رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

الدبلوماسي الأرجنتيني قليل الكلام ويرفض الخوض في السياسة

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر
TT

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

رافاييل غروسي... أمين وكالة الطاقة المولج بإبقاء إيران تحت المجهر

بقدر ما هو مليء بالحيوية، فإن رافاييل غروسي، أمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مليء بالمفاجآت. والواقع أن هذا المسؤول الأرجنتيني وجد نفسه في خضمّ معركة بين إيران والمجتمع الدولي فور تسلمه منصبه في ديسمبر (كانون الأول) 2019. ورغم أنه يرفض الخوض في السياسة ويقول إن عمله تقني بحت، فهو يعترف بتأثير السياسة على عمله. وعلى عكس سلفه الياباني الأمين العام السابق يوكيا أمانو، وكان قليل الكلام، فإن غروسي يحب الترويج لعمله عبر الإعلام بشكل مستمر. وهو غالباً ما يدخل غرفة الصحافيين في مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعاصمة النمساوية فيينا، من دون أن يكون في جعبته تصريح معين، بل يقول إنه مستعد للإجابة عن أي سؤال. وهذا، مع أن إجاباته غالباً ما تكون عامة، ولا سيما عندما يتحدث عن إيران. ولكن هذه المقاربة «الحيوية» تقول الكثير عن أسلوبه.
والحقيقة أنه خلال الأشهر القليلة منذ تسلم غروسي منصبه، نجح الرجل في إعادة تسليط الضوء على عمل الوكالة الذرية بشكل أكبر مقارنة مع أيام سلفه... وليس فقط أعمالها المتعلقة بالتفتيش النووي والملف الإيراني. فهو دائم الترويج لنشاطات الوكالات «الإيجابية»، مثل تلك المتعلقة بالطاقة البديلة بهدف تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون لمواجهة التغير المناخي، أو نشاطات متعلقة باستخدام الطاقة النووية في الطب ومكافحة الأوبئة العالمية في المستقبل بناءً على ما يشهده العالم بسبب جائحة «كوفيد - 19». غير أن هذه «الحيوية الإيجابية»، كما يقول بعض منتقديه، تشتت تركيزه بعيداً عن العمليات الأهم للوكالة، وهي المتعلقة بعمليات التفتيش لضمان الطاقة النووية السلمية خاصة في إيران.
إلا أن غروسي نفسه يبدو واثقاً من قدرته على إدارة كل هذه الملفات بنجاح في الوقت نفسه.
من تابع مسيرة رافاييل غروسي (60 سنة) منذ انتخابه أمين عام المنظمة الدولية للطاقة الذرية، لم تغب عنه ملاحظة الحيوية الكبيرة التي حملها معه للمنصب، كما يقول أحد الصحافيين الذين يغطون بشكل دائم أعمال الوكالة في فيينا. لذلك؛ لم يتفاجأ هؤلاء عندما سافر غروسي إلى طهران يوم 21 فبراير (شباط) الماضي، بمبادرة شخصية منه وفي اللحظات الأخيرة «لمحاولة إنقاذ إيران من نفسها»، وذلك بعدما هددت بوقف التعاون مع المنظمة يوم 23 فبراير الماضي ما لم ترفع واشنطن العقوبات عنها.
هناك، في العاصمة الإيرانية، أجرى غروسي مفاوضات منهكة استمرت لـ11 ساعة مع المسؤولين الإيرانيين. وعاد بعدها إلى فيينا ليعقد مؤتمراً صحافياً فور وصوله إلى المطار، وفيه أطلع الصحافيين على أنه توصل إلى «اتفاق مبدئي» مع إيران لإكمال عمليات التفتيش لمدة ثلاثة أشهر إضافية. وهي في واقع الأمر فترة يعطي خلالها المجال للاعبين السياسيين بالتفاوض على إنقاذ الاتفاق النووي، والإبقاء بالتالي على عمليات التفتيش.
ثم، بعد أقل من أسبوعين من عودته من طهران، أثار غروسي مفاجأة أخرى بتأجيل انفجار الأزمة بين إيران والمجتمع الدولي للمرة الثانية خلال أيام. وحينذاك كانت الدول الأوروبية تعد لتقديم مشروع قرار مع الولايات المتحدة أمام مجلس المحافظين التابع للوكالة تدين فيه إيران لخفيضها تعاونها مع الوكالة، وكانت تلك خطوة نادرة للمجلس وذات دلالات كبيرة.
- مفاوض بارع
في المقابل، كانت إيران تهدد من جديد بوقف تعاونها مع الوكالة، بل وحتى وقف الاتفاق التقني الذي توصلت إليه مع غروسي قبل أيام، في حال صدرت إدانة بحقها من مجلس المحافظين. ومجدداً، عشية موعد تقديم مشروع القرار، دعا غروسي إلى مؤتمر صحافي عقده على عجل ليعلن فيه أنه توصل إلى اتفاق مبدئي مع إيران لإكمال المشاورات معها في مطلع أبريل (نيسان) لتوضيح المسائل العالقة، وأنها أكدت له استعداها الكامل للتعاون. وبذلك؛ قال غروسي لم تعد هناك حاجة إلى بيان إدانة من قبل مجلس المحافظين. وعندما سئل لماذا يختلف «الوعد» الإيراني هذه المرة عن سابقيه، لم تكن لدى الأمين العام إجابة إلا بأن عليه منح إيران «فرصة» مع أن النتيجة قد لا تكون مختلفة في النهاية. وتابع أنه بالنسبة إليه، فوظيفته هي الإبقاء على «قنوات التواصل حيّة».
ولكن، مقابل محاولات غروسي هذه منح الإيرانيين فرصة وراءها فرصة لإثبات «حسن نياتها» فيما يتعلق ببرنامجها النووي، فهو لا يتردد من جهة أخرى في الضغط عليها واستخدام كامل نفوذه انطلاقاً منصبه كأمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحقاً، كانت من أولى مبادراته بعد انتخابه للمنصب، الضغط على إيران كي تسمح للمفتشين الدوليين بدخول مواقع سرية تشتبه الوكالة بأنها شهدت نشاطات نووية غير معلن عنها. وعندما لم يلق غروسي أي تجاوب من السلطات في طهران، لجأ إلى مجلس المحافظين في الوكالة ورفع إليه تقريرا مفصلا عن «عرقلة» إيران عمل المفتشين. ودفع هذا التقرير بالمجلس لتبني أول قرار إدانة ضد إيران منذ عام 2012.
ولم تمض أيام على قرار الإدانة هذا، حتى أعلن غروسي أن إيران سمحت بالفعل للمفتشين بدخول موقعين سرّيين من أجل أخذ عينات منها وتحليلها لمعرفة النشاطات التي شهدتها. وتبين لاحقاً بأن المفتشين عثروا على آثار يورانيوم غير مخصّب؛ ما يدل على أنه كانت هناك نشاطات نووية لم تعلن عنها إيران في مخالفة صريحة لـ«اتفاق فيينا»، رغم إنكارها المستمر للأمر.
اعتبر هذا الإنجاز نصرا بيّنا لغروسي، خاصة، أنه نجح بدفع إيران إلى الرضوخ في مكان حيث لم ينجح سلفه أمانو، الذي لطالما واجه اتهامات بأنه لا يضغط بشكل كافٍ على إيران للكشف عن ماضيها النووي. ومعلومٌ أن الولايات المتحدة تحث منذ سنوات الوكالة الدولية للضغط على إيران للكشف عن نشاطاتها النووية السرّية في مواقع عدة، منها موقع توركوز آباد بمحيط العاصمة طهران، الذي وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في عام 2018، بأنه «موقع نووي سرّي».
- السياسة... و«كوفيد - 19» والطاقة البديلة
من ناحية ثانية، رغم أن رافاييل غروسي يعتبر نفسه «تقنياً» فهو لا يتردد في لعب الورقة السياسية لتحقيق أهدافه. ومثلما انتزع قرار إدانة من مجلس المحافظين لكي يحقق هدفه بدخول مواقع إيران السرية، نجح قبل ذلك بالحصول على تأييد الولايات المتحدة لتوليه منصب الأمين العام. إذ الرجل الآتي من الأرجنتين والذي رشحته دولته للمنصب، كان ينافس الروماني كورنال فيروتا الذي كان مقرباً من أمانو، وفاز في الجولة الثانية بفارق صوت واحد فقط.
ومنذ فوزه، حرص غروسي على تجنب تركيز جهوده على «العمل السلبي» للوكالة، أي عمليات التفتيش والمراقبة النووية، بل راح يطلق مبادرات تتعلق بالتكنولوجيا النووية الطبية والبيئية وغيرها. وفي خضم أزمة جائحة «كوفيد - 19»، التي رفض غروسي أن تقيد تحركات المفتشين وعملهم، فإنه أطلق مبادرة طموحة سماها «زودياك» تهدف لاستخدام التكنولوجيا النووية لمواجهة الأوبئة في المستقبل وتدمير الفيروسات التي تشكل تهديداً قبل انتشارها. وقال عن المبادرة لمجلة «فورين بوليسي»، أنه «بحلول الصيف ستكون الوكالة جاهزة لتسليم معدات وتأمين تدريب لمناطق أساسية في أفريقيا وآسيا ودول حوض الكاريبي وأميركا اللاتينية».
ومبادرة غروسي هذه تبني على جهود سابقة للوكالة لبناء شبكة تساعد الدول على تحسين قدرات المختبرات للكشف المبكر عن الأمراض التي تهدد الثروة الحيوانية والصحة العامة ومكافحتها. وفي خضم إطلاق هذه المبادرة في فبراير الماضي، كانت أزمة مع إيران تلوح في الأفق مع اقتراب تاريخ 23 فبراير الذي حددته طهران لنفسها لوقف التزاماتها النووية في حال لم تعد واشنطن إلى الاتفاق وتبادر إلى رفع العقوبات.
وبينما كان غروسي يتلهى بمشروع «زودياك»، كانت الأزمة تقترب من الانفجار. غير أنه، كما سبقت الإشارة، تدارك الأمر قبل يومين بسفره المفاجئ إلى طهران وحصوله على اتفاق مؤقت أجل الانفجار. وهذا بالنسبة إليه، دليل، على أن بإمكان الوكالة فعلاً أن تتعاطى مع كل التحديات من دون أن تؤثر واحدة على أخرى. وهو دائماً يقول بأن «الوكالة الدولية لا تتوقف عن العمل لدقيقة واحدة». وبالفعل، في أوج أزمة «كوفيد - 19» في النمسا، ورغم إغلاق المؤسسات والعمل من المنازل، كانت الوكالة الدولية ما زالت تستقبل الصحافيين والموظفين داخل مقرها، إلى أن دفعت الإصابات المتكررة لطاقمها بالفيروس الوكالة إلى تخفيف العمل... ونقله إلى خارج جدار المبنى.
