وصفة مؤلف «صواب / خطأ» لأوقاتنا المستقطبة: التواضع والغفران

عالم المستقبليات المكسيكي الأميركي يقدم سرداً تاريخياً لتدعيم نظريته

خوان إنريكيز
خوان إنريكيز
TT

وصفة مؤلف «صواب / خطأ» لأوقاتنا المستقطبة: التواضع والغفران

خوان إنريكيز
خوان إنريكيز

يتملك معظم البشر شعور وثيق بمعرفة الصواب من الخطأ، ولا يمتنعون عن اتخاذ مواقف صريحة بشأن القضايا الأخلاقية، والتعبير عن آرائهم ربما لدرجة الاشتباك مع الآخرين أحياناً. لكن أغلبنا، وهو يقع في فخ الاستقطاب هذا، ينسى أننا بحكم تكويننا الثقافي والعقلي لا نمتلك أي حقائق أبدية، ويغيب عن أذهاننا أن القيم الأخلاقية تغيرت دائماً وتتغير مع مرور الوقت.
«صواب/ خطأ: كيف تغير التكنولوجيا قيمنا الأخلاقية»، الصادر حديثاً عن دار النشر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يقدم فيه خوان إنريكيز عالم المستقبليات المكسيكي الأميركي المعروف سرداً تاريخياً ممتعاً لتدعيم نظريته في أن تطور الابتكارات والتكنولوجيا كان دائماً أحد أهم محركات تغيير المفاهيم الأخلاقية، ووفر عبر مختلف الحقب التاريخية محفزات غيرت بشكل جذري تصورات البشر لعلاقتهم وموقعهم من العالم، وبالضرورة فهمهم لما هو صواب وخطأ، طارحاً بذلك ظلالاً كثيرة على قيمة المواقف الأخلاقية التي قد ينحاز إليها الأفراد والمجتمعات في لحظة ما من تعاقب الأزمنة.
ويؤكد إنريكيز مبكراً عبر نصه أن الغرض من «صواب/ خطأ» ليس الوصول إلى إجابات محددة حول المسائل والمعضلات التي نواجهها في وقتنا الحاضر بقدر التأكيد على أهمية أن يكون لدينا استيعاب أفضل للطرق التي يمكن للتكنولوجيا المتسارعة بشكل غير مسبوق أن تغير بها جذرياً ما نراه أخلاقياً اليوم، بغض النظر عن معتقداتنا الحالية والجانب من الطيف السياسي الذي نتماهى معه. كما يحول بحرفية حكواتي عتيق موضوعاً جافاً مملاً إلى سردية قصصية ممتعة عابقة بالطرافة والبصيرة حول جرأة كل جيل على ادعاء معرفة الصواب من الخطأ.
لقد آمن الملايين، لمئات السنوات، بأن تقديم الأضحيات البشرية كان ممارسة طبيعية لاسترضاء الآلهة، وإلا فلن يأتي المطر، ولن تشرق الشمس؛ الإعدامات العلنية كانت شائعة عادية قانونية، وكانت العائلات تصطحب أطفالها لمشاهدة قطع الرؤوس في الأماكن العامة أو إحراق الضالين أو الساحرات. العبودية والسخرة كانت كذلك أمراً مألوفاً مقبولاً لآلاف السنين، ولا شك أن الأفراد الذين لم يقبلوا بهذه الترهات كان يعدون من قبل الأغلبية مهرطقين خاطئين، ولربما دفع بعضهم حياته أو خسر علاقاته الاجتماعية ثمناً لذلك.
يقول إنريكيز إن السجلات التاريخية تظهر أن 99 في المائة من أديان العالم الوثنية قد انقرضت بالفعل، بعد أن كانت في وقت ما مرجعية الحياة لدى كثيرين، وطريقتهم في النظر إلى العالم حولهم، وأن المتاحف متخمة بتماثيل الآلهة الميتة زيوس (الإغريق) ونبتون (الرومان) وأوزيريس (مصر) وتموز (سوريا والعراق) وأوكو (إله السماء والرعد في فنلندا القديمة) وميثرا (فارس). وحتى في الأديان السماوية، فإن كل جيل وكل جغرافيا كانت لها نسخ متفاوتة من كلمة الله الواحد، واختلفت رؤيتهم حول الصواب والخطأ، مع أنهم يقرأون في الكتاب ذاته. وحتى بالنسبة للملحدين، فإن نظام معتقداتهم البديل قد يتعرض لهزة كبيرة لو تبين مستقبلاً أن هنالك على سبيل المثال حياة ذكية على كواكب أخرى.
وتبدو مساحة العلاقات الجنسية والتناسل بالذات منطقة يظهر فيها تقلب المواقف الأخلاقية بين الأجيال والجغرافيات والطبقات والحقب التاريخية في أقصاه، ويقترح هنا إنريكيز ألا نذهب بعيداً، بل أن نقابل ثقافة أجدادنا ممن عاشوا في الأربعينيات والخمسينيات مع طريقة تفكير الأجيال الشابة اليوم، سواء حول طبيعة الزواج وطرق التعارف والعلاقات الجنسية والحمل والإنجاب والجينات الوراثية. المسافة شاسعة بالتأكيد، ونحن نتحدث عن فجوة عدة عقود فحسب. وهو يدعونا إلى تصور ما قد يراه أحفادنا بالمستقبل عندما يتسنى لهم الاطلاع على طريقة تفكيرنا من خلال تراثنا المتراكم على مواقع التواصل الاجتماعي التي تحصي علينا الأنفاس، ولا تترك شاردة ولا واردة إلا ترصدها؛ سنكون أول جيل من البشر يتسنى للأجيال اللاحقة قراءة مواقفه ومعاييره (المتحجرة بمقياسهم ربما)، لا سيما أن معاني الكلمات والتعابير تتغير مع مرور الوقت، وهو لا يرى بداً من تعرضنا لسوء فهم، وتحولنا إلى مصدر للتهكم والسخرية.
