الحكومة الأردنية على أعتاب التعديل الوزاري الثالث في شهرها السادس

الخصاونة يكرّس سابقة في سرعة إقالة أي وزير يراكم تجاوزات أو شبهات بالتقصير والإهمال

د. نذير عبيدات
د. نذير عبيدات
TT

الحكومة الأردنية على أعتاب التعديل الوزاري الثالث في شهرها السادس

د. نذير عبيدات
د. نذير عبيدات

تقترب حكومة بشر الخصاونة في الأردن من موعد تعديلها الوزاري الثالث، مطلع الأسبوع الحالي، بعد أزمات مركبة واجهته بفعل تقصير في أداء وزرائه، وتطبيقه لنظام حاسم في إقالة كل من يطاله الرأي العام بنقد مستند لحقائق، أو تقارير أمنية تحدثت عن تجاوزات مرصودة. وكرّس الرئيس الخصاونة سابقة بين الحكومات في سرعة استجابته لإقالة أي وزير راكم في أدائه التجاوزات أو شبهات التقصير والإهمال. واستخدم لغة مباشرة عند خروجه للرأي العام، معدداً أسباب لجوئه في معاقبة الوزراء المخالفين لتقاليد العمل العام في البلاد؛ بأن المسؤولية الأدبية والسياسية تحتم على أي مسؤول تقديم استقالته حتى لو ابتعد مباشرة عن المسؤولية الميدانية لحظة وقوع الخطأ.
ولكن رغم مواجهته الشرسة في البيان والحجة لدى دفاعه عن قراراته في التعديلات الوزارية التي خطط لها على أساس من تقييم الأداء، لم يسلم الرئيس نفسه من المطالبات بتقديم استقالته بوصفه المسؤول التنفيذي الأول الذي يتحمل مسؤولية أي خطأ أو تقصير، وبصفته الوزير الأول الذي يلتف حوله المقصرون.

صمم رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة سابقة في محاسبة الوزراء المقصرين، منذ إقالة وزير الداخلية اللواء توفيق الحلالمة، عشية ظهور نتائج الانتخابات النيابية في العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. حصلت الإقالة في أعقاب خروج مواكب الاحتفالات بفوز مرشحين، بعد دخول قرار الحظر الشامل الذي عاشته البلاد لمدة أربعة أيام فور انتهاء عمليات الاقتراع.
وعبر صور وفيديوهات بثها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، أظهرت تجاوزات كبيرة في إطلاق الأعيرة النارية وسط تجمعات كبيرة، ظهر الخصاونة، وإلى جانبه قائد الجيش يوسف الحنيطي ومدير الأمن العام حسين الحواتمة، ومن ثم أعلن قبول استقالة الحلالمة من منطلق مسؤوليته الأدبية في عدم ضبط انفلات الشارع. ووسط استهجان إقالة الحلالمة، بدلاً من مدير الأمن العام الحواتمة يومها، وهو المسؤول المباشر عن إدارة العمليات في الميدان، فاقم الحواتمة من أزمة الحكومة مع الشارع بعد تصريحاته تلك الليلة. وفيها انتقد نواباً رعوا تجاوزات قواعدهم الانتخابية.
بالنسبة للوزير الحلالمة الذي استقال بعد نحو شهر من أدائه القسم الدستوري، فإنه عاد عضواً في مجلس الأعيان (الغرفة الثانية من مجلس الأمة)، وكأن في الأمر استرضاءً واحتواءً للرجل، الذي سبق أن شغل موقع مدير الدرك إبان تأسيسها العام 2009، وسط حديث عن منافسة بينه وبين الحواتمة الذي خلفه بالموقع، سبق للرجلين أن تزاملا في قيادة العمليات الخاصة بالقوات المسلحة، وخدما تحت قيادة الأمير الأردني وقتها الملك عبد الله الثاني كضباط إلى جانبه.
