الحكومة الأردنية على أعتاب التعديل الوزاري الثالث في شهرها السادس

الخصاونة يكرّس سابقة في سرعة إقالة أي وزير يراكم تجاوزات أو شبهات بالتقصير والإهمال

د. نذير عبيدات
د. نذير عبيدات
TT

الحكومة الأردنية على أعتاب التعديل الوزاري الثالث في شهرها السادس

د. نذير عبيدات
د. نذير عبيدات

تقترب حكومة بشر الخصاونة في الأردن من موعد تعديلها الوزاري الثالث، مطلع الأسبوع الحالي، بعد أزمات مركبة واجهته بفعل تقصير في أداء وزرائه، وتطبيقه لنظام حاسم في إقالة كل من يطاله الرأي العام بنقد مستند لحقائق، أو تقارير أمنية تحدثت عن تجاوزات مرصودة. وكرّس الرئيس الخصاونة سابقة بين الحكومات في سرعة استجابته لإقالة أي وزير راكم في أدائه التجاوزات أو شبهات التقصير والإهمال. واستخدم لغة مباشرة عند خروجه للرأي العام، معدداً أسباب لجوئه في معاقبة الوزراء المخالفين لتقاليد العمل العام في البلاد؛ بأن المسؤولية الأدبية والسياسية تحتم على أي مسؤول تقديم استقالته حتى لو ابتعد مباشرة عن المسؤولية الميدانية لحظة وقوع الخطأ.
ولكن رغم مواجهته الشرسة في البيان والحجة لدى دفاعه عن قراراته في التعديلات الوزارية التي خطط لها على أساس من تقييم الأداء، لم يسلم الرئيس نفسه من المطالبات بتقديم استقالته بوصفه المسؤول التنفيذي الأول الذي يتحمل مسؤولية أي خطأ أو تقصير، وبصفته الوزير الأول الذي يلتف حوله المقصرون.

صمم رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة سابقة في محاسبة الوزراء المقصرين، منذ إقالة وزير الداخلية اللواء توفيق الحلالمة، عشية ظهور نتائج الانتخابات النيابية في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. حصلت الإقالة في أعقاب خروج مواكب الاحتفالات بفوز مرشحين، بعد دخول قرار الحظر الشامل الذي عاشته البلاد لمدة أربعة أيام فور انتهاء عمليات الاقتراع.
وعبر صور وفيديوهات بثها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت تجاوزات كبيرة في إطلاق الأعيرة النارية وسط تجمعات كبيرة، ظهر الخصاونة، وإلى جانبه قائد الجيش يوسف الحنيطي ومدير الأمن العام حسين الحواتمة، ومن ثم أعلن قبول استقالة الحلالمة من منطلق مسؤوليته الأدبية في عدم ضبط انفلات الشارع. ووسط استهجان إقالة الحلالمة، بدلاً من مدير الأمن العام الحواتمة يومها، وهو المسؤول المباشر عن إدارة العمليات في الميدان، فاقم الحواتمة من أزمة الحكومة مع الشارع بعد تصريحاته تلك الليلة. وفيها انتقد نواباً رعوا تجاوزات قواعدهم الانتخابية.
بالنسبة للوزير الحلالمة الذي استقال بعد نحو شهر من أدائه القسم الدستوري، فإنه عاد عضواً في مجلس الأعيان (الغرفة الثانية من مجلس الأمة)، وكأن في الأمر استرضاءً واحتواءً للرجل، الذي سبق أن شغل موقع مدير الدرك إبان تأسيسها العام 2009، وسط حديث عن منافسة بينه وبين الحواتمة الذي خلفه بالموقع، سبق للرجلين أن تزاملا في قيادة العمليات الخاصة بالقوات المسلحة، وخدما تحت قيادة الأمير الأردني وقتها الملك عبد الله الثاني كضباط إلى جانبه.
