«أمكنة العقل»... سيرة فكرية جديدة لإدوارد سعيد

تلميذه السابق أستاذ الأدب المقارن تيموثي برينان يرسم صورة مؤثرة لسنواته الأخيرة

تيموثي برينان
تيموثي برينان
TT

«أمكنة العقل»... سيرة فكرية جديدة لإدوارد سعيد

تيموثي برينان
تيموثي برينان

صدرت هذا الشهر (23 مارس - آذار 2021) سيرة فكرية جديدة للراحل إدوارد سعيد، رائد دراسات الاستشراق الجديد، ودراسات ما بعد الكولونيالية التي صارت مبحثاً رئيسياً في الدراسات الأدبية والنقد الأدبي والدراسات الثقافية. اختار مؤلف الكتاب تيموثي برينان Timothy Brennan لكتابه الجديد عنوان «أمكنة العقل... حياة إدوارد سعيد Places of Mind… A Life of Edward Said»، جاء الكتاب في 464 صفحة، وتولت دار نشر فارار، سترواس وغيرو Farrar، Straus and Giroux نشره. وثمة طبعة أخرى من السيرة نشرتها دار بلومزبري Bloomsbury. تيموثي برينان، مؤلف الكتاب، هو أحد الطلبة السابقين لسعيد في جامعة كولومبيا التي عمل فيها أستاذاً للأدب الإنجليزي منذ عام 1963 حتى وفاته متأثراً بسرطان الدم (الليوكيميا) عام 2003. ويعمل برينان في الوقت الحاضر أستاذاً للإنسانيات (الأدب المقارن) في جامعة مينيسوتا الأميركية.
كتب برينان مقدمة وافية للكتاب، أعقبها 12 فصلاً تناول فيها المؤلف المؤثرات الفكرية الأولى التي شكلت شخصية سعيد، وكان سعيد نفسه قد أفاض في بيان هذه المؤثرات المعقدة والمشتبكة في سيرته الذاتية المنشورة تحت عنوان «خارج المكان Out of Place» التي ترجمها فواز طرابلسي إلى العربية. يتناول المؤلف بعد ذلك السيرة الأدبية والثقافية والموسيقية وسنوات التكوين الأكاديمي لإدوارد سعيد التي توجها أستاذاً في جامعة كولومبيا ونشره لكتابه الأشهر عن الاستشراق، ثم تعقب ذلك سنوات الحراك السياسي والفاعلية الشخصية في المشهد السياسي العالمي، ثم ينتهي المؤلف في رسم صورة مؤثرة للسنوات الأخيرة من حياة سعيد التي كان يسابق فيها الزمن لإنجاز بعض من مشروعاته الثقافية المتأخرة والمتراكمة.
يؤكد برينان في مقدمته للكتاب أن سعيد يظل بعد زمان طويل عقب وفاته عام 2003 شريكاً فاعلاً متخيلاً في كثير من جلسات النقاش الحقيقية، وبالنسبة لمن عرفوا سعيد عندما كان حياً فإن نقاشاته المفعمة بالحيوية والإثارة صارت شيئاً باتوا يفتقدونه مثلما يفتقدون شخص سعيد ذاته بعينيه السوداوين الداكنتين، وتعاطفه المشحون على الدوام بالقلق، وروحه المجبولة على المرح والحساسية التي تكاد تقترب من أن تكون حساسية مبالغة في إفراطها.
ترسم السيرة الجديدة صورة مشهدية للروتين اليومي لحياة سعيد خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته، وقد جاءت هذه الصورة القائمة على روتين راكد لا سبيل إلى إبداله أو تغيير أحد عناصره مخالفة لصورة سعيد المعروفة كشخصية عامة مسكونة بحس الحركة الدائمة ودينامية التغيير المفرطة والحماسة في الدفاع عن آرائه ومتبنياته السياسية والثقافية. عاش سعيد معظم حياته الأميركية في شقة بمنطقة مانهاتن النيويوركية، اعتاد النهوض كل يوم عند الخامسة فجراً، ليعمل لمدة ساعة، ثم يمضي في عمل قدحين من الإسبريسو، واحد له، والآخر لزوجته مريم. كان سعيد هو العضو الوحيد في عائلته الذي يُسمَح له بتشغيل جهاز صنع القهوة غالي الثمن، وكان سعيد لا يستخدم في عملها إلا مياهاً معدنية خاصة (علامة Evian أو Volvic!!) ثم يعد طاولة الفطور التي تحتوي عصير برتقال وفطوراً معتبراً، وبعد الفطور ينصرفُ لعمله في الكتابة.
