياف، على مشارف الستين من العمر، وهي تدفع إلى الأمام بالكرسي المتحرّك الذي تجلس عليه مربوطة به بسبب من الوهن في عضلاتها إثر شهرين أمضتهما في وحدة العناية الفائقة. وعلى بعد أمتار منها تجلس شيلا، ابنة الرابعة والعشرين، على حصير وتقوم بتمارين لتقوية عضلاتها من أجل تحسين قدرتها على التنفّس وتخفيف الآلام التي تعاني منها في المفاصل بعد سنة تقريباً من إصابتها بالفيروس.
تقول الدكتورة مارينا ويبير مديرة القسم: «هذا المرض لا ينتهي بالشفاء من الفيروس، وما زلنا لا نعرف بالضبط مواصفات المصابين المرشحين للتعرّض إلى تداعيات بعد المعافاة سوى أولئك الذين يتعافون بعد إصابات خطرة ومرورهم بوحدات العناية الفائقة». وتضيف ويبير التي كانت تشرف على مركز للبحوث في الأمراض العصبية قبل التحاقها بالمستشفى الجامعي: «عالجنا في المركز ما يزيد على 250 حالة من الإصابة باختلالات عصبية خطرة ناجمة عن (كوفيد - 19) مثل أمراض القلب الإقفارية وإصابات بعوارض نادرة تدفع جهاز المناعة إلى تدمير الأعصاب وإحداث الشلل، فضلاً عن إصابات بالقلب والكلى والجهاز التنفسي».
ويقول جرّاح الإعصاب ريشار فيرّير إن السواد الأعظم من المرضى الذين يخضعون لفترة علاج تزيد على أسبوع في وحدات العناية الفائقة يعانون من وهن عام في العضلات وصعوبة في الإدراك وضعف الذاكرة، والقدرة على التركيز والانتباه، خاصة أولئك المتقدمين في السنّ والذين احتاجوا إلى أجهزة التنفس الصناعي لفترة طويلة.
وتذكر جنفياف التي تأتي للعلاج في القسم ثلاث مرات في الأسبوع: «عندما أفقت في وحدة العناية الفائقة كنت عاجزة عن القيام بأي حركة أو تناول الطعام أو التحادث أو حتى الإصغاء. وها أنا اليوم أصبحت قادرة، بفضل التأهيل، على القيام ببعض الحركات، لكنني ما زلت عاجزة عن الوقوف والسير من غير مساعدة». وتقول الدكتورة فيرّير إن ثمة حالات عديدة من الإصابة بالتهاب رئوي تستدعي العلاج بالكورتيزون، لمن معظمها يتعافى كلّياً. وثمّة عوارض أخرى غير محددة وطويلة الأمد تصيب الحالات الخطرة والخفيفة على السواء، لم تتمكّن الأوساط العلمية من تصنيفها وجلاء أسباب ظهورها. وقد أطلق خبراء منظمة الصحة العالمية على هذه العوارض «كوفيد المزمن» Persistent Covid وخصصوا لها رمزاً في التصنيف الدولي للأمراض.
وقد بيّنت دراسة حديثة استندت إلى 23 بحثاً في مناطق مختلفة من العالم، أن 80 في المائة من المعافين يعانون ضرباً من الآثار بعد الإصابة، مثل الإنهاك (58 في المائة) والصداع الحاد (44 في المائة) وعدم القدرة على التركيز والانتباه (27 في المائة) واختلال جهاز المناعة (25 في المائة). ويقول الأطباء إن معظم المصابين بكوفيد المزمن لا تظهر أي مؤشرات على إصاباتهم في التجارب والتحاليل السريرية التقليدية، ما يجعل تحديد أسباب الإصابات أمراً متعذراً في الوقت الراهن.
وتقول الممرضة الشابة فاليري، التي أصيبت بالفيروس في مارس (آذار) من العام الفائت: «عدت إلى عملي بعد أن تعافيت من الإصابة، لكني لم أتمكّن من الصمود أكثر من أسبوع. كنت عاجزة عن تحمّل يوم كامل من العمل. أما اليوم فإني في وضع أسوأ مما كنت عليه خلال الإصابة. أشعر بتعب متواصل، وآلام في العضلات، وصداع حاد ونوبات متكررة من الغثيان. مجرد كتابة رسالة بالبريد الإلكتروني تحتاج مني لأكثر من ساعة». وكانت الدراسة المذكورة قد بيّنت أن هذه العوارض تتسبب في إعاقة نسبة عالية من الشباب عن العمل، إذ يحتاج 30 في المائة منهم للمساعدة حتى في تأدية أبسط الاحتياجات اليومية.
العلاجات الوحيدة المتوفرة حتى الآن لهذه العوارض هي الأدوية التي تخفّف من حدّتها، والتأهيل الذي يستوجب فترات طويلة وطواقم من المتخصصين وبنى تحتية تفتقر إليها معظم الأنظمة الصحية.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد نبّهت مراراً إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالعلاجات التأهيلية المصنّفة عادة في خانة «الترف الطبي»، ودعت أيضاً إلى إيلاء المزيد من العناية والموارد لمعالجة التداعيات النفسية والعقلية الناجمة عن (كوفيد - 19)، خاصة بين المصابين الذين كانوا يعانون من الاكتئاب والقلق الشديد قبل التعرّض للفيروس.
«كوفيد ـ 19» لا ينتهي بالشفاء من الفيروس
المتعافون يعانون من عوارض بعد أشهر
«كوفيد ـ 19» لا ينتهي بالشفاء من الفيروس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة