«النمر الأبيض» يستوحي واقعاً وينقده بشدة

من الكتاب إلى الشاشة بنص هندي وإنتاج أميركي

مشهد من «النمر الأبيض»
مشهد من «النمر الأبيض»
TT

«النمر الأبيض» يستوحي واقعاً وينقده بشدة

مشهد من «النمر الأبيض»
مشهد من «النمر الأبيض»

في مكان ما من منتصف فيلم «النمر الأبيض» يُعلن بالرام (أدارش غوراڤ)، أنّ الحكاية التي يعرضها ستزداد دكانة من تلك النقطة وصاعداً. وهذا ما يحدث بالفعل. النصف الأول مضيء والثاني داكن. الأول مرح والثاني متجهّم. بريء ومذنب.
الذي حدث هو أنّ حكاية بالرام الذي كان يأمل بتسلّق سلّم النجاح تعلّم، في النصف الثاني، كيف يصعده. كيف يرتقيه على أكتاف الآخرين ويحوّل نقاط ضعفهم ومزاياهم التي يتمتعون بها، على حد سواء، إلى نقاط قوّته.
المخرج الأميركي رامين بحراني (من أصول إيرانية)، والكاتب الهندي أراڤيند أديغا، الذي وضع رواية «النمر الأبيض»، كانا زميلي دراسة في جامعة كولومبيا الأميركية. وفي عام 2004 تسلم بحراني مسودة سيناريو بهذا العنوان، من ثمّ مسودة الكتاب كاملاً قبل نشره عام 2005. حين قرأ المخرج النص قرر أنّ هذا هو المشروع الذي يستحق إنجازه ولو بعد حين. خلال تلك الفترة كان قد بدأ يُحضّر لفيلمه الأول Man Push Cart الذي أنجزه سنة 2005، حول مغني روك أند رول باكستاني تقلّبت به الأيام وانتهى يدفع عربة تبيع الطعام في مانهاتن.
في العام نفسه، نشر أديغا روايته هذه كتاباً، ومن يقرأه يجد أنّ الفيلم اعتمد أحداثه بأمانة فائقة. التعليق الصوتي الذي يصاحب الفيلم مأخوذ بمعظم فقراته من الكتاب. حتى التناصف المُشار إليه في مطلع هذا النقد موجود في الكتاب يمهّد له كما يمهّد الفيلم له باستعراض خفيف الإيقاع سريع الانتقال يعرّف بأصول بطله ونظم حياته التي لا تختلف عن نظم حياة القرويين، وعند نقطة معيّنة يتحوّل إلى دكانة محسوبة كما لو أنّ الليل حط أخيراً مع غروب شمس النهار.

هل أنت مسلم؟

«النمر الأبيض» دراما عن ذلك الشاب بالرام الذي قرر ذات يوم ترك قرية لاكمانغارث، واعداً جدّته بأن يبعث لها كل ما قد يجنيه حين وصوله إلى مدينة دلهي. شاب طيّب يؤديه أدارش غوراف بلا هنّة واحدة. تصدّقه. تجذبك إليه طيبته (كبداية) وابتسامته ومنواله من قبول القدر كما هو. حسب تعاليمه الدينية الناس على نوعين تملك ولا تملك. وسيرضى بالقليل فوزاً بالعمل سائق سيارة العائلة التي تملك أراضي شاسعة بما فيها الأرض التي تعمل فيها عائلته في ذلك الريف.
‫إنه السائق الثاني للعائلة. الأول هو رب أسرة يعمل هناك منذ 30 سنة. حين عودة أحد أبناء الأسرة من الولايات المتحدة (مصحوباً بزوجة هندية جميلة يود الزواج منها)، يصير لزاماً على العائلة البحث عن سائق ثان. هنا يدلف بالرام وأحد الأسئلة الأولى التي تُوجّه إليه «هل أنت مسلم؟». بعد قليل سندرك أنّ العائلة لا تُعين مسلمين في خدمتها. السائق الآخر، رام برساد (أكشاي شارما) كان أخفى حقيقة أنّه مسلم طوال هذه السنوات. حين يكتشف بالرام حقيقته يشي به، رغم توسله بألا يفعل، ليصبح السائق الوحيد (ينتقل من رقم 2 إلى رقم 1) وليرتفع راتبه.‬
هناك قدر كبير من المعاني في هذا الموضوع. لافت مثلاً، كيف على المسلم أن يخفي حقيقته لكي يعمل ما يدل بدوره على عنصرية تعامل من قِبل ديانات أخرى (مع حفظ الاستثناءات) والمحيط الشاسع للعلاقة بين الأديان المختلفة في الهند. علاقة نطالعها في الأخبار حالياً في قرارات رئيس الوزراء الهندي، نارندا مودي، وحكومته الإدارية والسياسية والاقتصادية التي استهدفت المسلمين في الهند بدوافع تغذي روح العنصرية في البلاد.
يعلن بالرام في الفيلم، أنّه «أقدم على فعل يشعر بالخجل منه»، لكن هذا الشعور يبقى تحت طبقات من السعي للفوز بمقعد وضيع في حقيقته هو الخدمة. طوال الفيلم، خصوصاً في نصفه الأول، هناك حث على فهم الطبيعة البشرية لنظام يقوم على هذا التفاوت الكبير بين الطبقتين متّصلاً بالاستعداد التلقائي لدى الفقراء للبقاء في نطاق العمل خدماً للأثرياء. هذا هو الطموح الذي يخالجه شعور بالانتماء لا إلى حلم يمكن تحقيقه، بل إلى واقع عليه البقاء ضمنه.
في مطلع الفيلم يبرهن بالرام عن ذلك باندفاعه المتصل بعمق الإيمان بقدرية وضعه، لكنه يتبدّى كذلك حين نسمعه يقول وهو يشاهد أقفاص الدجاج الذي ستُنحر تباعاً «يستطيعون رؤية رائحة الدم وشمّها، ويدركون أنّهم آيلون (للذبح) ولا يتمرّدون».
يتغير هذا كله مع إدراك بالرام أنّ هناك فرصة للصعود على كتف مستخدمه. ابن العائلة آشوك (راجكومار راو) العائد من الولايات المتحدة عاد حاملاً معه تعاليم غربية لا تلتقي وتعاليم العائلة بالضرورة. أكثر انفتاحاً وعفوية. لا ينظر إلى بالرام نظرة فوقية. يؤكد له احترامه له ويطالبه باحترام نفسه. لكن آشوك يجد نفسه في وسط تلك التقاليد عندما تناهضها علناً زوجته بينكي (بريانكا شوبرا جوناس)، خصوصاً عندما تنتقد طريقة معاملة موشك، شقيق زوجها لبالرام. الديانة المشتركة لبالرام والعائلة لا تمنع موشك، ولا الأب، من معاملته بعنف وازدراء وبالضرب حين تستدعي الحاجة.

من واقع إلى آخر

إذا كانت تلك النقطة الفاصلة بين كل ما نتابعه في الدقائق الخمسين الأولى وما يليها تحمل في ثناياها اكتشاف بالرام أنّه يستطيع تغيير قدره بالحيلة والدهاء، فإنّها لم تأت من فراغ. نقرأ في رواية أراڤيند أديغا تفاصيل حياة بطله في تلك القرية (أمر كان على المخرج تقليص مساحته بغية تطوير الأحداث جيداً)، وكيف أنّه لم يكن ممانعاً حتى حين تركته العائلة بلا اسم مكتفية بمناداته بـ«صبي» (مدرّسه هو الذي أطلق عليه اسم بالرام). حين يزور آشوك وزوجته قرية بالرام يصعد بالرام هضبة مشرفة على القرية ويبصق عليها. لا يرد ذلك في السيناريو لكن مرادات ذلك متوفرة طوال الفيلم. هذا شاب كان مكتفياً بوضعيّته رافضاً التغيّر. يقبل بوضعه وبالإهانات كقدر لا يمكن تغييره... هذا إلى أن يجد منفذاً لذلك التغيير.
الانقلاب الذي حصل بدأ في ليلة عيد ميلاد بينكي. بالرام في الانتظار. تخرج وزوجها. الجميع في حالة نشوة. تصر بينكي على قيادة السيارة في شارع بلا إضاءة. فجأة، وفي شارع بلا إضاءة، تصدم صبياً وتقتله.
في اليوم التالي يجد بالرام نفسه وسط أفراد العائلة يقدّمون إليه ورقة اعتراف عليه توقيعها تنص على أنّه هو من قاد السيارة وقتل الصبي. الكتاب يصف هذا الاجتماع جيداً. الفيلم يجسده على نحو لن يغيب عن البال سريعاً. محور المشهد هو بالرام الذي يدخل غرفة الفندق بعدما طلبته العائلة. يحاول تقبيل قدم رب العائلة ستورك، لكن ذلك يمنعه ويجلسه بجانبه (وليس على الأرض). موشك، الشقيق الأكبر لآشوك، الذي دائماً ما عنّف بالرام يبتسم له ويحادثه برقّة. لاحظ وجه بالرام سعيداً بهذا الاستقبال غير المتوقع. إلى أن يسلّمه موشك ورقة صاغها المحامي يعترف فيها بقتل الصبي. «اقرأ بصوت عال»، يطلب منه موشك ذلك بابتسامة عريضة. يقرأ بالرام ويتوقف. لقد بدأ يفهم ما هو مطلوب منه. عيناه المشعّتان بالبهجة في مطلع المشهد يسكنهما الآن رجاء خائب. ما زال يبتسم، لكن عينيه تدمعان مدركاً في ذاته نصل سكّين خفي غُرز في أصوله الإنسانية.
بعد هذا يبدأ بالرام بلي ذراع وضعه الاجتماعي. يبدأ بسرقة سيّده ثم يبدأ التخطيط لقتله وينفّذ الخطّة.
«السبب في أنّ الشرطة لم تعثر عليّ؛ لأنّني أشبه نصف سكان الهند»، يقول لنا مبتهجاً وذلك بعدما سرق غلّة سيّده وافتتح شركة لقيادة السيارات المؤجّرة شاقّاً طريقه صوب النجاح.
في الرواية يكتب بالرام كل ذلك في رسالة لرئيس وزراء الصين حين جاء لزيارة الهند. في الفيلم هناك مَخرج أفضل؛ إذ يبدأ وينتهي (تقريباً) بتلك الزيارة. وفي كلا المشهدين نص مرهب: «شعبا الصين والهند، الصفر والبنيّون، هما مستقبل العالم».
هذا ربما ما نتابعه اليوم في كنه الأحداث والحروب الاقتصادية المشتعلة والسياسية الباردة. لكن المخرج بحراني يستقي من الكتاب ما هو أعنف بكثير من القصّة. على عكس فيلم داني بويد «سلامدوغ مليونير» (2009) ينقضّ الفيلم على المجتمع الهندي الرازح تحت تقاليد اجتماعية ومجتمعية راسخة. الهند، بطبقاتها المختلفة، مشتركة في نظام أشمل من كل شيء وهو الفساد. الرشوة تضرب اليسار واليمين ومن هم فوق ومن هم تحت. يعرض كيف أنّ رئيسة الحزب الاشتراكي تستخدم التهديد والوعيد لإجبار العائلة دفع أتوات تحت تهديد كشف تلاعباتها أمام مصلحة الضرائب.
وبينما بطل «سلامدوغ مليونير» (قام به دف باتل) يبقى ناصع الظهور، سليم النوايا في مساره المنتقل من الفقر المدقع إلى الثراء (بسبب ورقة يانصيب) ينطلق بالرام هنا من الدعة والفقر إلى النجاح المادي بالحيلة والجريمة؛ لأنّ ذلك هو الطريق الوحيدة للاستقلال عن حياته السابقة. في الكتاب وفي الفيلم احتمال أن عائلته في القرية أُبيدت (بسلاح رجال مالكي الأرض) انتقاماً من قتل بالرام لسيّده (أول ما يفعله بالرام بعد نجاحه المالي استهداف رئيس شرطة المنطقة برشوة). لكن كل شيء، حتى مقتل عائلته مبرر لديه.

