محمد حافظ رجب.. أديب في طي النسيان

رائد التجريب في القصة القصيرة يرتدي عباءة الثمانين

محمد حافظ رجب
محمد حافظ رجب
TT

محمد حافظ رجب.. أديب في طي النسيان

محمد حافظ رجب
محمد حافظ رجب

رغم ارتدائه عباءة الثمانين فإن صاحب «مخلوقات براد الشاي المغلي» لا تزال عيناه تشعان تحديا.. إنه المبدع السكندري المشاكس محمد حافظ رجب الذي قال عنه أدباء جيله «مبدع الهذيان»، لكن قاموس أكسفورد ذكره كأهم مجدد في القصة القصيرة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
«طارق ليل الظلمات» معتكفا في منزله الصغير الهادئ في حي الورديان الشعبي، وبعيون الطفل المشاغب وابتسامة متهكمة ولا مبالية بعذابات الماضي، لا يزال يصارع الحياة وتقلباتها رغم وعكاته الصحية المتكررة مؤخرا، إذ لم تعد شرايينه تحتمل قسوة الحياة وقد حاصرته الوحدة بعد موت صديقه الروائي إبراهيم أصلان، فقد كانت تؤنسه المراسلات بينهما، ولعل حرص الأديب السكندري منير عتيبة على التواصل معه يخفف قليلا من شعوره الأليم بالتجاهل من قبل وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب.
بدأ حياته الأدبية في ريعان الشباب بعمر 19 عاما يدفعه نزق جارف للتمرد على واقعه كبائع محمصات في محطة الرمل، أمام سينما ستراند ليحطم القوالب الأدبية في الستينات من القرن الماضي، وجوده في ميدان محطة الرمل وسط باعة الجرائد المعدومين والزبائن الأرستقراطيين ولغات وثقافات مختلفة، كان ذلك الخليط حافزا للكتابة عن متناقضات الحياة، «بالنسبة له فن القص يساعده على إخراج الأفكار والانفعالات التي تدور بداخله»، لذلك ستجد كتاباته اعتمدت على الجمل القصيرة غير المترابطة تضج بالصورة كمشاهد سينمائية ثلاثية الأبعاد والموسيقى والفن التشكيلي فيها استشراف لتشيؤ الإنسان وسيطرة التكنولوجيا. لقد كان مواكبا لأفكار الفيلسوف الألماني الكبير هايدجر، وفلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية التي انبثقت في بدايات القرن العشرين معلنة سقوط الرؤية العقلانية للعالم، فكان رجب مواكبا لأفكار هوركاهيمر وماركيوز وأدورنو وهابرماس دون أن يدري! ولا تزال كتاباته تنضح بحداثية هي أقرب إلى ما نراه الآن من القصة القصيرة جدا والقصة «التويترية» في فن القص.
كتب أول قصة له «الجلباب» بدافع أن يخرج عن شرنقة واقعه الأليم، «كانت الكتابة هي السبب في بقائي على قيد الحياة»، ثم كتب لمجلة «أميركا» مقالا بعنوان «وداعا يا أميركا أيتها الحمقاء المطاعة» التي كانت وقتها تؤيد احتلال فرنسا للمغرب، بعدها ألقي القبض عليه والتحقيق معه، قال له الضابط: «لازم مصر تفخر أن فيها بياع بيكتب بالشكل ده»، وأطلق سراحه.
تشكلت ذائقته الأدبية من قراءته النهمة للأدب العالمي، وخصوصا رفاييل ساباتيني، «كنت أحب أقرأ لتشارلز ديكينز وكان يجعلني أضحك بالساعات، وكذلك برنارد شو وديستوفيسكي، كنت أقرأ لعبد الرحمن الخميسي وتعايشت معه بقوة ثم سيطر علَيّ مكسيم جوركي وتملكني ثم تخلصت من هيمنته وتوحدت مرة أخرى مع ذاتي».
أنصفه بعض النقاد حينما وصفوا أسلوبه بأنه «أنضج من جوركي»، ولكنه لم يرَ في ذلك إنصافا، قائلا: «لولا قصصي ما كتب نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل)، فقد تأثر بي والعشرات من بعده كتبوا قصصا ترتدي قبعتي، وما جعلني أشعر بالمرارة والغربة، هو عدم وصول كتاباتي إلى عامة الناس الذين أنا منهم.. لأنها شهادة عن الواقع». وظل يصارع هواجسه، «كنت أعكف كل فترة على تغيير أسلوبي والبحث عن أفكار جديدة حتى أغلق عليهم طريق التقليد».
وقبل تأسيس اتحاد الكتاب، أسس رجب «رابطة أدباء القطر المصري» مع مصور هو زكريا محمد عيسى. يقول: «كنت سكرتير عام رابطة أدباء القطر المصري، أخاطب الأدباء والأعضاء، وراسلنا الصحف واستجابوا لنا. كانت الرابطة تضم عاملا في دكان هريسة (الحلبي)، وعاملا بمطعم (على كيفك) إبراهيم الوردي، ورضوان محمد رضوان، خادم في فندق. كنت أنا القاص الوحيد وكلهم كتّاب أغانٍ»، لم تنجح الرابطة لتعثر ظروف أعضائها، بعدها أنشأ اتحاد الكتاب.
بدأ نجم حافظ رجب في التوهج ومن هنا بدأت متاعبه مع الوسط الثقافي، حيث اتهمه يوسف عز الدين عيسى بأنه سرق منه قصة، ونشرت جريدة القاهرة وقتها تحقيقا كبيرا وقالت إن كليهما نقلناها عن الروسية. تلك العقبة دفعته إلى مسار جديد في فنه القصصي، «حاولت كتابة ما لا يمكن أن يقال إنه منقول أو مسروق، فكنت أغير وأبحث عن صور ومناطق لم يتطرق إليها أحد من قبل». وبروحه المتمردة أسس رابطة أخرى هي «كتاب الطليعة» 1956، كان يكتب ويبيع السجائر في قهوة خواجة يوناني اسمه «فانجلي»، الذي جسده رجب ببراعة في مجموعته القصصية البديعة «مخلوقات براد الشاي المغلي» عام 1979، تصور معاناته مع صاحب القهوة اليوناني، يقول: «(فانجلي) جعلني أكتب عن عبيد الواقع، عبرت عن قهر الإنسان المصري والأجانب عبدة الأموال».
تميز رجب بأسلوبه السريالي والشخوص والعوالم الغرائبية المنسلخة من الواقع الإنساني، ففي مجموعته القصصية الأولى «غرباء 1968» كانت بوادر التجديد واضحة في قصص مثل «المدية» و«جداران ونصف». وفي نفس العام صدرت مجموعته القصصية «الكرة ورأس الرجل»، وهو عنوان القصة التي نشرها في مجلة القصة برئاسة محمود تيمور، فجاءت المجموعة تضم روائع أدبية، منها «الكرة ورأس الرجل»، «مارش الحزن»، «الثور الذي ذبح الرجل»، و«حديث بائع مكسور القلب». وفي ذلك الوقت سانده الأديب الكبير يحيى حقي ونشر له عددا من قصصه في مجلة «المجلة.. سجل الثقافة الرفيعة»، وكتب عنه: «لقد التقيت بفنان يسبق زمانه، تجده يمسك القلم كريشة في مهب الريح، إنه غير من شكل ومضمون وأسلوب ومضمون القصة»، كما قدم له مجموعة «عيش وملح» مع خمسة من كتّاب جيله في الستينات.
وظهر أيضا يوسف السباعي مصادفة في حياة رجب، وكان لهذه المقابلة أثر في تغيير مسار حياته المهترئة في الإسكندرية، يقول: «اعتبر لقائي به التحطيم الأول لإرادة إنسان أراد أن يكون.. فقد عرضت عليه كتاباتي لم يهتم بها في البداية، ثم التقيته في فندق فلسطين بالإسكندرية وطلبت منه العمل، وحكم علي بالعمل كموظف في أرشيف المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب براتب يكاد يكفي للفرار من وحشية والدي، لكن قبلت ذلك لكي أؤمن وجودي بالقاهرة». استسلم رجب للمسار الجديد الذي رسمه له السباعي، وكان يوزع الملفات على الموظفين ويعود لجمعها رغم إبداعاته الأدبية! وهو الأمر الذي لا يزال يؤلمه كثيرا، «وجدت أدباء يدورون في فلك يوسف السباعي، وآخرين أصبحوا عبيدا للنظام الحاكم، وأنا لم أكن أيا من الفريقين».
«نحن جيل بلا أساتذة»، مقولته الشهيرة التي تسببت في عداء الوسط الثقافي له، دفعت نجيب محفوظ لأن يقول له: «ما الذي دفعك لتكتب السريالية؟ وكيف تقول نحن جيل بلا أساتذة؟! توفيق الحكيم أستاذ الكل، وأنا أستاذي سلامة موسى».
يمثل حافظ رجب ظاهرة أدبية في تنوعه وتغييره لأساليبه وصوته القصصي بنعومة فكان أحيانا ما يلجأ إلى الرمزية والواقعية السحرية، ورغم تكراره لرموز معينة كـ«المُدية» و«الرأس»، و«العظام» فإنه كان يكسيها مدلولا مختلفا وجديدا، فالقصة عنده «نحت وتشكيل وبحث في الأعماق، القصة تعطيني سرها، فتخرج من داخلي مشاعر الشعور بالغبطة والصراع والانفجار، لذا هي لم تأخذ شكل السرد التقليدي، والمشاهد الوحشية هي نتيجة ما عايشته من عنف قاهر.. فالوحشية هنا كانت بحثا عن الحل والاستقرار النفسي».
ترجمت أعمال صاحب «الكرة ورأس الرجل» إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وقد قام المترجم الدكتور محمود المنزلاوي بترجمة أعماله، وكذلك هشام مطاوع الذي قدم رسالة دكتوراه عنه وعن كاتب ألماني يكتب بأسلوب مماثل لرجب.
يتابع صاحب «طحالب رمادية سلاحف تئز» الإنتاج الثقافي الآني وكتابات الشباب، لكنه يقول عنهم: «شباب ماحق لم يعرف نقطة الارتكاز.. عندهم ضياع مع (بجاحة).. يرفعون شعار (الغموض هو الحل)، والكل ينصّب نفسه كاتبا وفيلسوفا.. في الحقيقة لا يضيفون شيئا!».
وعن غواية الكتابة وتأثير ثورة يناير 2011 على طبيعته المتمردة، وهو الذي كان مدافعا عن ثورة الضباط الأحرار 1952 ويحث الجموع الشعبية على مساندتهم، قال: «كنت مراقبا وكفى.. وجدت تلقائية الشارع المصري في النزول إلى الشارع وشعرت حقا بالثورة، في 1952 كانت ثورة حظ، أما ثورة يناير فكانت ثورة حق، ولكنها تفتقد القائد والتنظيم والكاتب الثوري الذي (يزغد) الثوار ليفيقوا من غيبوبتهم».
ولا يتوقع صاحب «ظل الحرب.. الألم القبيح» أن تحدث ثورة في الأدب أو انبثاق أدب مغاير لأنه يجد «البشر أصبحوا أسوأ».
لا تزال النزعة الصوفية مسيطرة على صاحب «النبي والبوذية وأهل بيافرا» رغم أنها لم تظهر إلا في قصة واحدة، فعلى مدار 50 عاما عاش حافظ رجب زاهدا متصوفا متقربا إلى الله، ودائما ما يقول: «هو الباقي وهو الحقيقة والخلاص، ولكن علاقتنا لا يمكن التعبير عنها بأشكال الكتابة».
توقف حافظ رجب عن الكتابة منذ 4 سنوات، لكن لديه في جعبته قصصا كثيرة لم تُنشر بعد، وسيرته الذاتية بعنوان «مقاطع من سيرة ميم في سطور»، وبعض اليوميات التي لم تنشر. يبدأ حافظ رجب يومه باكرا مع آذان الفجر، ثم يتابع النشرات الإخبارية، لكنه لا يقرأ الجرائد ومنعها من المنزل.
وفي عام 2011 صدرت «الأعمال الكاملة لمحمد حافظ رجب» عن «دار العين»، وإذا قرأت له أيا من قصصه ستصاب بدهشة كبيرة ممزوجة بالألم أحيانا جراء دقته في تصوير معاني الجوع والقهر المجتمعي والوحشية، بل إنك ستتجرع معاني الحزن.. ورغم ذلك لم يحظَ بقدر كافٍ من التكريم، اللهم إلا جائزة أفضل قاص من اتحاد الكتاب عام 2007 واحتفاء مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية به عام 2012 كرائد التجديد في القصة العربية بمؤتمر وكتيب عنه، والآن يسعى للحصول على منحة من وزارة الثقافة لإعانته على نفقات العلاج، لكن تغيير وزير الثقافة حال دون ذلك، فهل تلبي وزارة الثقافة احتياجات رائد التجديد في القصة القصيرة أم أنها كعادتها ستتخلى عنه كسابق عهودها؟!



بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر
TT

بول أوستر... رحيل صاحب «ثلاثية نيويورك»

بول أوستر
بول أوستر

توفي مساء أول من أمس (الثلاثاء) الروائي الأميركي بول أوستر عن 77 عاماً في نيويورك، التي ارتبط كثير من أعماله باسمها ومن بينها سلسلته الشهيرة «ذي نيويورك تريلوجي» (ثلاثية نيويورك).

وربما يكون أوستر هو الروائي الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي الأميركي والأوروبي في السنوات العشرين الأخيرة. وقد عُرف عالمياً أيضاً على نطاق واسع، فقد تُرجمت رواياته إلى 40 لغة، ومن بينها العربية التي تُرجمت إليها غالبية أعماله، ومنها: «حماقات بروكلين»، و«في بلد الأشياء الأخيرة»، و«قصر القمر»، و«اختراع العزلة» و «ثلاثية نيويورك»، من ضمن أعمال أخرى.

وتتوزع كتاباته الروائية وغير الروائية بين موضوعين مركزيين: الوحدة والعنف.

وهذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً، حيث وجد نفسه أكثر. وكانت الكتابة بالنسبة إليه متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، وشعوره الدائم بالوحدة، فقد نشأ مفتقداً وجود الأب، وكتب عن ذلك في مذكراته «اختراع الوحدة»، الصادرة عام 1982. وانعكس هذا الشعور في معظم أعماله اللاحقة.

وحظي بول أوستر بتقدير خاص في فرنسا التي كان يعدّها «بلده الثاني»، وحصل فيها على جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية عن كتابه عن «ليفياثان» عام 1993.


رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر
TT

رحيل بول أوستر... الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي

بول أوستر
بول أوستر

تتوزع كتابات بول أوستر، الذي رحل أول من أمس عن 77 عاماً بعد صراع طويل مع مرض السرطان، بين ثيمتين كبريين في أعماله الروائية وغير الروائية؛ هما الوحدة والعنف، اللذان يترابطان معاً، ويقود أحدهما للآخر، ويتبادلان أدوارهما ونتائجهما.

هذان الموضوعان انغرسا فيه منذ انطلاقته الأولى، شاعراً، ثم كاتب سيناريو، ومترجماً، وأخيراً روائياً؛ حيث وجد نفسه أكثر: «لم يكن أمامي أي خيار آخر، سوى أن أكتب، وأن أكرّس كل حياتي للكتابة»، كما قال مرة في إحدى المقابلات معه. كانت الكتابة متعته الكبرى، وربما وسيلة هربه الوحيدة من تهميش المجتمع الأميركي، ومن شعوره الدائم بالوحدة. لكن الكتابة هي أيضاً لعنته، كما يقول في الحوار نفسه.

من هنا اكتسب أوستر شعوراً مأساوياً بالحياة، ومن هنا أيضاً يمكن أن نطلق عليه «الضمير المأساوي للمجتمع الأميركي»، كما عبّر عن ذلك في أعماله، التي تجاوزت الثلاثين عملاً.

كاتب حياة

يصنف بعض النقاد أوستر ضمن روائيي «ما بعد الحداثة»، وآخرون يدرجونه تحت تيار التفكيكية، ويتحدثون عن أثر جاك دريدا علية فكرياً بعدما عاش أوستر بعض السنوات في فرنسا واطلع من كثب على كتابات دريدا. ويذهب البعض الآخر إلى تصنيف رواياته على أنها «روايات بوليسية». لكن أوستر ليس معنياً بذلك، بل على العكس يتحدث عن تأثير لويس بورخيس وديكنز وأميلي برونتي وتولستوي عليه، إضافة إلى الحكايات الأميركية الشعبية.

لا تنظير «ولا صفحات ذهنية أو فكرية» نعثر عليها في كتاباته، وإذا وردت هنا وهناك فهي تأتي ضمن نسيجه الروائي المحكم. صحيح أن هناك عناصر في بعض رواياته يمكن نسبتها إلى «الرواية البوليسية»، لكنها ليست العنصر الرئيسي، بل هي شكل روائي يقود إلى أبعد منه. أوستر كاتب حياة أولاً وأخيراً، كأي روائي كبير آخر..

غلاف رواية «بومغارتنر» لأوستر

في مذكراته «اختراع العزلة»، الصادرة عام 1982، وهي أول كتبه في هذا المجال، يتحدث أوستر عن بداية حياته بوصفه ابناً لأب غائب دائماً. والكتاب مليء بذلك الشعور الذي سينعكس في كل أعماله الروائية وغير الروائية: الحزن، والشعور بالفقدان، والوحدة، والضمير الشقي.

غصة الثلاثية

ولعل ثلاثيته، المكونة من «مدينة الزجاج» و«الأشباح» و«الغرفة الموصدة»، التي ارتبط اسمه بها، أكثر من أي عمل آخر، هي أكثر أعماله التي تعكس الثيمتين اللتين شغلتاه طوال حياته، وهما كما أشرنا: الوحدة والعنف.

عمل أوستر على الجزء الأول من الثلاثية عام 1981 ثم أعاد كتابة مسرحية له أنجزها قبل سنوات، ليحولها إلى جزء ثانٍ، ليلحقهما بجزء ثالث. ويبرر ذلك بقوله إن موضوع المسرحية الأولى والقسمين اللاحقين، هو موضوع واحد: الغموض، وكيفية تعلم العيش مع الغموض وعدم اليقين، وهذا هو جوهر «الثلاثية» كلها.

لماذا اعتبرت هذه الثلاثية أهم أعماله واشتهرت أكثر من غيرها، حتى إن خبر رحيله في أغلب الصحف العالمية ورد مقروناً بها؟

يشعر أوستر، كما يشعر كثيرون حين تقترن أسماؤهم بعمل واحد، بالغصة، وهو لا يعرف كيف يفسر ذلك، ويلقي اللوم على الصحافيين الذين يسارعون إلى وصف العمل الذي عرف اهتماماً ما من القراء بأنه أهم عمل للكاتب.

غلاف رواية «4321» لأوستر

في عمله الثاني «قصر القمر»، الصادر عام 1989، يعود أوستر إلى ما طرحه في كتابه «اختراع العزلة»: شخصية منعزلة يبحث عن أب غائب، وكل محاولاته مصيرها الفشل؛ إذ يهاجر ستانلي فوغ من نيويورك ليتعقب ماضي عائلة في رحلة ذات مواقف كوميدية لا تفضي إلى شيء.

تتكرر ثيمة الوحدة والعزلة والبحث عن المجهول في رواية «كتاب الأوهام»، الصادرة عام 2002، بل إن شخصية ديفيد زيمر، التي كانت قد ظهرت في رواية «قصر القمر» وإن بشكل سريع، تعاود الظهور في الرواية الجديدة بوصفها شخصية رئيسية. إنه يعاني الوحدة، ونوعاً من التدمير الذاتي بعدما فقد عائلته في تحطم طائرة. ثم يصبح ممسوساً بشخصية هكتور مان، وهو ممثل اختفى قبل عقود، واعتبر ميتاً. ولكن بعدما كتب عنه، تسلم زيمر رسالة تفيد بأن بطله لا يزال حياً يرزق، وهكذا يتهاوى عالمه كله.

أما رواية «حمقى بروكلين»، الصادرة عام 2005، فتأتي كأنها نبوءة لمصير أوستر نفسه: رجل مصاب بالسرطان، يبحث عن مكان هادئ ليموت فيه، حتى يلتقي شخصاً يسبب له أزمة وجودية شديدة.

«4321»... رواية التتويج

وفي عام 2017، أصدر أوستر رواية «4321»، التي يمكن عدّها تتويجاً لمعظم أعماله. وهي رواية مركبة، خلط فيها أوستر أشكالاً سردية عدة بحرفية عالية، ولغة ظل طوال حياته يصقلها ويصفيها، فقد كانت اللغة عنصراً جوهرياً في أي عمل أدبي، وأحد مشاغله الأساسية، وينبغي أن تكون محل اهتمام أي روائي يريد أن يقدم أعمالاً جديرة بالبقاء.

وكان كتاب أوستر الأخير عملاً غير روائي، حول العنف في أميركا وقد صدر عام 2021 بعنوان «الشعب الدموي». وكان الزميل الدكتور سعد البازعي قد استعرض هذا الكتاب في هذه الصفحة حين صدوره، وترجم الكتاب لاحقاً أيضاً، وهو «توثيق للعنف وتأملات تحليلية حول جذوره وأسبابه ومآلاته»، وحلّل «أبعاد النزاع الدموي الذي ظلل التاريخ الأميركي منذ بداية الاستيطان حتى أيامنا هذه».

والحقيقة، أن أوستر قد دخل ذلك النفق الرهيب قبل سنتين من رحيله، وحينها كتبت زوجته:

«أعتقد أنه سيكون أمراً فظيعاً أن تكون وحيداً في (أرض السرطان)، العيش مع شخص مصاب بالسرطان يتعاطى العلاج الكيميائي والمناعي، هو مغامرة في القرب والابتعاد. يجب أن يكون الشخص قريباً بما فيه الكفاية ليشعر بالعلاجات التي تنهك جسد المريض كما لو أنه هو المعني بتعاطيها، وفي الوقت نفسه يكون بعيداً بما فيه الكفاية ليتمكن من تقديم المساعدة الحقيقية. فالشفقة الزائدة قد تشعر المريض بأنه عديم الفائدة! ليس من السهل دائماً القيام بهذه المهمة الحساسة».


سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك
TT

سلافوي جيجك: إنشاء دولة يهودية هو وضع نهاية لليهودية كدينٍ

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

يكتب سلافوي جيجك في كلّ شيء، وعن كلّ شيء، يتحمّل كلَّ التُهم التي تجعله منعوتاً بالخروج عن السياق، وفيلسوفاً أنزل الفلسفة إلى درك اليومي، وجرّدها من أسلحتها المتعالية، وعرّض الأفكار إلى سوء الظن دائماً.

اشتغل في السياسة بوازعٍ من شهوة المزاج الشخصي، والشغف بالمغامرة، مثلما اشتغل بالآيديولوجيا من منطلق أوهام الشيوعي المتمرد الذي لا يثق كثيراً ببداهات الصراع الطبقي، وكراهية الرأسمالية، حتى بدا وكأنه يصدّق حكايات الساحر الأغريقي الذي يؤمن بالنهايات الميتافيزقية للعالم، كما اشتغل في علم النفس بوصفه ممارسات في التطهير والاعتراف، وفي تخفيف حدّة التوتر الليبدوي، فعمد إلى استعارة كل الأدوات العيادية من جاك لاكان لكي يعرف أن هذا العلم المخادع يربط بين أزمة الجنس وأزمات الكينونة والجسد والثورة، ويسوّغ الحديث عن المخفي من أخطاء الحروب والديكتاتوريات والعنف، وتحت يافطة أن العيادي هو أنموذج الكائن الغربي، الذي يعاني من أمراض طبقية وسياسية وجنسية ووجودية، وأن علاقته بالعيادة تتحوّل إلى مجال للاعتراف، وللتنفيس عن طاقات مكبوتة، رغم معرفته بأن الكائن الواعي هو الوحيد الذي يمكنه ممارسة الكبت، والعيش مع التباسات اللاوعي الجمعي، وربما يخضع له، بوصفه توهماً بحيازة سلطة الإخفاء، وهي سلطة غير مرئية...

حميد دباشي

لكن الأخطر في اشتغالات جيجك هو شعبويته، وربما استعراضيته، فكثيراً ما يدعونا إلى ممارسات سقراطية، يجعل من الشارع منصته، ومن الحكمة خطاباً يومياً، ومن السياسة مجالاً للسخرية، ومن النكتة والكاريكاتير عتبات رمزية لفضح «المسكوت عنه» في الحروب القبيحة، وفي السياسات الأكثر قبحاً، ولإدانة ما يسمى بـ«المجتمع الدولي» وتعرية انتهازيته، وسكوته عن الأخطاء الكبرى التي تقود العالم إلى الكارثة، حيث يواصل سؤاله النقدي مع رعب العالم إزاء الخراب الآيكولوجي، فتبدو كتابته عن هذا الملف أشبه بالبحث عن شفرات للتطهير، بالمعنى الأخلاقي، أو المعنى الثقافي أو المؤسساتي، أو حتى المعنى «الشوارعي».