ويضيف في «صواب/ خطأ» زاوية مهمة بشأن دور التكنولوجيات الحديثة، لا سيما مذ انطلاق الثورة الصناعية من بريطانيا القرن الثامن عشر، في تحسين أنماط الحياة اليومية للبشر على نحو أمكن لمزيد من التسامح والسخاء تجاه الآخرين. فمحرك طائرة نفاثة اليوم يغني عن طواقم تجديف 320 ألف سفينة من النوع الذي كان ينبغي للسجناء التعساء عند قبائل الفايكنغ إفناء حياتهم فيه، ولم تعد المزارع الكبرى بحاجة لآلاف العبيد، كما في مزارع السكر بالكاريبي، بعدما أصبحت الآلات أعلى كفاءة بما لا يقاس، وهنالك اليوم بالفعل من السعرات الحرارية ما يكفي ويزيد لإطعام الجميع على هذا الكوكب، ولذا فإن الأخلاقيات التي تبناها بعض البشر في وقت ما لتبرير سلوكيات كامنة تتعلق بالصراع للتحكم بالموارد الشحيحة تتراجع الآن، مقابل مواقف مستجدة بشأن عدالة التوزيع وتقليص فجوة الدخل بين فئات المجتمع.
وعلى هذا النسق المتماسك يتحدى الكاتب سلسلة من المعضلات الأخلاقية المعاصرة التي تتقاطع بشكل مباشر مع التطور الأحدث للتكنولوجيا، مثل تغير المناخ، ووسائل التواصل الاجتماعي، والسجون الجماعية، والتربح من تصنيع الأسلحة الفتاكة، والذكاء الاصطناعي وتقنيات المراقبة والتتبع. ويذكرنا باستمرار بأنه مع التقدم التكنولوجي ومرور الوقت، تستمر المقاييس الأخلاقية للمجتمع، وبالتالي عقم الاعتقاد بأن ما هو مقبول اليوم سيكون مقبولاً غداً. على سبيل المثال، نحن جيل في أغلبه يأكل اللحوم، ولكن من المرجح أن يأخذ أحفادنا نظرة قاتمة عن كيفية ذبحنا كل تلك الحيوانات، وعرضها مقطعة في المتاجر من أجل القوت، بينما ستتوفر لديهم بدائل أكثر.
بالنسبة لإنريكيز، فإن التكنولوجيا تغير من الطرائق التي نتفاعل بها بعضنا مع بعض بشكل حاسم، فيقول إن تقنيات جديدة مثل المدفع الرشاش غيرت تماماً طبيعة القتال في الحرب العالمية الثانية، فأصبحت المعارك تخاض من الخنادق، بدلاً من المواجهات المباشرة. وبعكس المتوقع، فإن المدافع الرشاشة في وقتنا الراهن هي وسائل الإعلام الاجتماعي التي خلقت في مناخ الاستقطابات خنادق متقابلة ينبغي لدخول اللعبة أن تكون في أحدهما دون الآخر، فتتعرض لإطلاق نار كثيف كلما حاولت الخروج من خندقك، وربما من الجهتين معاً، دون أي فرصة لبناء حلول وسطى بين المتناطحين. فبعضهم في الولايات المتحدة يقول «حياة السود مهمة»، فيما يقول آخرون: «نحن ندعم الشرطة»، لكن الحقيقة لا تستقيم بالإصرار على تناقض الحالين، واستحالة تزامنهما، فـ«حياة السود مهمة»، وهذا لا يتعارض مع ضرورة «دعم الشرطة».
وصفة مؤلف «صواب/ خطأ» لأوقاتنا المستقطبة هذه إحياء كلمتين نادراً ما يتم تداولهما: التواضع والغفران. فكما أصدر أسلافنا في ظل ظروف ومناخات معينة أحكاماً أخلاقية ربما نعدها اليوم لا إنسانية مغرقة بالجهل، قد يأتي وقت يرى فيه أحفادنا -مع تطور معارفهم- أحكامنا أيضاً بالنظرة ذاتها، لذا لا بأس بشيء من التواضع عند صياغة المواقف. وأيضاً الغفران: لا يمكنك إلغاء شخص لاختلاف أحكامه بشأن مسائل قائمة، أو لأنه اتخذ موقفاً ما في زمن صار في الوراء، فالبشر تتغير أحكامهم دائماً باختلاف الإطار الكلي والظروف اللحظية التي يعيشونها، وهذه الأطر والظروف قد لا تتقاطع كثيراً بين الأفراد لأسباب كثيرة. الغفران يسمح لنا بتجنب السقوط في فخ العداوات المستدامة التي لا تبني مجتمعات.
* الكتاب «صواب/ خطأ: كيف تعيد التكنولوجيا صياغة قيمنا الأخلاقية» (Right-Wrong: How Technology Transforms Our Ethics).
* المؤلف: خوان إنريكيز (Juan Enriquez).
* الناشر: معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Press, 2020).


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».