في تلك الليلة، وإن تحمل الخصاونة مسؤولية تعديله الوزاري الأول في حكومته التي شكَّلَها، مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فإنه تحمل وزر الصراع للمراكز الأمنية الذي كان يشي بوقوع أزمة تضارب الصلاحيات، وتوزع دماء المسؤولية بين أجهزة لا يملك الخصاونة نفسه قراراً في اختيار قياداتها أو تحكم في طبيعة عملها. وخلال أيام من انتقال الحلالمة لمجلس الأعيان، قضت إرادة ملكية في تعيين سمير المبيضين وزيراً للداخلية، وهو الذي سبق له أن خرج من الوزارة نفسها قبل عام تقريباً.
- معاقبة وزيري الداخلية والعدل
القصة الثانية في تعديلات الخصاونة الوزارية انطوت على طرفة تناقلها الأردنيون. ففي فبراير (شباط) أُعلن الرئيس الخصاونة بشكل مفاجئ إقالة وزير الداخلية سمير المبيضين، ووزير العدل بسام التلهوني، لمخالفتهما أوامر الدفاع التي نصت على عدم الجلوس على طاولات المطاعم لأكثر من ستة أشخاص. والطرفة جاءت في سياق أن من خالف أوامر الدفاع هما المعنيان في تطبيقها، مع تفشي جائحة «كوفيد - 19». ولم تنجح دفاعات الوزيرين عن نفسيهما، بل استدعيا في وقت مبكر من يوم الإقالة لمكتب الرئيس الذي أبلغهما القرار، ومن دون الاستماع لدفوعاتهما، لا بل أنه بدا جازماً في قراره، ومستعداً للتعامل مع البدائل الفورية.
قصة الوزيرين تمثلت في قبولهما لدعوة عشاء في مطعم فاخر بالعاصمة عمّان، وجهها رجل أعمال. وفي التفاصيل فقد كانت الدعوة موجهة لعشرة أشخاص جلسوا على طاولة غير مراعين لشروط التباعد الجسدي، وعدم التزامهم بالعدد المقرر للجلوس على كل طاولة.
في التفاصيل أيضاً، أنه تزامن لحظة موعد العشاء وجود مسؤول أردني آخر حذّر أحد الوزيرين من مخالفة بلاغات الدفاع من جهة عدد الجالسين على الطاولة، لكنه استخف بنصيحة زميله... وفي هذه الأثناء دخلت لجنة تفتيش رسمية، وضبطت مخالفة المدعوين، ووثقتها بالصور، وكأن الأمر مخطط له مسبقاً، وتحدثت أوساط رسمية يومها عن رفع تقارير المخالفة لمرجعيات عليا.
البعض رأى أن الضربة في التشهير الإعلامي لواقعة الوزيرين كانت موجهة للحكومة، غير أن الرئيس استبق التسريبات، وأعلن إقالة الوزيرين لأسباب نثرها على رؤوس الإعلام، ومذكراً بأن التقصير جزاؤه الإقالة. ولم يترك الأمر متروكاً على قياسات الاستهتار بالموقع العام كقدوة في الالتزام أمام الجميع. ومع أن الوزيرين قاما يومها بإصدار بيانات وتصريحات تؤكد عدم مخالفتها لأوامر الدفاع، سرعان ما انقلبت التوضيحات لإدانات لهما، فقبول المسؤول لدعوة في ظروف وبائية صعبة، وعشية ليلة الحظر الشامل ليلة الخميس على الجمعة، والإصرار على الجلوس في مكان عام، كانت أسباباً كافية لإدانة الوزيرين وليس التعاطف معهما، رغم جلوسهما لمدة 45 دقيقة ومغادرتهما العشاء، بحسبهما.
- التعديل الوزاري الثاني
وفي السابع من مارس (آذار) الحالي، أجرى الخصاونة تعديله الوزاري الثاني، الذي خفض فيه عدد الوزراء من 32 وزيراً إلى 28 وزيراً، ودمج حقائب وزارية وألغى أخرى. وجاء هذا التعديل وسط تشوه جغرافي ديموغرافي زاد من تعقيد مشهد تشكيل الحكومات الأردنية، ورفع من حدة النقد الموجه للحكومة التي يراهن كثيرون على أنها لا تعمّر طويلاً. وللعلم، في الأردن بات عرفاً أن التعديلات الوزارية تضعف الحكومات، وتترك ندوباً غائرة في الجسم الحكومي لا يعالجها إلا المزيد من التعديلات الجديدة التي تزيد من ضعف الرئيس ولا تنجيه من النقد الجارح.
