«النمر الأبيض» يستوحي واقعاً وينقده بشدة

من الكتاب إلى الشاشة بنص هندي وإنتاج أميركي

مشهد من «النمر الأبيض»
مشهد من «النمر الأبيض»
TT

«النمر الأبيض» يستوحي واقعاً وينقده بشدة

مشهد من «النمر الأبيض»
مشهد من «النمر الأبيض»

في مكان ما من منتصف فيلم «النمر الأبيض» يُعلن بالرام (أدارش غوراڤ)، أنّ الحكاية التي يعرضها ستزداد دكانة من تلك النقطة وصاعداً. وهذا ما يحدث بالفعل. النصف الأول مضيء والثاني داكن. الأول مرح والثاني متجهّم. بريء ومذنب.
الذي حدث هو أنّ حكاية بالرام الذي كان يأمل بتسلّق سلّم النجاح تعلّم، في النصف الثاني، كيف يصعده. كيف يرتقيه على أكتاف الآخرين ويحوّل نقاط ضعفهم ومزاياهم التي يتمتعون بها، على حد سواء، إلى نقاط قوّته.
المخرج الأميركي رامين بحراني (من أصول إيرانية)، والكاتب الهندي أراڤيند أديغا، الذي وضع رواية «النمر الأبيض»، كانا زميلي دراسة في جامعة كولومبيا الأميركية. وفي عام 2004 تسلم بحراني مسودة سيناريو بهذا العنوان، من ثمّ مسودة الكتاب كاملاً قبل نشره عام 2005. حين قرأ المخرج النص قرر أنّ هذا هو المشروع الذي يستحق إنجازه ولو بعد حين. خلال تلك الفترة كان قد بدأ يُحضّر لفيلمه الأول Man Push Cart الذي أنجزه سنة 2005، حول مغني روك أند رول باكستاني تقلّبت به الأيام وانتهى يدفع عربة تبيع الطعام في مانهاتن.
في العام نفسه، نشر أديغا روايته هذه كتاباً، ومن يقرأه يجد أنّ الفيلم اعتمد أحداثه بأمانة فائقة. التعليق الصوتي الذي يصاحب الفيلم مأخوذ بمعظم فقراته من الكتاب. حتى التناصف المُشار إليه في مطلع هذا النقد موجود في الكتاب يمهّد له كما يمهّد الفيلم له باستعراض خفيف الإيقاع سريع الانتقال يعرّف بأصول بطله ونظم حياته التي لا تختلف عن نظم حياة القرويين، وعند نقطة معيّنة يتحوّل إلى دكانة محسوبة كما لو أنّ الليل حط أخيراً مع غروب شمس النهار.

هل أنت مسلم؟

«النمر الأبيض» دراما عن ذلك الشاب بالرام الذي قرر ذات يوم ترك قرية لاكمانغارث، واعداً جدّته بأن يبعث لها كل ما قد يجنيه حين وصوله إلى مدينة دلهي. شاب طيّب يؤديه أدارش غوراف بلا هنّة واحدة. تصدّقه. تجذبك إليه طيبته (كبداية) وابتسامته ومنواله من قبول القدر كما هو. حسب تعاليمه الدينية الناس على نوعين تملك ولا تملك. وسيرضى بالقليل فوزاً بالعمل سائق سيارة العائلة التي تملك أراضي شاسعة بما فيها الأرض التي تعمل فيها عائلته في ذلك الريف.
‫إنه السائق الثاني للعائلة. الأول هو رب أسرة يعمل هناك منذ 30 سنة. حين عودة أحد أبناء الأسرة من الولايات المتحدة (مصحوباً بزوجة هندية جميلة يود الزواج منها)، يصير لزاماً على العائلة البحث عن سائق ثان. هنا يدلف بالرام وأحد الأسئلة الأولى التي تُوجّه إليه «هل أنت مسلم؟». بعد قليل سندرك أنّ العائلة لا تُعين مسلمين في خدمتها. السائق الآخر، رام برساد (أكشاي شارما) كان أخفى حقيقة أنّه مسلم طوال هذه السنوات. حين يكتشف بالرام حقيقته يشي به، رغم توسله بألا يفعل، ليصبح السائق الوحيد (ينتقل من رقم 2 إلى رقم 1) وليرتفع راتبه.‬
هناك قدر كبير من المعاني في هذا الموضوع. لافت مثلاً، كيف على المسلم أن يخفي حقيقته لكي يعمل ما يدل بدوره على عنصرية تعامل من قِبل ديانات أخرى (مع حفظ الاستثناءات) والمحيط الشاسع للعلاقة بين الأديان المختلفة في الهند. علاقة نطالعها في الأخبار حالياً في قرارات رئيس الوزراء الهندي، نارندا مودي، وحكومته الإدارية والسياسية والاقتصادية التي استهدفت المسلمين في الهند بدوافع تغذي روح العنصرية في البلاد.
يعلن بالرام في الفيلم، أنّه «أقدم على فعل يشعر بالخجل منه»، لكن هذا الشعور يبقى تحت طبقات من السعي للفوز بمقعد وضيع في حقيقته هو الخدمة. طوال الفيلم، خصوصاً في نصفه الأول، هناك حث على فهم الطبيعة البشرية لنظام يقوم على هذا التفاوت الكبير بين الطبقتين متّصلاً بالاستعداد التلقائي لدى الفقراء للبقاء في نطاق العمل خدماً للأثرياء. هذا هو الطموح الذي يخالجه شعور بالانتماء لا إلى حلم يمكن تحقيقه، بل إلى واقع عليه البقاء ضمنه.
في مطلع الفيلم يبرهن بالرام عن ذلك باندفاعه المتصل بعمق الإيمان بقدرية وضعه، لكنه يتبدّى كذلك حين نسمعه يقول وهو يشاهد أقفاص الدجاج الذي ستُنحر تباعاً «يستطيعون رؤية رائحة الدم وشمّها، ويدركون أنّهم آيلون (للذبح) ولا يتمرّدون».
يتغير هذا كله مع إدراك بالرام أنّ هناك فرصة للصعود على كتف مستخدمه. ابن العائلة آشوك (راجكومار راو) العائد من الولايات المتحدة عاد حاملاً معه تعاليم غربية لا تلتقي وتعاليم العائلة بالضرورة. أكثر انفتاحاً وعفوية. لا ينظر إلى بالرام نظرة فوقية. يؤكد له احترامه له ويطالبه باحترام نفسه. لكن آشوك يجد نفسه في وسط تلك التقاليد عندما تناهضها علناً زوجته بينكي (بريانكا شوبرا جوناس)، خصوصاً عندما تنتقد طريقة معاملة موشك، شقيق زوجها لبالرام. الديانة المشتركة لبالرام والعائلة لا تمنع موشك، ولا الأب، من معاملته بعنف وازدراء وبالضرب حين تستدعي الحاجة.

من واقع إلى آخر

إذا كانت تلك النقطة الفاصلة بين كل ما نتابعه في الدقائق الخمسين الأولى وما يليها تحمل في ثناياها اكتشاف بالرام أنّه يستطيع تغيير قدره بالحيلة والدهاء، فإنّها لم تأت من فراغ. نقرأ في رواية أراڤيند أديغا تفاصيل حياة بطله في تلك القرية (أمر كان على المخرج تقليص مساحته بغية تطوير الأحداث جيداً)، وكيف أنّه لم يكن ممانعاً حتى حين تركته العائلة بلا اسم مكتفية بمناداته بـ«صبي» (مدرّسه هو الذي أطلق عليه اسم بالرام). حين يزور آشوك وزوجته قرية بالرام يصعد بالرام هضبة مشرفة على القرية ويبصق عليها. لا يرد ذلك في السيناريو لكن مرادات ذلك متوفرة طوال الفيلم. هذا شاب كان مكتفياً بوضعيّته رافضاً التغيّر. يقبل بوضعه وبالإهانات كقدر لا يمكن تغييره... هذا إلى أن يجد منفذاً لذلك التغيير.
الانقلاب الذي حصل بدأ في ليلة عيد ميلاد بينكي. بالرام في الانتظار. تخرج وزوجها. الجميع في حالة نشوة. تصر بينكي على قيادة السيارة في شارع بلا إضاءة. فجأة، وفي شارع بلا إضاءة، تصدم صبياً وتقتله.
في اليوم التالي يجد بالرام نفسه وسط أفراد العائلة يقدّمون إليه ورقة اعتراف عليه توقيعها تنص على أنّه هو من قاد السيارة وقتل الصبي. الكتاب يصف هذا الاجتماع جيداً. الفيلم يجسده على نحو لن يغيب عن البال سريعاً. محور المشهد هو بالرام الذي يدخل غرفة الفندق بعدما طلبته العائلة. يحاول تقبيل قدم رب العائلة ستورك، لكن ذلك يمنعه ويجلسه بجانبه (وليس على الأرض). موشك، الشقيق الأكبر لآشوك، الذي دائماً ما عنّف بالرام يبتسم له ويحادثه برقّة. لاحظ وجه بالرام سعيداً بهذا الاستقبال غير المتوقع. إلى أن يسلّمه موشك ورقة صاغها المحامي يعترف فيها بقتل الصبي. «اقرأ بصوت عال»، يطلب منه موشك ذلك بابتسامة عريضة. يقرأ بالرام ويتوقف. لقد بدأ يفهم ما هو مطلوب منه. عيناه المشعّتان بالبهجة في مطلع المشهد يسكنهما الآن رجاء خائب. ما زال يبتسم، لكن عينيه تدمعان مدركاً في ذاته نصل سكّين خفي غُرز في أصوله الإنسانية.
بعد هذا يبدأ بالرام بلي ذراع وضعه الاجتماعي. يبدأ بسرقة سيّده ثم يبدأ التخطيط لقتله وينفّذ الخطّة.
«السبب في أنّ الشرطة لم تعثر عليّ؛ لأنّني أشبه نصف سكان الهند»، يقول لنا مبتهجاً وذلك بعدما سرق غلّة سيّده وافتتح شركة لقيادة السيارات المؤجّرة شاقّاً طريقه صوب النجاح.
في الرواية يكتب بالرام كل ذلك في رسالة لرئيس وزراء الصين حين جاء لزيارة الهند. في الفيلم هناك مَخرج أفضل؛ إذ يبدأ وينتهي (تقريباً) بتلك الزيارة. وفي كلا المشهدين نص مرهب: «شعبا الصين والهند، الصفر والبنيّون، هما مستقبل العالم».
هذا ربما ما نتابعه اليوم في كنه الأحداث والحروب الاقتصادية المشتعلة والسياسية الباردة. لكن المخرج بحراني يستقي من الكتاب ما هو أعنف بكثير من القصّة. على عكس فيلم داني بويد «سلامدوغ مليونير» (2009) ينقضّ الفيلم على المجتمع الهندي الرازح تحت تقاليد اجتماعية ومجتمعية راسخة. الهند، بطبقاتها المختلفة، مشتركة في نظام أشمل من كل شيء وهو الفساد. الرشوة تضرب اليسار واليمين ومن هم فوق ومن هم تحت. يعرض كيف أنّ رئيسة الحزب الاشتراكي تستخدم التهديد والوعيد لإجبار العائلة دفع أتوات تحت تهديد كشف تلاعباتها أمام مصلحة الضرائب.
وبينما بطل «سلامدوغ مليونير» (قام به دف باتل) يبقى ناصع الظهور، سليم النوايا في مساره المنتقل من الفقر المدقع إلى الثراء (بسبب ورقة يانصيب) ينطلق بالرام هنا من الدعة والفقر إلى النجاح المادي بالحيلة والجريمة؛ لأنّ ذلك هو الطريق الوحيدة للاستقلال عن حياته السابقة. في الكتاب وفي الفيلم احتمال أن عائلته في القرية أُبيدت (بسلاح رجال مالكي الأرض) انتقاماً من قتل بالرام لسيّده (أول ما يفعله بالرام بعد نجاحه المالي استهداف رئيس شرطة المنطقة برشوة). لكن كل شيء، حتى مقتل عائلته مبرر لديه.

الإنتاج الأكبر

في مقابل العلاقة الضدّية بين هذا الفيلم و«سلامدوغ مليونير» هناك لقاء في مفاهيم تربط «النمر الأبيض» بفيلم «طفيلي» (للكوري بونغ دجون هو): أمام الفقراء طريقة واحدة للرقي وهي الخداع.
في «طفيلي» أربعة أفراد لعائلة، كلٌ منهم يدخل خدمة العائلة الثرية بخديعة (إحداها تؤدي إلى طرد سائق العائلة الثرية). نقطة الاختلاف الأولى، هي أنّ ما يبدأ بحيلة هنا ينتهي بجريمة كاملة. والثانية أن المجتمع الكوري، على تفاوت طبقاته، منظّم وملتزم قانونياً ما يؤدي في نهاية المطاف إلى عودة الأفراد الأربعة إلى وضعهم السابق.
رقعة أحداث «النمر الأبيض» أوسع ودلالاته أكثر تشابكاً. مفاداته سياسية أكثر. أفلام المخرج بحراني دارت جميعها، تقريباً، حول موضوع الرجال الذين يجدون أنفسهم تحت عبء الطموحات الصعبة. سواء تحدّثنا عن «رجل دفع عربة» أو «بأي ثمن» أو «99 منزلاً»، هو ناقد لسيطرة رأس المال على مقدرات الحياة وما ينتج منها من تبعات تفرض على شخصياته الأولى التخلي عن أخلاقياتها المبدئية أو قبول الانحدار إلى القاع بلا نجاح. صيغة فيلمه الأخير مختلفة شكلياً. أمام مشروع أكبر حجماً مما اعتاده (موّلته «نتفليكس») يخرج من قصصه الأميركية إلى الهند التي يُنظر إليها كأكبر قاعدة ديمقراطية في العالم (يتعرّض لها بالرام بالنقد ساخراً منها). ومن حكايات من السهل إدارتها محلياً وبتكلفة صغيرة إلى فيلم هو الأكبر حجماً من بين ما حققه بحراني إلى اليوم.
تصوير بارع من الإيطالي باولو كارنيرا يضمن حضور الواقع مع نسيج فانتازي الألوان من حين إلى آخر حسب حاجة الفيلم إلى ذلك. أساساً، لا يخلو الفيلم من تلك المشاهد التي ترفع القبّعة قليلاً للسينما البوليوودية، لكنّه يحافظ دائماً على نصّ الحكاية الاجتماعية ومفاداتها السياسية حتى ولو عنى ذلك تهشيم الصورة الزاهية لتلك الأفلام.
يبقى أنّ النقلة التي ترد في منتصف الفيلم مُساقة جيداً. الأمر هنا أكثر من مجرد استكمال السرد بتغيير الإضاءة بتعتيمها. تلد في الكتابة وتجد حلولها في كيفية بلورة شخصية بالرام بحيث لا ينفصل الفيلم إلى نصفين ظاهرين، بل يحافظ على لُحمته المسترسلة بلا عوائق.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».