الإنتاج الأكبر

في مقابل العلاقة الضدّية بين هذا الفيلم و«سلامدوغ مليونير» هناك لقاء في مفاهيم تربط «النمر الأبيض» بفيلم «طفيلي» (للكوري بونغ دجون هو): أمام الفقراء طريقة واحدة للرقي وهي الخداع.
في «طفيلي» أربعة أفراد لعائلة، كلٌ منهم يدخل خدمة العائلة الثرية بخديعة (إحداها تؤدي إلى طرد سائق العائلة الثرية). نقطة الاختلاف الأولى، هي أنّ ما يبدأ بحيلة هنا ينتهي بجريمة كاملة. والثانية أن المجتمع الكوري، على تفاوت طبقاته، منظّم وملتزم قانونياً ما يؤدي في نهاية المطاف إلى عودة الأفراد الأربعة إلى وضعهم السابق.
رقعة أحداث «النمر الأبيض» أوسع ودلالاته أكثر تشابكاً. مفاداته سياسية أكثر. أفلام المخرج بحراني دارت جميعها، تقريباً، حول موضوع الرجال الذين يجدون أنفسهم تحت عبء الطموحات الصعبة. سواء تحدّثنا عن «رجل دفع عربة» أو «بأي ثمن» أو «99 منزلاً»، هو ناقد لسيطرة رأس المال على مقدرات الحياة وما ينتج منها من تبعات تفرض على شخصياته الأولى التخلي عن أخلاقياتها المبدئية أو قبول الانحدار إلى القاع بلا نجاح. صيغة فيلمه الأخير مختلفة شكلياً. أمام مشروع أكبر حجماً مما اعتاده (موّلته «نتفليكس») يخرج من قصصه الأميركية إلى الهند التي يُنظر إليها كأكبر قاعدة ديمقراطية في العالم (يتعرّض لها بالرام بالنقد ساخراً منها). ومن حكايات من السهل إدارتها محلياً وبتكلفة صغيرة إلى فيلم هو الأكبر حجماً من بين ما حققه بحراني إلى اليوم.
تصوير بارع من الإيطالي باولو كارنيرا يضمن حضور الواقع مع نسيج فانتازي الألوان من حين إلى آخر حسب حاجة الفيلم إلى ذلك. أساساً، لا يخلو الفيلم من تلك المشاهد التي ترفع القبّعة قليلاً للسينما البوليوودية، لكنّه يحافظ دائماً على نصّ الحكاية الاجتماعية ومفاداتها السياسية حتى ولو عنى ذلك تهشيم الصورة الزاهية لتلك الأفلام.
يبقى أنّ النقلة التي ترد في منتصف الفيلم مُساقة جيداً. الأمر هنا أكثر من مجرد استكمال السرد بتغيير الإضاءة بتعتيمها. تلد في الكتابة وتجد حلولها في كيفية بلورة شخصية بالرام بحيث لا ينفصل الفيلم إلى نصفين ظاهرين، بل يحافظ على لُحمته المسترسلة بلا عوائق.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».