ويوم الأحد الذي أعلن فيه الرئيس تعديله الوزاري، غابت حصة محافظات من الوزارات، كما قُلص تمثيل محافظات أخرى، في حين بقيت وزارات الدولة مرتخية بثقلها على أكتاف الرئيس. كذلك بات تقليص حصة تمثيل المرأة في يومها العالمي من ثلاث حقائب إلى حقيبتين، مدخلاً عند مؤسسات المجتمع المدني لانتقاد التعديل.
الخصاونة، مع هذا، تجاوز كل ذلك، ومضى قدماً، معترفاً بحجم التشابك الأمني والسياسي في اختيار الوزراء، وممارسة التضييق في الخيارات التي ستنعكس لاحقاً على الأداء. ووسط ذلك كله تجاوز الخصاونة لغماً وضعه نواب أمامه في مذكرة نيابية تطلب عقد جلسة مناقشة عامة، تحت عنوان أسباب التعديل الوزاري وأهدافه. واستطاع بدبلوماسيته المستندة لخبرته في وزارة الخارجية من سحب التواقيع على المذكرة تباعاً. ولكن، بعد أقل من 24 ساعة من التعديل الوزاري، اصطدم الخصاونة بإعلان وزير العمل معن القطامين استقالته على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن دون أن يقدم أي أسباب.
القطامين، الذي جاء وزيراً في الحكومة محمولاً على أكتاف مواقع التواصل الاجتماعي، بصفته حاصداً لأعلى المشاهدات على الفيديوهات التي ينتجها، ويضمِّنها نقداً للسياسات والقرارات الحكومية، كان من المتوقَّع أن يباغت رئيسه باستقالة صادمة.
وفي حين أصدرت الحكومة بياناً مفصلاً بيّنت فيه تضارب مواقف القطامين، بعدما قبل الاستمرار في الحكومة وزيراً للعمل، في أعقاب إلغاء وزارة الدولة لشؤون الاستثمار، وأدى اليمين الدستوري على هذا الأساس، تفاجأت الحكومة من قراءتها لاستقالة الرجل على مواقع التواصل الاجتماعي.
يومها، قالت الحكومة إن الرئيس الخصاونة عرض على الوزير ثلاثة خيارات، بعدما سارعت في خطوة غير مسبوقة، إلى إصدار توضيح على لسان وزير الدولة لشؤون الإعلام الجديد صخر دودين. وجاء فيه أن استقالة القطامين جاءت رغم عقد اجتماع بينه وبين الخصاونة لمناقشة حيثيات التعديل، وأن رئيس الوزراء أبلغه بأن الجمع بين حقيبتي الاستثمار والعمل ثبت عدم جدواه خلال الأشهر الماضية، وأنه سيصار إلى فصل الحقيبتين. ووضع رئيس الحكومة، وفقاً لبيانها في ذلك اليوم، 3 خيارات أمام الوزير المستقيل، هي: الاستمرار في تولي حقيبة العمل، أو الانتقال إلى رئاسة هيئة تشجيع الاستثمار، أو المضي قدماً في إجراءات استقالته التي طلبت من الطاقم الوزاري قبل التعديل، لافتاً قبوله بالاستمرار بوزارة العمل وأدائه اليمين القانونية.
وبعكس ما كان القطامين يتوقعه، كانت استقالته التي جاءت ليلة أدائه القسم أمام الملك، مدخلاً لنقده على منابره الاجتماعية. وخرج في فيديو موضحاً أن استقالته جاءت في سياق دفاعه عن مشروعه ورؤيته في خطة دعم الاستثمار في بلاده، وتنصُل رئيس الحكومة من دعم أفكاره في هذا المجال، بعد استثنائه من تشكيله اللجان الوزارية المصغرة.
