الفساد على حدود العراق البرية والبحرية... شريعة غاب تتقاسم غنائمها «ميليشيات إيران»

مسؤولون وموظفو جمارك: ملايين الدولارات تدخل جيوب أحزاب وجماعات مسلحة بدلاً من خزينة الدولة

حيوانات مستوردة تنتظر التخليص الجمركي في ميناء أم قصر جنوب العراق (أ.ف.ب)
حيوانات مستوردة تنتظر التخليص الجمركي في ميناء أم قصر جنوب العراق (أ.ف.ب)
TT

الفساد على حدود العراق البرية والبحرية... شريعة غاب تتقاسم غنائمها «ميليشيات إيران»

حيوانات مستوردة تنتظر التخليص الجمركي في ميناء أم قصر جنوب العراق (أ.ف.ب)
حيوانات مستوردة تنتظر التخليص الجمركي في ميناء أم قصر جنوب العراق (أ.ف.ب)

على طول الحدود البرية والبحرية للعراق، يقوم كارتيل متشابك ومعقد بعمليات تهرب جمركي يحول من خلالها الملايين من الدولارات التي يفترض أن تدخل خزائن الحكومة، إلى جيوب أحزاب وجماعات مسلحة ومسؤولين.
ويقول موظف جمارك إن هذه الشبكة المتداخلة «لا توصف. الأمر أسوأ من شريعة الغاب». ويضيف: «في الغابة، تأكل الحيوانات على الأقل وتشبع. هؤلاء الرجال لا يقنعون أبداً». وعلى غرار معظم المسؤولين الحكوميين وعمال الموانئ والمستوردين الذين قابلتهم وكالة الصحافة الفرنسية على مدى ستة أشهر، طلب الموظف التحدث دون الكشف عن هويته خوفاً من تعرض حياته للخطر.
في البلد الذي يحتل المرتبة 21 في العالم في سلم الفساد، وفق منظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، تعبد البيروقراطية المملة والفساد المزمن طريقاً إلى امتصاص موارد الدولة. وفي اقتصاد يقوم أساساً على النفط، وفي ظل ضعف كبير في القطاعين الزراعي والصناعي وغياب أي إمكانية للحصول على عائدات منهما، تشكل رسوم الجمارك المصدر الأهم للعائدات.
لكن الحكومة العراقية المركزية لا تتحكم بهذه الموارد التي تتوزع على أحزاب ومجموعات مسلحة غالبيتها مقربة من إيران تتقاسم السطوة على المنافذ الحدودية وتختلس عبرها ما أمكن من الأموال. ويقول وزير المالية العراقي علي علاوي: «هناك نوع من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين»، مشيراً إلى أن «هذا النظام ككل يساهم في نهب الدولة».
ويستورد العراق الغالبية العظمى من بضائعه، ويعتمد في الغالب على إيران وتركيا والصين في كل شيء من الغاز إلى الكهرباء والطعام والإلكترونيات. رسمياً، استورد العراق ما قيمته 21 مليار دولار من السلع غير النفطية في عام 2019. وفق أحدث البيانات التي قدمتها الحكومة، مرت بمعظمها عبر خمسة معابر رسمية على الحدود مع إيران التي يبلغ طولها 1600 كيلومتر، وواحد على الحدود مع تركيا الممتدة على قرابة 370 كيلومتراً، وعبر ميناء أم قصر العملاق في محافظة البصرة الجنوبية. لكن نظام الاستيراد العراقي مرهق وعفا عليه الزمن. فقد تحدث تقرير للبنك الدولي عام 2020 عن «تأخيرات لا تنتهي، ورسوم مرتفعة واستغلال». وقال مستورد يتخذ من دولة في الشرق الأوسط مركزاً لعمله لوكالة الصحافة الفرنسية: «إذا كنت تريد أن تستورد بالطريقة الصحيحة، تنتهي بأن تدفع آلاف الدولارات كغرامة تأخير»، مضيفاً أن هذا النظام «مصمم للفشل». وأدى ذلك، وفق مسؤولين وعمال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد مواز عبر المعابر البرية وميناء أم قصر، تتولاه أحزاب ومجموعات مسلحة. وتتحقق معظم الأرباح من ميناء أم القصر كونه المنفذ الذي تدخل عبره الكمية الأكبر من البضائع إلى البلاد. وأكد مسؤولون أن غالبية نقاط الدخول تسيطر عليها بشكل غير رسمي فصائل تنتمي إلى الحشد الشعبي، وهو تحالف يجمع فصائل شيعية دُمجت مع القوات الأمنية. وتملك هذه الفصائل مكاتب اقتصادية لتمويل نفسها، وتأسست حتى قبل تشكيل الحشد الشعبي. وقال ضابط في المخابرات العراقية حقق في قضية التهرب الضريبي «إذا كنت تريد طريقاً مختصراً، تذهب إلى الميليشيات أو الأحزاب». وأضاف: «يقول المستوردون إنهم يفضلون خسارة مائة ألف دولار (تدفع كرشوة) بدلاً من خسارة بضاعتهم بالكامل».
ويعمل أعضاء الأحزاب والفصائل المستفيدة من ذلك، أو معارفهم وأقاربهم كوكلاء حدود أو مفتشين وفي الشرطة، ويتقاضون مبالغ مالية من المستوردين الذين يريدون تجاوز الإجراءات الرسمية أو الحصول على حسم على الرسوم.
وينفي الحشد الشعبي هذه المزاعم علناً. لكن مصادر مقربة من فصائل متشددة مثل «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، أقرت بوجود نفوذ لفصائل مختلفة على الحدود، معددة الأرصفة والمراكز التي يتم عبرها التهرب الضريبي على أنواع من البضائع، بما يتطابق مع ما قاله مسؤولو الجمارك وضابط المخابرات.
وأكد عمال ميناء أم قصر ومسؤولون ومحللون أن «منظمة بدر» مثلاً، وهو فصيل تأسس في إيران في الثمانينات، تدير معبر مندلي على الحدود الإيرانية. وقال ضابط المخابرات: «إذا كنت تاجر سجائر، اذهب إلى المكتب الاقتصادي لكتائب (حزب الله) في الجادرية (في بغداد)، اطرق الباب، وقل أريد التنسيق معكم».
وأحد الأشخاص الرئيسيين في عجلة الفساد، هو «المخلص»، أي موظف الجمارك الحكومي الذي غالباً ما يعمل كوسيط للجماعات المسلحة والأحزاب السياسية. وقال ضابط المخابرات: «لا يوجد شيء اسمه (مخَلص) من دون انتماء، جميعهم مدعومون من الأحزاب».
بعد الدفع نقداً مقابل عمليات صغيرة أو عبر تحويلات مصرفية لصفقات أكبر، يقوم المخلص بتزوير الأوراق الرسمية، عبر تحريف نوع السلعة التي يتم استيرادها أو عددها وقيمتها الإجمالية، مما يؤدي إلى خفض قيمة الرسوم الجمركية التي على التجار دفعها، والتي تكون في النهاية أقل بكثير من القيمة الفعلية للبضائع.
وقال أحد المستوردين إن تسجيل كمية أصغر من الكمية الحقيقية يوفر للمستورد حسماً على الرسوم الجمركية يصل إلى 60 في المائة. والمثال الشائع على ذلك هو في استيراد السجائر التي تبلغ تعرفة الاستيراد الرسمية عليها 30 في المائة من قيمتها بالإضافة إلى 100 في المائة إضافية لرفع سعرها في السوق المحلية بهدف تشجيع المستهلكين على شراء البضائع المصنعة في العراق.
ولتقليص هذه الرسوم، غالباً ما يتم تسجيل السجائر على أنها مناديل ورقية أو سلع بلاستيكية مما يعني في المقابل دفع تعرفات جمركية أقل بكثير. ويقول مسؤول الجمارك «بدلاً من دفع 65 ألف دولار لكل شاحنة على الأقل ينتهي بك الأمر بدفع 50 ألف دولار فقط».
ويتلاعب المخلصون أيضاً بالقيمة الإجمالية المقدرة للشحنة. فتسجل تلك القيمة بداية على رخصة الاستيراد ولكن يملك المخلص صلاحية إعادة النظر بها عند نقطة الدخول، وبالتالي تخفيضها بهدف تخفيف قيمة الرسوم.
وروى مسؤول في أم قصر أن وكيل جمارك قام بتقييم شحنة من الحديد بثمن بخس لدرجة أن المستورد دفع رسوماً جمركية قدرها 200 ألف دولار، في حين كان ينبغي أن يدفع أكثر من مليون دولار. وقال المستورد: «هذا النفوذ الكبير للمخلص ليس طبيعياً على الإطلاق».
ومن خلال علاقات مع أشخاص نافذين، تتسرب بعض البضائع دون تدقيق على الإطلاق. وفي هذا الإطار، قال موظف الجمارك: «أنا لست فاسداً، ولكنني اضطررت لتمرير الشحنة دون تفتيش لأنها مرتبطة بطرف نافذ».
في حالات أخرى، يأخذ التجار تراخيص استيراد وإيصالات مزورة إلى البنك المركزي العراقي الذي يرسل بعد ذلك دفعة بالدولار الأميركي إلى شركة شحن وهمية خارج العراق. وتسمح هذه المعاملات بغسل الأموال، بحسب وكيل جمركي ومسؤولين مصرفيين عراقيين.
وقال مستورد إنه دفع 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفة قانونية. وأضاف أنه يدفع بانتظام «رشوة لضابط في شرطة الموانئ» ليبلغه بعمليات التفتيش المفاجئة. ومقابل رسوم إضافية، عرض الضابط عليه «إرسال دوريات لتعطيل خروج بضائع منافسة».
وكونهم يعتبرون المنافذ الحدودية مصدراً لا متناهياً للمال، يدفع الموظفون العامون أموالاً لرؤسائهم لتعيينهم هناك. ويفاخر مسؤول في معبر مندلي بالقول إن المعبر يدر رشاوى تصل إلى عشرة آلاف دولار لأصغر موظف كل يوم.
ويعرب وزير المالية علاوي عن أسفه قائلاً: «يتراوح سعر أصغر وظيفة في الجمارك بين 50 ألف دولار إلى مائة ألف دولار، وفي بعض الأحيان ترتفع إلى أضعاف ذلك».
وتستخدم الأحزاب والجماعات المسلحة نفوذها السياسي للاحتفاظ بمواقعها هذه التي تسمح لها بتكديس الأموال، ولا تتوانى عن التهديد باستخدام العنف. وقال عامل في معبر مندلي إنه أخَّر ذات مرة دخول شحنة قادمة من إيران لافتقادها أوراقاً رسمية، لكن المخَلص هدده، مدعياً أنه من عناصر الحشد الشعبي وأصر على إدخال البضائع دون دفع الرسوم، وهو ما سمح به العامل في نهاية المطاف.
وروى ضابط المخابرات أن مخبراً في معبر زرباطية على الحدود مع إيران والذي تديره «عصائب أهل الحق»، وُضع مراراً في إجازة إدارية بسبب عرقلته عمليات استيراد منتجات إيرانية من دون رسوم جمركية. في النهاية، لم يستطع تحمل الضغط. وقال الضابط: «عدنا لاحقاً للتحدث معه مرة أخرى ووجدنا أنه انضم إلى العصائب».
وقال موظف كبير في المنافذ الحدودية إنه يتلقى مكالمات منتظمة من أرقام خاصة تهدد بالتعرض لأقاربه بالاسم، في محاولة لترهيبه ودفعه إلى وقف عمليات التفتيش على البضائع في الموانئ. وأضاف موظف الجمارك: «لا يمكننا فعل شيء لأننا سنقتل. الناس خائفون... إنها مافيا حقيقية».
ويشرح ريناد منصور من مركز أبحاث تشاتام هاوس أن هذا النظام أصبح شريان الحياة للأحزاب العراقية والجماعات المسلحة، بما في ذلك فصائل الحشد الشعبي الموالية من إيران.
وأضفت هذه الأطراف طابعاً احترافياً على موضوع التمويل غير المشروع هذا بعد هزيمة تنظيم «داعش» في عام 2017. بعدما لم يعد في إمكانها الوصول إلى ميزانيات الدفاع الكبيرة. وازدادت هذه الشبكة نشاطاً بعد فرض الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عقوبات قاسية على إيران. وفي مارس (آذار) 2020. أدرجت الولايات المتحدة شركة «الخمائل البحرية للخدمات»، وهي شركة شحن في أم قصر، على القائمة السوداء لتنسيقها مع مجموعات شيعية مسلحة لمساعدة الحرس الثوري الإيراني على «التهرب من بروتوكول التفتيش الحكومي العراقي».
كما فرضت عقوبات على عراقيين اثنين وإيرانيين اثنين مرتبطين بالشركة لتمويلهم الكتائب و«حزب الله» اللبناني. ورفضت السفارة الأميركية في العراق طلبات التعليق على الأمر.
ويجري تقاسم الغنائم بين الأحزاب والجماعات المسلحة بشكل سلس، رغم خصومات فيما بينها أحياناً. ويقول منصور: «منفذ حدودي واحد يمكن أن يدر ما يصل إلى 120 ألف دولار في اليوم (كرسوم غير مشروعة)» تتقاسمه مجموعات عدة «قد تكون عدوة فيما بينها». وقال ضابط المخابرات العراقية: «لا توجد منافسة. يعرفون أنه إذا سقط أحدهم فسيسقط الآخرون».
في فبراير (شباط)، قتل عضوان في «عصائب أهل الحق» في حادثتين منفصلتين وصفهما مصدران في الحشد الشعبي لوكالة الصحافة الفرنسية بأنهما ذات «خلفيات اقتصادية». لكن عمليات القتل هذه نادرة.
ويحرم هذا النظام الموازي الدولة من مصادر تمويل كان يمكن تخصيصها للمدارس والمستشفيات والخدمات العامة الأخرى. وقال الوزير علاوي: «يجب أن نحصل على سبعة مليارات دولار من الجمارك سنوياً، لكن في الواقع، تصل عشرة إلى 12 في المائة فقط من موارد الجمارك إلى وزارة المالية».
وأفادت منظمة الشفافية الدولية في عام 2020 أن تركيا والصين، وهما من أكبر المصدرين للعراق، هما أقل دولتين تراقبان ضبط الفساد في إطار تصديرهما إلى العراق.
ويدفع ثمن كل هذا الفساد المستهلك العراقي. وقال مسؤول عراقي: «بصفتك مستهلكاً، فأنت الشخص الذي ينتهي بك الأمر بالدفع مقابل هذا الفساد».
منذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الوزراء في مايو (أيار) 2020، جعل مصطفى الكاظمي من إصلاح المعابر الحدودية أولوية قصوى. فمع الانخفاض الشديد بأسعار النفط، بات العراق بأمس الحاجة إلى عائدات إضافية. وفي رحلات حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى أم قصر ومندلي، تعهد الكاظمي بإرسال قوات جديدة إلى كل منفذ حدودي وتطبيق المداورة في وظائف الجمارك بانتظام لتفكيك دوائر الفساد.
على الورق، يفترض أن يكون ذلك مجدياً. وبشكل شبه يومي، تفيد هيئة المنافذ الحدودية عن عمليات ضبط بضائع كانت هناك محاولات لتهريبها دون دفع رسوم. لكن مع انخفاض الواردات في عام 2020 بسبب فيروس كورونا والإعفاءات الجمركية المؤقتة الممنوحة للأدوية والغذاء، كان التأثير الإجمالي لتلك الإجراءات متواضعاً.
وقالت هيئة المنافذ الحدودية إن العراق حصد 818 مليون دولار من الرسوم في 2020، وهو مبلغ أعلى بقليل من 768 مليون دولار في 2019.
ويعتبر مستوردون ومخلصون ومسؤولون هذه الإجراءات ذراً للرماد في العيون. وقال مستوردون إنه، في حين أن بعضهم يدفع الآن الرسوم الحكومية، فإنهم ما زالوا يدفعون في الوقت نفسه إلى المخلصين للتأكد من أن البضائع لن يتم تأخيرها بشكل تعسفي. وقال رجل أعمال عربي يقوم بتصدير بضائع إلى العراق منذ أكثر من عقد «في النهاية، ندفع مرتين».
في غضون ذلك، لم يتأثر أصحاب العلاقات الجيدة بالتدابير الجديدة. وقال مستورد عراقي: «لم يتغير شيء. يمكنك إدخال أسلحة أو أي شيء آخر تريده عبر مندلي من دون رخصة استيراد ومن دون دفع رسوم جمركية». وقال الرجل إنه أدخل مواد بناء من خلال معبر مندلي من دون دفع رسوم جمركية حتى بعد الإصلاحات التي أعلنها الكاظمي.
ويصف عناصر في الأمن الأمر بأنه أشبه بالفوضى. وقال جندي تم نشر وحدته لفترة وجيزة في مندلي لوكالة الصحافة الفرنسية: «الشرطة هناك متورطة بجميع عناصرها في الرشوة. التجار يدفعون الأموال بشكل جنوني. اعتقلنا رجلاً، لكنهم أخرجوه في اليوم التالي».
واعترف المسؤول الحدودي الكبير بأن بعض عمليات نشر إضافية لعناصر أمن تم التعهد بها، لم تحدث قط.
وقال: «في أوقات أخرى، كان الأمر عبارة عن مسرحية، إذ نُشر فقط نحو عشرين رجلاً».
ويقول المستوردون والمسؤولون إن السبب الرئيسي في فشل تلك التدابير هو أن «تناوب الموظفين لم يشمل عنصراً حاسماً في آلة الفساد: المخَلص». وقال مسؤول الجمارك: «المخَلص هو الوسيط الرئيسي للفساد، ما زال هناك. تفاحة فاسدة واحدة ستفسد الباقي». وما زال وسطاء الأحزاب والمجموعات المسلحة موجودين أيضاً. وقال المستورد العراقي: «هناك غرفة جاهزة تدخل إليها الآن، وتقوم بفرز كل شيء هناك».
وقال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية إن «كتائب حزب الله» المتهمة بإطلاق صواريخ على السفارة الأميركية، أُجبرت على إغلاق مكتبها الاقتصادي في مطار بغداد الدولي لمنع وصولها إلى بضائع ثمينة معفاة من الرسوم الجمركية. وأضاف المسؤول: «لكن لا يزال بإمكانها الصعود إلى الطائرة والقيام بما تريد. الفساد ما زال موجوداً».
وبدلاً من الاتصال ببعضهم البعض بشكل علني، انتقل الميسرون إلى تطبيقات المراسلة المشفرة مثل «واتساب».
وقال ضابط المخابرات: «أصبح عملنا بالفعل أكثر صعوبة لأنهم يتخذون المزيد من الاحتياطات». ورغم النجاح الجزئي في زيادة إيرادات الدولة، الكارتيل صامد على حاله. وتوقع مسؤولون أن يتجنب التجار بشكل متزايد المعابر التي تديرها الدولة وأن يعتمدوا إما على التهريب أو الاستيراد بشكل غير رسمي عبر كردستان شمالاً. وحذروا من أن تفكيك الشبكة بالكامل سيؤدي إلى عنف قد يكون الكاظمي غير مستعد له. وقال ضابط المخابرات: «هذه المصالح تساوي ملايين الدولارات. رصيف واحد في أم قصر يعادل ميزانية دولة»، مضيفاً: «لن يتنازلوا بسهولة».



أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
TT

أحياء منكوبة بلا مياه وكهرباء بسبب القصف الإسرائيلي في مدينة صور الساحلية

جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)
جانب من الدمار الذي طال المباني في مدينة صور الساحلية جنوب لبنان (رويترز)

قرب ركام مبنى ما زال الدخان يتصاعد منه في مدينة صور، تحمل عائلة حقائب وتصعد على سلم مظلم إلى شقة خُلعت أبوابها ونوافذها، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي البنى التحتية والطرق، إضافة إلى الأبنية والمنازل.

في اليوم الثاني من سريان وقف إطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل، كانت مئات العائلات صباح الخميس تتفقّد منازلها في أحياء استهدفتها الغارات الإسرائيلية، وحوّلتها إلى منطقة منكوبة.

لم تسلم سوى غرفة الجلوس في شقة عائلة نجدة. تقول ربّة المنزل دنيا نجدة (33 عاماً)، وهي أم لطفلين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، بينما تقف على شرفتها المطلة على دمار واسع: «لم نتوقّع دماراً إلى هذا الحدّ. رأينا الصور لكن وجدنا الواقع مغايراً وصعباً».

وغطّى الزجاج أسرّة أطفالها وألعابهم، في حين تناثرت قطع من إطارات النوافذ الحديدية في كل مكان. وتضيف دنيا نجدة: «عندما وصلنا، وجدنا الدخان يتصاعد من المكان، وبالكاد استطعنا معاينة المنزل».

على الشرفة ذاتها، يقف والد زوجها سليمان نجدة (60 عاماً)، ويقول: «نشكو من انقطاع المياه والكهرباء... حتى المولدات الخاصة لا تعمل بعد انقطاع خطوط الشبكات».

ويقول الرجل، الذي يملك استراحة على شاطئ صور، الوجهة السياحية التي تجذب السكان والأجانب: «صور ولبنان لا يستحقان ما حصل... لكن الله سيعوضنا، وستعود المدينة أفضل مما كانت عليه».

وتعرّضت صور خلال الشهرين الماضيين لضربات عدّة؛ دمّرت أو ألحقت أضراراً بمئات الوحدات السكنية والبنى التحتية، وقطعت أوصال المدينة.

وأنذرت إسرائيل، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مراراً سكان أحياء بأكملها بإخلائها، ما أثار الرعب وجعل المدينة تفرغ من قاطنيها، الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً.

لن يحصل بنقرة

خلال جولة في المدينة؛ حيث تعمل آليات على رفع الردم من الطرق الرئيسة، يحصي رئيس بلدية صور واتحاد بلدياتها، حسن دبوق لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أكثر من 50 مبنى، مؤلفة من 3 إلى 12 طابقاً دُمّرت كلياً جراء الغارات الإسرائيلية»، غير تضرّر عشرات الأبنية في محيطها، بنسبة تصل إلى 60 في المائة. ويضيف: «يمكن القول إنه يكاد لم يبقَ أي منزل بمنأى عن الضرر».

وشهدت شوارع المدينة زحمة سير مع عودة المئات من السكان إلى أحيائهم، في حين أبقت المؤسسات والمحال التجارية والمطاعم أبوابها موصدة.

ويوضح دبوق: «يتفقّد السكان منازلهم خلال النهار، ثم يغادرون ليلاً بسبب انقطاع الماء عن أنحاء المدينة والكهرباء عن الأحياء التي تعرّضت لضربات إسرائيلية قاسية».

ويقول إن الأولوية اليوم «للإسراع في إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين»، مقرّاً بأن ذلك «لن يحصل بنقرة، ويحتاج إلى تعاون» بين المؤسسات المعنية.

ويضيف: «من المهم أيضاً إزالة الردم لفتح الشوارع حتى يتمكّن الناس من العودة».

واستهدفت غارة إسرائيلية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) شركة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها، ومقتل موظفيْن، وانقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها، وفق ما قال رئيس مصلحة مياه صور وليد بركات.

ودمّرت الغارة مضخّات المياه وشبكة الأنابيب المتفرّعة منها، وفق ما شاهد مراسلو «وكالة الصحافة الفرنسية»، الخميس، في إطار جولة نظمها «حزب الله» للصحافيين في عدد من أحياء المدينة.

وتحتاج إعادة بنائها إلى فترة تتراوح بين 3 و6 أشهر، وفق بركات، الذي قال إن العمل جارٍ لتوفير خيار مؤقت يزوّد السكان العائدين بالمياه.

ويقول بركات: «لا صواريخ هنا، ولا منصات لإطلاقها، إنها منشأة عامة حيوية استهدفها العدوان الإسرائيلي».

قهر ومسكّنات

بحزن شديد، يعاين أنس مدللي (40 عاماً)، الخيّاط السوري المُقيم في صور منذ 10 سنوات، الأضرار التي لحقت بمنزله جراء استهداف مبنى مجاور قبل ساعة من بدء سريان وقف إطلاق النار. كانت أكوام من الركام تقفل مدخل المبنى الذي تقع فيه الشقة.

ويقول بأسى: «بكيت من القهر... منذ يوم أمس، وأنا أتناول المسكنات جراء الصدمة. أنظر إلى ألعاب أولادي والدمار وأبكي».

وغابت الزحمة، الخميس، عن سوق السمك في ميناء المدينة القديمة، الذي كان يعجّ بالزبائن قبل الحرب، بينما المراكب راسية في المكان منذ أكثر من شهرين، وينتظر الصيادون معجزة تعيدهم إلى البحر لتوفير قوتهم.

بين هؤلاء مهدي إسطنبولي (37 عاماً)، الذي يروي أنه ورفاقه لم يبحروا للصيد منذ أن حظر الجيش اللبناني في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حركة القوارب في المنطقة البحرية جنوب لبنان.

ويقول: «لم يسمح الجيش لنا بعد بالخروج إلى البحر حفاظاً على سلامتنا» باعتبار المنطقة «حدودية» مع إسرائيل.

ويقول إسطنبولي: «نراقب الوضع... وننتظر»، مضيفاً: «نحن خرجنا من أزمة، لكن الناس سيعانون الآن من أزمات نفسية» بعد توقف الحرب.

ويقول أب لأربعة أطفال: «أحياناً وأنا أجلس عند البحر، أسمع صوت الموج وأجفل... يتهيّأ لي أن الطيران يقصف. نعاني من الصدمة».