في تلك الليلة، وإن تحمل الخصاونة مسؤولية تعديله الوزاري الأول في حكومته التي شكَّلَها، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإنه تحمل وزر الصراع للمراكز الأمنية الذي كان يشي بوقوع أزمة تضارب الصلاحيات، وتوزع دماء المسؤولية بين أجهزة لا يملك الخصاونة نفسه قراراً في اختيار قياداتها أو تحكم في طبيعة عملها. وخلال أيام من انتقال الحلالمة لمجلس الأعيان، قضت إرادة ملكية في تعيين سمير المبيضين وزيراً للداخلية، وهو الذي سبق له أن خرج من الوزارة نفسها قبل عام تقريباً.
- معاقبة وزيري الداخلية والعدل
القصة الثانية في تعديلات الخصاونة الوزارية انطوت على طرفة تناقلها الأردنيون. ففي فبراير (شباط) أُعلن الرئيس الخصاونة بشكل مفاجئ إقالة وزير الداخلية سمير المبيضين، ووزير العدل بسام التلهوني، لمخالفتهما أوامر الدفاع التي نصت على عدم الجلوس على طاولات المطاعم لأكثر من ستة أشخاص. والطرفة جاءت في سياق أن من خالف أوامر الدفاع هما المعنيان في تطبيقها، مع تفشي جائحة «كوفيد - 19». ولم تنجح دفاعات الوزيرين عن نفسيهما، بل استدعيا في وقت مبكر من يوم الإقالة لمكتب الرئيس الذي أبلغهما القرار، ومن دون الاستماع لدفوعاتهما، لا بل أنه بدا جازماً في قراره، ومستعداً للتعامل مع البدائل الفورية.
قصة الوزيرين تمثلت في قبولهما لدعوة عشاء في مطعم فاخر بالعاصمة عمّان، وجهها رجل أعمال. وفي التفاصيل فقد كانت الدعوة موجهة لعشرة أشخاص جلسوا على طاولة غير مراعين لشروط التباعد الجسدي، وعدم التزامهم بالعدد المقرر للجلوس على كل طاولة.
في التفاصيل أيضاً، أنه تزامن لحظة موعد العشاء وجود مسؤول أردني آخر حذّر أحد الوزيرين من مخالفة بلاغات الدفاع من جهة عدد الجالسين على الطاولة، لكنه استخف بنصيحة زميله... وفي هذه الأثناء دخلت لجنة تفتيش رسمية، وضبطت مخالفة المدعوين، ووثقتها بالصور، وكأن الأمر مخطط له مسبقاً، وتحدثت أوساط رسمية يومها عن رفع تقارير المخالفة لمرجعيات عليا.
البعض رأى أن الضربة في التشهير الإعلامي لواقعة الوزيرين كانت موجهة للحكومة، غير أن الرئيس استبق التسريبات، وأعلن إقالة الوزيرين لأسباب نثرها على رؤوس الإعلام، ومذكراً بأن التقصير جزاؤه الإقالة. ولم يترك الأمر متروكاً على قياسات الاستهتار بالموقع العام كقدوة في الالتزام أمام الجميع. ومع أن الوزيرين قاما يومها بإصدار بيانات وتصريحات تؤكد عدم مخالفتها لأوامر الدفاع، سرعان ما انقلبت التوضيحات لإدانات لهما، فقبول المسؤول لدعوة في ظروف وبائية صعبة، وعشية ليلة الحظر الشامل ليلة الخميس على الجمعة، والإصرار على الجلوس في مكان عام، كانت أسباباً كافية لإدانة الوزيرين وليس التعاطف معهما، رغم جلوسهما لمدة 45 دقيقة ومغادرتهما العشاء، بحسبهما.
- التعديل الوزاري الثاني
وفي السابع من مارس (آذار) الحالي، أجرى الخصاونة تعديله الوزاري الثاني، الذي خفض فيه عدد الوزراء من 32 وزيراً إلى 28 وزيراً، ودمج حقائب وزارية وألغى أخرى. وجاء هذا التعديل وسط تشوه جغرافي ديموغرافي زاد من تعقيد مشهد تشكيل الحكومات الأردنية، ورفع من حدة النقد الموجه للحكومة التي يراهن كثيرون على أنها لا تعمّر طويلاً. وللعلم، في الأردن بات عرفاً أن التعديلات الوزارية تضعف الحكومات، وتترك ندوباً غائرة في الجسم الحكومي لا يعالجها إلا المزيد من التعديلات الجديدة التي تزيد من ضعف الرئيس ولا تنجيه من النقد الجارح.
ويوم الأحد الذي أعلن فيه الرئيس تعديله الوزاري، غابت حصة محافظات من الوزارات، كما قُلص تمثيل محافظات أخرى، في حين بقيت وزارات الدولة مرتخية بثقلها على أكتاف الرئيس. كذلك بات تقليص حصة تمثيل المرأة في يومها العالمي من ثلاث حقائب إلى حقيبتين، مدخلاً عند مؤسسات المجتمع المدني لانتقاد التعديل.
الخصاونة، مع هذا، تجاوز كل ذلك، ومضى قدماً، معترفاً بحجم التشابك الأمني والسياسي في اختيار الوزراء، وممارسة التضييق في الخيارات التي ستنعكس لاحقاً على الأداء. ووسط ذلك كله تجاوز الخصاونة لغماً وضعه نواب أمامه في مذكرة نيابية تطلب عقد جلسة مناقشة عامة، تحت عنوان أسباب التعديل الوزاري وأهدافه. واستطاع بدبلوماسيته المستندة لخبرته في وزارة الخارجية من سحب التواقيع على المذكرة تباعاً. ولكن، بعد أقل من 24 ساعة من التعديل الوزاري، اصطدم الخصاونة بإعلان وزير العمل معن القطامين استقالته على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن دون أن يقدم أي أسباب.
القطامين، الذي جاء وزيراً في الحكومة محمولاً على أكتاف مواقع التواصل الاجتماعي، بصفته حاصداً لأعلى المشاهدات على الفيديوهات التي ينتجها، ويضمِّنها نقداً للسياسات والقرارات الحكومية، كان من المتوقَّع أن يباغت رئيسه باستقالة صادمة.
وفي حين أصدرت الحكومة بياناً مفصلاً بيّنت فيه تضارب مواقف القطامين، بعدما قبل الاستمرار في الحكومة وزيراً للعمل، في أعقاب إلغاء وزارة الدولة لشؤون الاستثمار، وأدى اليمين الدستوري على هذا الأساس، تفاجأت الحكومة من قراءتها لاستقالة الرجل على مواقع التواصل الاجتماعي.
يومها، قالت الحكومة إن الرئيس الخصاونة عرض على الوزير ثلاثة خيارات، بعدما سارعت في خطوة غير مسبوقة، إلى إصدار توضيح على لسان وزير الدولة لشؤون الإعلام الجديد صخر دودين. وجاء فيه أن استقالة القطامين جاءت رغم عقد اجتماع بينه وبين الخصاونة لمناقشة حيثيات التعديل، وأن رئيس الوزراء أبلغه بأن الجمع بين حقيبتي الاستثمار والعمل ثبت عدم جدواه خلال الأشهر الماضية، وأنه سيصار إلى فصل الحقيبتين. ووضع رئيس الحكومة، وفقاً لبيانها في ذلك اليوم، 3 خيارات أمام الوزير المستقيل، هي: الاستمرار في تولي حقيبة العمل، أو الانتقال إلى رئاسة هيئة تشجيع الاستثمار، أو المضي قدماً في إجراءات استقالته التي طلبت من الطاقم الوزاري قبل التعديل، لافتاً قبوله بالاستمرار بوزارة العمل وأدائه اليمين القانونية.
وبعكس ما كان القطامين يتوقعه، كانت استقالته التي جاءت ليلة أدائه القسم أمام الملك، مدخلاً لنقده على منابره الاجتماعية. وخرج في فيديو موضحاً أن استقالته جاءت في سياق دفاعه عن مشروعه ورؤيته في خطة دعم الاستثمار في بلاده، وتنصُل رئيس الحكومة من دعم أفكاره في هذا المجال، بعد استثنائه من تشكيله اللجان الوزارية المصغرة.
- استقالة وزير الصحة
وقبل أسبوعين، وقعت كارثة مستشفى السلط الحكومي (20 كلم غرب عمّان) التي راح ضحيتها 9 مواطنين مصابين بفيروس «كوفيد - 19»، نتيجة لنقص الأكسجين في الخزانات الرئيسة بالمستشفى.
الكارثة كانت تنذر بإقالة الحكومة كاملة، بعدما أعلن الخصاونة تحمل كامل المسؤولية المترتبة على الحادثة، ووصف التقصير الذي تسبب بوفاة مواطنين بـ«المخجل». ومن ثم، اعتبر أن هذا التقصير «لا يمكن تبريره»، ومشدداً على أن وفاة أردني واحد بسبب التقصير «أمر لا يمكن قبوله على الإطلاق». على أن المسؤولية السياسية انتهت بإقالة وزير الصحة الدكتور نذير عبيدات، وتوقيف 13 قيادياً من وزارة الصحة ومستشفى السلط الحكومي.
وفي التفاصيل، بعيد إعلان خبر نقص الأكسجين من الخزانات الرئيسة في المستشفى، وصل وزير الصحة إلى المستشفى، وأعلن حصيلة أولية في عدد الوفيات. ثم أعلن أمام شاشات التلفزيونات المحلية وضعه استقالته بين يدي الخصاونة، قبل أن يغادر المستشفى من بوابته الخلفية، خوفاً من مواجهة أهالي الضحايا.
استقالة عبيدات التي وضعها بين يدي رئيسه، صاغها وزير الدولة لشؤون الإعلام صخر دودين في روايتين بمقطعين مختلفين. ففي تصريح مبكر، أعلن دودين أن رئيس الوزراء الخصاونة هو من طلب من عبيدات تقديم استقالته، وبعد وقت قصير عاد دودين ليقول إن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني هو من أمر باستقالة الوزير. غير أن الجميع كانوا قد استمعوا لمبادرة عبيدات في تحمله المسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية في تقديم استقالته. ثم انتهى اليوم بتسجيل سابقة في الحياة السياسية الأردنية بعد صدور مرسوم ملكي قضى «بإقالة وزير الصحة نذير عبيدات»، وليس كما جرت العادة بكتابة نص «صدرت الإرادة الملكية السامية بقبول استقالة»، وهو ما فتح شهية المحللين للتكهن بمصير الحكومة برمتها، وليس مصير وزير بعينه.
من ناحية ثانية، بينما ظلّت الحكومة يومها تتمسك بروايتها بحصيلة الوفيات الأولية بواقع 6 وفيات، أعلن مدير الطب الشرعي في اليوم نفسه عن وصول 7 جثث لضحايا السلط، ليصدم وزير الداخلية مازن الفراية المكلف بإدارة وزارة الصحة بالإعلان عن 9 وفيات، وذلك في مطلع جلسة نيابية طارئة عقدت بعد يوم من وقوع الكارثة.
غير أن كل تلك التصريحات الرسمية لم تأتِ على ذكر الضحايا الذين تأثروا بنقص الأكسجين لمدة ساعتين في المستشفى، سواء من مرضى الفيروس أو الأطفال الخدّج في المستشفى، وأقفل عداد الضحايا، وتفاقم الإصابات عند رقم مقطوع دون زيادة أو نقصان.
هذا، منذ حادثة المستشفى ما زال شاغراً مقعد وزير الصحة الذي استقال متحملاً مسؤوليته الأدبية، ليخلفه بالوكالة وزير الداخلية العميد الفراية. وللعلم، فالتكليف في مبدأ ملء الشواغر الوزارية تقليد أردني مرتبط بموعد التعديل الوزاري، الذي يجب أن يشمل هذه المرة بالإضافة لوزارة الصحة، مقعد وزير العمل الشاغر بعد استقالة القطامين المفاجئة.
- حكومة الخصاونة تكليف استثنائي في ظروف مركبة وأزمات متراكمة
كُلف رئيس الحكومة الأردني بشر الخصاونة بتشكيل الحكومة يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي بعد انتهاء عمر مجلس النواب الـ18 المقدّر دستورياً بأربع سنوات دستورية، وعشية استقالة حكومة عمر الرزّاز، التي اتخذت قراراً بحل المجلس النيابي.
ويوم 12 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أقسم الخصاونة، ومعه فريقه الوزاري المكون من 31 وزيراً، القسم الدستوري أمام العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بعد أسبوعين من تكليفه، وسط استغراب من طول فترة المشاورات التي قام بها الخصاونة، رغم أن مجلس النواب كان منحلاً.
لقد اعتبرت أولى المهمات التي قام بها الخصاونة إعادة ترتيب القرارات حيال أزمة جائحة «كوفيد - 19»، بعدما أربكت الحكومة السابقة المواطنين بكثرة القرارات المتناقضة، وارتفاع وتيرة النقد الشعبي لإدارة الأزمة الاقتصادية التي رافقت الظروف الصحية في البلاد.
من ناحية أخرى، ذهبت حكومة الخصاونة الجديدة لتسهيل مهمة إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجرت يوم 10 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ودعم جهود الهيئة المستقلة للانتخابات الجهة المخولة بإدارة الانتخابات والإشراف عليها، ما أسفر عن ولادة مجلس نيابي جديد بـ98 نائباً لم يسبق لهم حمل مسؤولية الخدمة في السلطة التشريعية.
وفي أول مواجهة للرئيس الخصاونة، القادم من وظيفة المستشار الأول للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، مع مجلس النواب، في مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، حصد ثقة 88 نائباً بعد «ماراثون» مناقشات استمر على مدى 6 أيام متواصلة. ولم يتعرّض رئيس الوزراء الجديد خلال تلك المناقشات لمضايقات نيابية، بمقدار ما سعى لنيل ثقة لا تشكل عليه أعباء إذا تجاوزت سقف الرقم الآمن بالحدود التي حصل عليها.
بعد تلك الجولة المتعبة، وعلى بعد أقل من شهر تقريباً، دخل الخصاونة في مواجهته الثانية مع المجلس على خلفية مناقشة قانوني الموازنة العامة لسنة 2021، وقانون الوحدات الحكومية. وأكمل النواب مناقشاتهم التي غطتها المطالب الخدمية على حساب مناقشتهم للسياسات المالية، وتوسع أرقام العجز وارتفاع المديونية، ليتجاوز الخصاونة امتحانه الثاني بأقل الأضرار. مع أنه، في العادة، تبقى العلاقة بين السلطتين محفوفة بالتوتر والتصعيد، خصوصاً، مع مزاج نيابي جاء متأثراً بمزاج الشارع السلبي والمحتقن نتيجة الظروف الاقتصادية التي جاءت مصاحبة لأزمة الجائحة التي عطلت قطاعات اقتصادية واسعة.
وأمام انزعاج الخصاونة من رقابة مجلس النواب، التي أمطرت وزراءه بالأسئلة والاستجوابات النيابية، فإنه يمضي ممسكاً بتفاصيل إدارته للملفات التي خبرها إبان عمله سفيراً ووزيراً، قبل جلوسه على الكرسي الأقرب من الملك عبد الله الثاني خلال عمله مستشاراً سياسياً.
لكن الخصاونة، الذي يتابع أداء فريقه الوزاري بدقة، لا يزال يعاني من ضعف بعض أجنحته في الوزارات. وهذا الأمر قد يحتم عليه التوسع في تعديله الوزاري الثالث المرتقب. ومعلوم أن الحكومة تواجه هذه الأيام نقداً شعبياً متزايداً نتيجة الظروف الاقتصادية الخانقة التي يعيشها مواطنون بسبب فقدان وظائفهم، في ظل التوسع في إغلاق القطاعات الاقتصادية، وتعذر توفير مظلات حماية اجتماعية.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».