- استقالة وزير الصحة
وقبل أسبوعين، وقعت كارثة مستشفى السلط الحكومي (20 كلم غرب عمّان) التي راح ضحيتها 9 مواطنين مصابين بفيروس «كوفيد - 19»، نتيجة لنقص الأكسجين في الخزانات الرئيسة بالمستشفى.
الكارثة كانت تنذر بإقالة الحكومة كاملة، بعدما أعلن الخصاونة تحمل كامل المسؤولية المترتبة على الحادثة، ووصف التقصير الذي تسبب بوفاة مواطنين بـ«المخجل». ومن ثم، اعتبر أن هذا التقصير «لا يمكن تبريره»، ومشدداً على أن وفاة أردني واحد بسبب التقصير «أمر لا يمكن قبوله على الإطلاق». على أن المسؤولية السياسية انتهت بإقالة وزير الصحة الدكتور نذير عبيدات، وتوقيف 13 قيادياً من وزارة الصحة ومستشفى السلط الحكومي.
وفي التفاصيل، بعيد إعلان خبر نقص الأكسجين من الخزانات الرئيسة في المستشفى، وصل وزير الصحة إلى المستشفى، وأعلن حصيلة أولية في عدد الوفيات. ثم أعلن أمام شاشات التلفزيونات المحلية وضعه استقالته بين يدي الخصاونة، قبل أن يغادر المستشفى من بوابته الخلفية، خوفاً من مواجهة أهالي الضحايا.
استقالة عبيدات التي وضعها بين يدي رئيسه، صاغها وزير الدولة لشؤون الإعلام صخر دودين في روايتين بمقطعين مختلفين. ففي تصريح مبكر، أعلن دودين أن رئيس الوزراء الخصاونة هو من طلب من عبيدات تقديم استقالته، وبعد وقت قصير عاد دودين ليقول إن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني هو من أمر باستقالة الوزير. غير أن الجميع كانوا قد استمعوا لمبادرة عبيدات في تحمله المسؤولية الأدبية والأخلاقية والسياسية في تقديم استقالته. ثم انتهى اليوم بتسجيل سابقة في الحياة السياسية الأردنية بعد صدور مرسوم ملكي قضى «بإقالة وزير الصحة نذير عبيدات»، وليس كما جرت العادة بكتابة نص «صدرت الإرادة الملكية السامية بقبول استقالة»، وهو ما فتح شهية المحللين للتكهن بمصير الحكومة برمتها، وليس مصير وزير بعينه.
من ناحية ثانية، بينما ظلّت الحكومة يومها تتمسك بروايتها بحصيلة الوفيات الأولية بواقع 6 وفيات، أعلن مدير الطب الشرعي في اليوم نفسه عن وصول 7 جثث لضحايا السلط، ليصدم وزير الداخلية مازن الفراية المكلف بإدارة وزارة الصحة بالإعلان عن 9 وفيات، وذلك في مطلع جلسة نيابية طارئة عقدت بعد يوم من وقوع الكارثة.
غير أن كل تلك التصريحات الرسمية لم تأتِ على ذكر الضحايا الذين تأثروا بنقص الأكسجين لمدة ساعتين في المستشفى، سواء من مرضى الفيروس أو الأطفال الخدّج في المستشفى، وأقفل عداد الضحايا، وتفاقم الإصابات عند رقم مقطوع دون زيادة أو نقصان.
هذا، منذ حادثة المستشفى ما زال شاغراً مقعد وزير الصحة الذي استقال متحملاً مسؤوليته الأدبية، ليخلفه بالوكالة وزير الداخلية العميد الفراية. وللعلم، فالتكليف في مبدأ ملء الشواغر الوزارية تقليد أردني مرتبط بموعد التعديل الوزاري، الذي يجب أن يشمل هذه المرة بالإضافة لوزارة الصحة، مقعد وزير العمل الشاغر بعد استقالة القطامين المفاجئة.