في أي حال زاد هذا الفيروس من إصرار رافاييل غروسي على العمل أكثر وتوسيع أفق الوكالة لتحارب الأوبئة. وهو يقول، إنه عندما بدأ الفيروس في الانتشار لجأ إلى فريق العلماء والخبراء لدى الوكالة وطلب رأيهم في كيفية مساهمة الوكالة بمكافحة ما تحوّل بالفعل إلى جائحة. وهكذا جاءت فكرة التواصل مع شبكة مختبرات بيطرية لتعزيز التعاون وتمكنيهم من الكشف عن فيروسات حيوانية خطيرة بشكل أسرع في المستقبل، وتدميرها قبل انتشارها.
من ناحية ثانية، يركز غروسي كذلك على الترويج للطاقة النووية كبديل عن الطاقة البترولية التي تلوث الكرة الأرضية وتساهم في التغير المناخي. وإبان إدارته الوكالة، أشرف على انتهاء العمل في معمل البراكة الذي يولّد الطاقة النووية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليصبح المعمل الأول من نوعه في العالم العربي. وهو الآن يعمل مع المملكة العربية السعودية التي تطور معامل نووية لتوليد الطاقة الكهربائية.
النشأة والمسيرة
ولد رافاييل غروسي يوم 29 يناير (كانون الثاني) 1961، في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. وهو متزوج وأب لـ9 أطفال، بحسب ما تقول سيرته الذاتية على موقع الوكالة الرسمي.
تلقى تعليمه الجامعي في الجامعة الباباوية الكاثوليكية في الأرجنتين، حيث حاز شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية. ولاحقاً تخرّج في المعهد العالي للدراسات والتنمية الدولية في جنيف بسويسرا حاملاً دكتوراه في العلاقات العامة والتاريخ والسياسة الدولية. ودخل فور تخرجه السلك الدبلوماسي في الأرجنتين خلال منتصف الثمانينات عندما كانت البلاد قد خرجت للتو من الحكم العسكري الديكتاتوري. ولعب دوراً في اهتمام غروسي بقضايا مكافحة الانتشار النووي، أن بلاده تحت الحكم العسكري حصلت على أسلحة نووية تخلت عنها بعد سقوط الديكتاتورية وبدء مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية عام 1983. وعن هذا الجانب يقول، إن ذلك كان درساً للخطر الذي يمكن أن تشكله التكنولوجيا المتطورة عندما تقع في الأيدي الخطأ. ثم بين عامي 1997 و2000 كان غروسي رئيس فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة والمعني بسجل الأسلحة الدولية، وشغل بعد ذلك منصب مستشار الأمين العام المساعد للأمم المتحدة بشأن نزع الأسلحة.
عام 2002 انضم غروسي إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كرئيس موظفين في البداية، وبقي في المنصب حتى عام 2007. وفي نطاق عمله هذا، زار مرات عديدة مواقع نووية في كوريا الشمالية، وشارك في الاجتماعات التي سبقت التوصل لاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي عام 2015. وشغل أيضاً منصب نائب أمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين العامين 2010 و2013، قبل أن تسميه رئيسة الأرجنتين - آنذاك - كريستينا فيرنانديز كيرشنير سفيراً إلى النمسا وممثلاً للأرجنتين في الوكالات الدولية التابعة للأمم المتحدة في فيينا.
وصول غروسي إلى قيادة الوكالة عام 2019، كان طموحه منذ سنوات، وبتحقيقه أصبح أول أميركي لاتيني يشغل هذا المنصب. وتجدر الإشارة، إلى أنه عادة تنتهي ولاية الأمين العام بعد 4 سنوات، ولكن لم يسبق لأحد قاد الوكالة في السابق أن غادر بعد ولايته الأولى باستثناء أمينها العام الأول. وعندما توفي يوكيا أمانو – سلف غروسي – فإنه كان في منتصف ولايته الثالثة. ولذلك؛ فإن بقاء غروسي على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد يستمر لسنوات، يطمح خلالها هذا الدبلوماسي الأرجنتيني لإحداث «ثورة» تكنولوجية داخل الوكالة. ولكن يبقى أن نرى إلى أي مدى سينجح باللعبة السياسية مع إيران، وبإبقائها على التزاماتها مع الوكالة.
زيارته المقبلة إلى طهران، ستكون بلا شك، امتحاناً جديداً له ولمدى قدرته على التلاعب بين السياسة ووظيفته «التقنية» التي حددها لنفسه.


