«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

الرياض التي تغيّر اسمها بعد القرن السابع عشر الميلادي

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة
TT
20

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

«حجر اليمامة»... مدينة الإرث التاريخي والحضاري والمفارقات العجيبة

تركت مدينة الرياض التي كانت تعرف قديماً بـ«حجر اليمامة»، إرثاً تاريخياً حضارياً موغلاً في القدم، وشهدت المدينة على مر تاريخها أحداثاً وتغيرات، وحملت مسميات أخرى، لكنها بقيت في المكان ذاته تحكي تاريخاً من آلاف السنين مليئاً بالأحداث لواحدة من أقدم المستوطنات البشرية في الجزيرة العربية، تعاقبت على أرضها حضارات وفي أزقتها وأحيائها المتعددة وعلى ضفاف واديها الشهير «حنيفة» خرج المشاهير الذين كان لهم اسم في سجل التاريخ، كما سجلت المدينة مفارقات عجيبة من خلال الأحداث التي شهدتها المنطقة قبل الإسلام وما بعده، إلى اتخاذها عاصمة للدولة السعودية الثالثة.
عن هذه المدينة التاريخية، قدّم كرسي التراث الحضاري في السعودية، للمكتبة العربية ولقارئ التاريخ إصداراً عن الرياض دعمه ورعاه رجل الأعمال السعودي المهندس سعد بن إبراهيم المعجل، يعد أحدث ما يمكن أن يُكتب عن الرياض بشكل شامل ومختصر منذ نشأتها إلى اليوم على مر العصور، وجمع مادته كل من الدكتور عبد الناصر الزهراني، والدكتور محمد أبو الفتوح غنيم، والدكتور محمد إسماعيل أبو العطا.
واعتبر المهندس المعجل، أن «الكتاب بقدر ما يفتح لدى القارئ آفاقاً من الدهشة والفضول بخصوص هذه المدينة وتاريخها، فهو استنهاض لهمم الباحثين بإكمال ما جاء فيه من خلال النقد والتدقيق والمراجعة والتمحيص».
بداية، يشير الإصدار إلى مكان الرياض الضارب بجذوره في أعماق التاريخ وإلى حداثة اسمها، حيث لم يكن اسم الرياض مستخدماً قبل القرن السابع عشر الميلادي، مبرزاً أن الرياض كانت موطناً لكثير من أعلام التاريخ، فعلى أرضها عاشت أشهر امرأة عُرف عنها حدة البصر وهي «زرقاء اليمامة»، كما أن في أحد أحيائها الحالية وهو حي منفوحة، التي كانت قرية مجاورة للرياض عاش وصال وجال ومات ودفن أحد شعراء العربية الكبار أصحاب المعلقات الأعشى (ميمون بن قيس)، كما كانت الرياض في صدر الإسلام موطناً لبعض صحابة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم. ولفت الإصدار في هذا الصدد إلى أن بعضاً من أحياء الرياض الحالية (كأرض الفوارة في حي الفاخرية الحالي) كانت أرضاً منحها الرسول لبعض الصحابة. ويكشف الكتاب عن مفارقات التاريخ في هذه المدينة من خلال مشاركة أهل الرياض في حروب الردة مع مسيلمة بن حبيب الحنفي، وضده، كما أن المدينة، عاصمة المملكة اليوم، كانت من أكثر المدن مقاومة للدولة السعودية الناشئة في طورها الأول، واستعصت على عاصمتها الدرعية ولم تخضع لها إلا بعد حروب دامت ما يقارب ثلاثة عقود، نتيجة قوة أهلها وتحصينها، وبعد نهاية أيام الدولة السعودية الأولى ودمار الدرعية، التي لم تعد تصلح مقراً للحكم.
وقع اختيار مؤسس الدولة السعودية الثانية الإمام تركي بن عبد الله على الرياض لتكون مقراً لحكمه وعاصمة لدولته، كما كانت الرياض البداية الفعلية في عهد الدولة السعودية الثانية، وكان سقوطها في أيدي آل رشيد إيذاناً بنهاية تلك الدولة، لتأخذ الرياض مكانتها كمقر للحكم السعودي في الفترة الثالثة بعد استعادة الملك عبد العزيز لها في رحلة طويلة لتوحيد الدولة الجديدة وإعلان قيامها عام 1932 لتبدأ رحلة النمو والتطور خلال عهد سبع ملوك في إرجاء البلاد.
رصد الإصدار في سبعة فصول تاريخ المدينة، ففي الفصل الأول أبرز محاور عن: أصل مدينة الرياض التي قامت على أنقاض مدينة حَجْر، مركز إقليم اليمامة وساكنيها قديماً ونزول بني حنيفة فيها، وواقع الرياض في صدر الإسلام وحروب الردة وفتح اليمامة، ثم اليمامة في عهد الخلفاء الراشدين، واختفاء مسمى حَجْر وظهور اسم الرياض، ووضعها في الدولة السعودية الأولى والثانية، ثم غزو محمد بن رشيد لها، إلى استعادة الملك عبد العزيز للرياض وقيام الدولة السعودية الثالثة وجعلها عاصمة لها.
وتناول الفصل الثاني من الإصدار أسوار وبوابات الرياض وأبراجها التي كانت حاضرة في بناء المدينة، وعاملاً مهماً في تخطيط المدن في العصور القديمة كعناصر أمنية لحمايتها وتتبع الإصدار الأسوار التي كانت محاطة بالرياض وبنيت على مر العصور: العصر الجاهلي والأموي عندما كانت الرياض تعرف باسم حَجْر، ثم أيام مدن مقرن ومعكال، ثم في فترة حكم دهام بن دواس، ثم في عهد الملك عبد العزيز بعد استرداده لها، ونظراً لاختفاء السور تماماً في الوقت الحالي بسبب إزالته قبل أكثر من سبعين عاماً؛ تماشياً مع متطلبات توسع المدينة وامتدادها.
واعتمد المؤلفون في تناول وصف أسوار المدينة على ما كتبه المؤرخون والرحالة القدماء، كما ذكر الإصدار الأبراج المحيطة بالرياض التي بلغت 21 برجاً، توزعت في أنحاء السور كافة، ومن أشهرها: برج الذلّان والواقع جنوب شارع السبالة حالياً، وبرج العصافير الذي لا يعرف موقعه بالتحديد، لكن تم التأكد بأن أهل معكال قد شيدوه، وبرج منفوحة، كما رصد الإصدار بوابات الرياض التي حددها بلجريف في وصفه ورسمه خريطة الرياض وبواباتها في عهد الإمام فيصل بن تركي بـ12 بوابة، وأشهرها بوابة الثميري، والبوابة الرئيسية في السور الجنوبي للمدينة وهي «دروازة دخنة» التي تعد أكبر بوابات السور وعرفت باسم الدروازة الكبيرة وبوابة نقبة مصدة ودروازة المريقب في الشميسي ودروازة البديعة التي عرفت باسم المذبح؛ نظراً لأن الجزارين كانوا يذبحون ذبائحهم خارج الرياض في هذه الناحية.
وتناول الفصل الثالث أحياء وشوارع الرياض ومسمياتها، في حين عدد الفصل الرابع مساجد الرياض القديمة، كما خصص الفصل الخامس للحديث عن قصور الرياض وأنماط المباني فيها، كما تحدث الفصل السادس عن متاحف الرياض الرسمية والخاصة، وخصص الفصل السابع كيفية الحفاظ على المعالم التراثية في مدينة الرياض.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
كتب حديقة الأزبكية

القاهرة التاريخية في عيون الكاميرا

يكشف الباحث والمؤرخ الدكتور خالد عزب في كتابه «القاهرة... الذاكرة الفوتوغرافية» - دار «ديوان» بالقاهرة - وعبر الكاميرا، عن سحر العاصمة المصرية

رشا أحمد (القاهرة)

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ
TT
20

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

كارل يونغ
كارل يونغ

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان المعاصر لذاته إلى جانب الأسماء التقليديّة الأخرى أمثال فرويد وماركس وهايدغر ولي كوربوزييه، وفوكو. إذ برغم التقدم الهائل للعلوم النظريّة والاجتماعيّة منذ غيابه قبل خمسة وستين عاماً تقريباً، فإن بعض تطبيقات أفكاره في مجالات تصنيف شخصيّات البشر وأنماط تصرفهم اللاواعيّة وطرق تعاطيهم مع الآخرين ممن يختلفون عنهم تعدُّ الأساس النظري الذي تقوم عليه نماذج تحليلية متقدمة لا غنى عنها في عالم الأعمال وإدارة الموارد البشريّة والتحليل النفسي الأساسي في نطاق العمل، مثل أنظمة «ديسك» (DiSC)، و«إنسايت» (Insight)، و«مايرز - بريغز» (Myers-Briggs) وغيرها، وأصبحت بعض مصطلحاته في وصف الشخصيّة (مثل الانطوائي أو الانبساطي) وافرة الاستخدام حتى في الأحاديث العادية.

سيغموند فرويد
سيغموند فرويد

تعرّض يونغ مع ذلك إلى انتقادات عديدة في حياته، فكان خلافه النظريّ مع صديقه اللّدود سيغموند فرويد مبكراً بعدما اختار أن يتجاوز بداية من عام 1912 موضوعة الطاقة الجنسيّة (الليبيدو) في تفسير الاضطرابات الذهانيّة مثل الفصام والشيزوفرانيا، ثم وجهت له اتهامات متناقضة تارة بمعاداة الساميّة وتبني الأفكار النازيّة، وتارة باستخدام دوره رئيساً للجمعيّة الطبية العامة للعلاج النفسي في ألمانيا لتسهيل عمل المحللين النفسيين اليهود ما تسبب لاحقاً في مصادرة كتبه في ألمانيا وأُدرج اسمه على القائمة السوداء. كما عدَّ البعض سلوكه متناقضاً، إذ فرض أثناء رئاسته لتلك الجمعية ميثاقاً يفرض على أعضائها اتخاذ موقفٍ حياديٍ فيما يتعلق بالسياسة والعقائد لدى ممارسة عملهم، لكنه تعاون في عام 1943م مع مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذي تحول لاحقاً إلى ما يعرف الآن بجهاز الاستخبارات المركزية الأميركيّة) وساعد على تقديم تحليل لشخصيات الزعماء النازيين لصالح المجهود الحربي الأميركي.

انحيازات يونغ السياسيّة سهلت تبني أعماله ونظرياته لاحقاً عبر العالم الأنجلوسكسوني، ما سمح بتجاهل جانب آخر من أفكاره يتعلّق بالملمح العنصريّ الذي حكم تقييماته للشعوب غير البيضاء، وهو أمر لا يمكن تفسيره في إطار انتماء الرجل لعصر انتشرت فيه العنصريات والفاشيات، وسيطرت على نخب ودول عديدة في الغرب، كما أنّه لا يتعلق بنص عابر هنا أو فلتة لسان هناك، أو حتى مرحلة فكريّة مرّ بها، إذ تعددت الشواهد من أعماله ومحاضراته وحتى كتاباته الشخصيّة، وفي مختلف مراحل حياته المهنيّة على نفس يبدو مستلاً بكليته من منطق العنصرية الفيكتوري، ويمتد ليكون منطلقاً ومكوناً لنظرياته في التحليل النفسي، على نحو قد يدفع المرء في القرن الحادي والعشرين ليس بالضرورة لإلغاء الرجل وفكره بالكامل، ولكن على الأقل لإعادة تقييم مجمل تراثه كأداة للتفكير، وهو تراث طالما زعم صاحبه بأنه يأتي ضمن سياق البحث في معرفة الإنسان، الممر اللازم لكل تقدّم للنوع البشري على هذه المعمورة، على حد تعبيره.

يعترف يونغ مثلاً بأننا «اللاوعي الجمعي» نشترك جميعنا كنوع بشري في ذات النموذج الأصلي: حيث لدى كل منا بغض النظر عن لون بشرته عيون وقلب وكبد وما إلى ذلك، لكنّه يستطرد ليقول بأن ذلك لا يلغي أن بعض الأجناس تمتلك طبقة تاريخيّة كاملة في لا وعيها قد لا تمتلكها أجناس أخرى، إذ «تتوافق الطبقات المختلفة من العقل مع تاريخ الأجناس». (النص من محاضراته في معهد تافيستوك، 1935).