- حكومة الخصاونة تكليف استثنائي في ظروف مركبة وأزمات متراكمة
كُلف رئيس الحكومة الأردني بشر الخصاونة بتشكيل الحكومة يوم 27 سبتمبر (أيلول) الماضي بعد انتهاء عمر مجلس النواب الـ18 المقدّر دستورياً بأربع سنوات دستورية، وعشية استقالة حكومة عمر الرزّاز، التي اتخذت قراراً بحل المجلس النيابي.
ويوم 12 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أقسم الخصاونة، ومعه فريقه الوزاري المكون من 31 وزيراً، القسم الدستوري أمام العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بعد أسبوعين من تكليفه، وسط استغراب من طول فترة المشاورات التي قام بها الخصاونة، رغم أن مجلس النواب كان منحلاً.
لقد اعتبرت أولى المهمات التي قام بها الخصاونة إعادة ترتيب القرارات حيال أزمة جائحة «كوفيد - 19»، بعدما أربكت الحكومة السابقة المواطنين بكثرة القرارات المتناقضة، وارتفاع وتيرة النقد الشعبي لإدارة الأزمة الاقتصادية التي رافقت الظروف الصحية في البلاد.
من ناحية أخرى، ذهبت حكومة الخصاونة الجديدة لتسهيل مهمة إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجرت يوم 10 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ودعم جهود الهيئة المستقلة للانتخابات الجهة المخولة بإدارة الانتخابات والإشراف عليها، ما أسفر عن ولادة مجلس نيابي جديد بـ98 نائباً لم يسبق لهم حمل مسؤولية الخدمة في السلطة التشريعية.
وفي أول مواجهة للرئيس الخصاونة، القادم من وظيفة المستشار الأول للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، مع مجلس النواب، في مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، حصد ثقة 88 نائباً بعد «ماراثون» مناقشات استمر على مدى 6 أيام متواصلة. ولم يتعرّض رئيس الوزراء الجديد خلال تلك المناقشات لمضايقات نيابية، بمقدار ما سعى لنيل ثقة لا تشكل عليه أعباء إذا تجاوزت سقف الرقم الآمن بالحدود التي حصل عليها.
بعد تلك الجولة المتعبة، وعلى بعد أقل من شهر تقريباً، دخل الخصاونة في مواجهته الثانية مع المجلس على خلفية مناقشة قانوني الموازنة العامة لسنة 2021، وقانون الوحدات الحكومية. وأكمل النواب مناقشاتهم التي غطتها المطالب الخدمية على حساب مناقشتهم للسياسات المالية، وتوسع أرقام العجز وارتفاع المديونية، ليتجاوز الخصاونة امتحانه الثاني بأقل الأضرار. مع أنه، في العادة، تبقى العلاقة بين السلطتين محفوفة بالتوتر والتصعيد، خصوصاً، مع مزاج نيابي جاء متأثراً بمزاج الشارع السلبي والمحتقن نتيجة الظروف الاقتصادية التي جاءت مصاحبة لأزمة الجائحة التي عطلت قطاعات اقتصادية واسعة.
وأمام انزعاج الخصاونة من رقابة مجلس النواب، التي أمطرت وزراءه بالأسئلة والاستجوابات النيابية، فإنه يمضي ممسكاً بتفاصيل إدارته للملفات التي خبرها إبان عمله سفيراً ووزيراً، قبل جلوسه على الكرسي الأقرب من الملك عبد الله الثاني خلال عمله مستشاراً سياسياً.
لكن الخصاونة، الذي يتابع أداء فريقه الوزاري بدقة، لا يزال يعاني من ضعف بعض أجنحته في الوزارات. وهذا الأمر قد يحتم عليه التوسع في تعديله الوزاري الثالث المرتقب. ومعلوم أن الحكومة تواجه هذه الأيام نقداً شعبياً متزايداً نتيجة الظروف الاقتصادية الخانقة التي يعيشها مواطنون بسبب فقدان وظائفهم، في ظل التوسع في إغلاق القطاعات الاقتصادية، وتعذر توفير مظلات حماية اجتماعية.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.