مقالات ذات صلة

مسيّرة تستهدف مركبة لوكالة الطاقة الذرية قرب محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا

أوروبا صورة مركبة تابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية تعرضت لأضرار بسبب غارة بطائرة مسيرة على طريق في منطقة زابوريجيا في أوكرانيا 10 ديسمبر 2024 (رويترز)

مسيّرة تستهدف مركبة لوكالة الطاقة الذرية قرب محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا

قال مدير الطاقة الذرية إن مركبة تابعة للوكالة تعرضت لأضرار جسيمة بسبب هجوم بمسيرة على الطريق المؤدي إلى محطة زابوريجيا للطاقة النووية في أوكرانيا، الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (كييف)
العالم العربي أعمال تنفيذ محطة الضبعة النووية (هيئة المحطات النووية المصرية)

مصر تؤكد انتظام العمل في المحطة النووية وفق الجدول الزمني

أكدت مصر انتظام العمل في «محطة الضبعة» النووية، وفق الجدول الزمني المخطط لها، وذلك بعد أيام من إعلان الحكومة التزامها بسداد جميع مستحقات الجانب الروسي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)

ضابط روسي هارب: كنا على استعداد لتنفيذ ضربة نووية في بداية الحرب

قال ضابط روسي هارب إنه في اليوم الذي تم فيه شن الغزو في فبراير 2022 كانت قاعدة الأسلحة النووية التي كان يخدم فيها «في حالة تأهب قتالي كامل».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

عبر جعل التهديد النووي عادياً، وإعلانه اعتزامه تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، نجح بوتين في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية حول العالم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

تسعى روسيا إلى تصعيد التهديد النووي، في محاولة لتثبيط الدعم الغربي لأوكرانيا بانتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض، آملة التوصل إلى اتفاق سلام بشروطها.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.