شغلت كتابات سعيد طيفاً فكرياً واسعاً جعلته يتفوق في اهتماماته المعرفية على معظم المثقفين الأميركيين الذي أصابوا شهرة عريضة لدى عامة الناس سواء أكانوا أميركيين أم سواهم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومع أنه عمل أستاذاً للأدب في جامعة كولومبيا معظم حياته فقد تناولت كتاباته الموسيقى، والفن، والتاريخ، والسياسة، وهذا ما جعل منه شخصية إشكالية في المشهد العام؛ فقد رفعته تيارات اليسار السياسي والأدبي إلى مستوى النجم السينمائي واحتفت به أيما احتفاء؛ أما اليمين السياسي فقد واجهه بحملات عداء، وبخاصة بعد أن أفصح عن رؤاه بشأن الكولونيالية الغربية في كتابه الأشهر عن الاستشراق (نُشِرت طبعته الأولى عام 1978). يستفيض برينان في سيرته الجديدة لسعيد في بيان تفاصيل هذه الحيثيات السياسية والأدبية.
تكمنُ فرادة السيرة الجديدة لسعيد في أنها اعتمدت مسودات كثيرة تركها سعيد بعد وفاته، وجعلها ورثته متاحة لبرينان؛ لذا قد لا تكون هذه السيرة موسومة بالجدة في كثير من التفاصيل التي جاءت بها حول سعيد، وربما تكمن الخصيصة الكبرى لها في أنها قرنت التفاصيل التي جاءت بها بوثائق معتمدة، وهذا ما يمنحها مصداقية ترقى بها لتكون أفضل سيرة فكرية كُتِبت عن سعيد، «باستثناء السيرة الذاتية التي كتبها سعيد ذاته».
أرى أن الإعلان غير المسبوق الذي قدّمه برينان في كتابه الجديد بشأن وجود مسودات غير منشورة - لروايتين وقصائد شعرية كتبها سعيد ولم ينشرها – هو الإعلان الأكثر إثارة في هذه السيرة. يؤكدُ برينان منذ البدء رؤية سعيد في أن المثقفين المتفكرين في موضوعات الثقافة في نهاية المطاف أكثر أهمية من المؤلفين (كتاب الروايات والأشعار)؛ فَهُم (المثقفون) القادرون الوحيدون على تغيير برامج العمل (الأجندات) وبالتالي تغيير العالم؛ ولأجل هذا أحجم سعيد عن نشر أعماله الروائية والشعرية فضلاً عن التكتم الشديد عليها وعدم الإفصاح بأي معلومة حولها.
الرواية الأولى مرثية Elegy تتناول ثيمات ثلاثاً، مكتوبة في 70 صفحة، تجري وقائعها في أربعينات القرن العشرين في القاهرة (التي شهدت طفولة سعيد). شرع سعيد في كتابتها عام 1957 عندما كان في الثانية والعشرين من عمره، ويرى برينان أن سعيد كان يصارعُ في هذا الرواية محاولاً إيجاد طريقة متاحة للقراء بمستطاعها توضيح موضوعة محددة، جوهرها «توجد ثقافة مستقلة هي الثقافة العربية، التي استطاعت بنجاحٍ مواجهة ثم مقاومة فرض التأثير الأجنبي على أمكنة مثل القاهرة». أما الرواية الثانية فقد شرع سعيد بكتابتها عام 1987. وهي رواية إثارة سياسية عن الخيانة تجري وقائعها في بيروت عام 1957، وقد وصفها برينان بأنها رواية مليئة بالجاسوسية، وهي تشبه إلى حد بعيد رواية جون لو كاريه، الروائي البريطاني الأشهر على مستوى العالم في ميدان رواية الجاسوسية، الذي توفي عام 2020. تناول سعيد في هذه الرواية المؤامرات السياسية التي تكتنفُ غزواً أميركياً لبيروت، والقوى المختلفة التي تلعبُ أدواراً في تلك العملية.
فيما يتعلق بالشعر يقول برينان إن شعر سعيد كان منقوعاً في المؤثرات العربية، وإن بعض قصائده المكتوبة في خمسينات (القرن العشرين) تعبرُ عن «شعور واضح مضاد للكولونيالية»، وتستكشفُ طبيعة الشعور الذي يحسه المرء عندما يكون «عالقاً بين عالمين». قصائد سعيد الأخرى تبدو غائرة في تفاصيله الشخصية إلى حد بعيد، ومنها – على سبيل المثال - القصيدة الموسومة استحالة ضئيلة Little Transformation، المنشورة للمرة الأولى في صحيفة الأوبزرفر، وقد تمحورت القصيدة على الرؤية المفاجئة في الشعور الغريب والمفعم بالخوف نحو الشخص الذي لطالما كانت لك علاقة حميمة وثقى به، وهو يعبرُ عن الشك الذي ينتابُ المرء تجاه إخلاص المرأة التي يحب.
اكتشف برينان أن سعيد كان «مسكوناً بصورة مطلقة» بشعر جيرارد مانلي هوبكنز Gerard Manley Hopkins، وأنه كان يقرأ الشعر بلا انقطاع لزوجته الثانية. يكتب برينان حول هذا: «أعتقد أن سعيد تطلع نحو الشعر. كان الشعر الذات السرية لسعيد. كانت تلك هي الذات الأكثر تدفقاً ووهناً لسعيد من الذات التي سمح للناس الآخرين برؤيتها».



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.