ما عناه يونغ هنا، كان فسره في مواضع أخرى، إذ رأى أن طبيعة وعي الغربيين المعاصر «مختلفة تماماً عن وعي البدائيين، ولكن في أعماق نفسياتنا فإن ثمة طبقة سميكة من العمليات البدائية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمليات التي لا يزال من الممكن العثور عليها في إطار الحياة اليومية للبدائيين».

الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة

إشارة يونغ للبدائيين هنا كانت ربما لقبائل «إلغوني» من الصيادين وجامعي الثمار، وكان قد اطلع على بعض نظام حياتهم إبّان زيارته في 1926 لمناطق على الحدود بين أوغندا وكينيا، على أنه سحب هذا التوصيف ذاته على عرب شمال أفريقيا أيضاً بعدما كتب انطباعاته من زيارة قام بها في 1920 لتونس والجزائر، معتبراً أنهم عاطفيّون وطفوليّون غير قادرين على التفكّر و«أقرب إلى تلك الطبقات التاريخية في أنفسنا - كغربيين - والتي تغلبنا عليها، وتركناها وراءنا»، وأن هذه «المحيطات العربيّة التي تبدو غريبة ومختلفة تماماً عنّا توقظ ذكرى ماضي ما قبل التاريخ المعروف والذي يبدو أننا نسيناه تماماً». ولعله من نافل القول إن هذه الشعوب التي يعدّها يونغ عالقة في مرحلة تطوريّة سابقة تجاوزها العرق الأبيض كانت جزءاً من حضارة عظيمة امتدت من إندونيسيا إلى إسبانيا وما بينهما، في وقت كان الأوروبيّون غارقين في الصراعات القبليّة.

هذي النظرة العنصريّة عن العالم ليس مرتبطة بالجغرافيات (خارج الغرب) بقدر ما هي أشبه بتسلسل هرمي ثقافي يضع كل ذي بشرة ملونة في أدنى مراحل التطور الإنساني حتى لمن ولدوا وعاشوا في دول الغرب ولم يعرفوا بلاداً غيرها. إذ يعدُّ يونغ أن «الطفل يولد بدماغ محدد، ولذلك لن يعمل دماغ الطفل الإنجليزي مثل دماغ زميله الأسترالي الأسود» (محاضرات تافيستوك 1935). وهذا يعني ببساطة أنه إذا ولد طفل ينحدر من سكان أستراليا الأصليين في أوروبا، فلا فرصة له لأن يغدو متحضراً - وفق المقياس الأوروبي - بسبب محدودية دماغه! وهو كتب لاحقاً: «لا يسعني إلا أن أشعر بالتّفوق، كما يتم تذكيري في كل خطوة بطبيعتي الأوروبية»، وقبلها: «إنها ليست مجرد غطرسة أن يعتبر الإنجليز أي شخص منهم ولد في المستعمرات أقل شأناً ولو على نحو قليل رغم أن أفضل دم يسري في عروقه، إذ إن هنالك حقائق تدعم هذا الرأي».

لا يمكن الدّفاع عن أوهام يونغ هذه بأي صيغة، لا سيّما وأن معاصرين وزملاء له أدانوا علناً «مبدأ وجود تسلسلات هرميّة عرقيّة»، مثل فرانز بواس، رائد علم الأنثروبولوجيا في الولايات المتحدة، وهاجموا مزاعمه حول السود بوصفها «تشويهاً تاماً للحقائق»، حسب قول بول رادين، مؤلف كتاب «الإنسان البدائي كفيلسوف»، كما أن نهاية الحرب العالمية الثانية وضعت حداً لكل النظريات العرقية التي كانت تُعامل كعلوم، وتجاوز كثيرون ذلك المربع المقيت، لكن يونغ لم يغيّر أفكاره، وبقي عليها - كما يُقرأ في سيرته الذاتية - إلى آخر يوم في حياته.