فهو يؤمن بأن تحديات «التلوث» و«النفايات» يمكنها أن تُدمّر العالم أكثر من الدمار النووي، وبهذا يسعى إلى تكريس شعبويته عبر اصطناع المزيد من المنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يكون فيها سقراطياً، خطيباً آيكولوجياً، واعظاً بضرورة حماية المناخ والبيئة ومواجهة الاحتباس الحراري، ومنع صناعة الأسلحة النووية، والدعوة إلى الطاقة الخضراء، بوصفها طاقةً أكثر إنسانيةً، وصالحة لجعل الإنسان يثق بالطبيعة. فالحرب البيولوجية قد تكون هي الحرب المقبلة، إن كانت على شكل جائحة «كوفيد - 19»، أو عبر مظاهر المناخ المُهدد بالتلوث وتغوّل درجات الحرارة، أو عبر مظاهر استشراء العنف الداخلي للجماعات الهامشية، أو عبر احتجاجات شعبيّة ومنازعات اجتماعيّة وآيديولوجية في جميع أنحاء العالم، قد تترافق معها بوادر «حرب باردة جديدة».

إدوارد سعيد

هذا العنف، أو صورة الحرب المُهدِدة ليست بعيدةً عن الصراع السياسي الدولي، ولا عن طبيعة إعادة إنتاج «الثقافات المتعالية». فجيجك يتحدث عن علاقة العنف والكراهية بالآيديولوجيا، ومن منطلق الفكرة التي تؤكد على هوية ما تُنتجه «المركزية الأوروبية» في مختبراتها الآيديولوجية، وتمثلاتها في صيانة أنموذجها المتداول، عبر توصيفه كمواطن عالمي، وتوصيف قوته المسؤولة عن صناعة الحضارة والمستقبل. وعلى الآخرين أن يصدّقوا هذه الحكاية التي لم تكن بعيدةً عن تاريخ الفلسفة الأوروبية، فكانط كان عنصرياً في عديد أفكاره حول «اللون والمكان» وهيغل كان يؤمن بـ«المواطن الأوروبي» ونيتشه كان يضع إنسانه المتعالي نظيراً لهذا المواطن، وحتى هيدغر الفينومينولوجي أعطى للأوربة توصيفاً يربطها بالحضارة، وأن الغرب الذي يملك القوة، يمكنه أن يجعل المعرفة جزءاً من مفهوم الحضارة، ومن القوة المندفعة نحو السيطرة على العالم.

وأحسب أن مواقف جيجك من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحتى موقفه إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليست بعيدة عن سرائر تلك النزعة المركزية، وعن حساسيتها، وربما عن قلقه إزاء طبيعة المتغيرات التي يمكن أن تتضخم مع تلك الصراعات، والتحوّل إلى مهددات، وإلى أشكال معقدة لسرديات حروب لم يتحمّلها الأوروبي، صانع المتعاليات الاستشراقية.

أزمة الأوروبي مع المركزية ليست بعيدةً عن علاقته بذاكرة الخطيئة، وأن دفاعه المستميت عنها يقوده دائماً إلى ذاكرة التطهير، وإلى ما أسسته من أوهام ميتافيزقية، وأحسب أن هذا هو ما دفع الكاتب الأميركي حميد دباشي إلى السخرية من هذه المركزية بالقول: «يعاني الأوربيون من النزعة الأوروبية قطعاً، كما أن الملا نصر الدين ظنّ بأن الموقع الذي ثبّت فيه لجام بغلته هو مركز الكون» (حميد دباشي/ هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟).

حديث المركزية الأوروبية، أو الغربية بمعنى أدق فتح أفقاً لحديث يتعلق بنقد الاستشراق، ولطبيعة ما يُثيره من أسئلة جديدة، تتجاوز نظرات إدوارد سعيد وفرانز فانون وغاياتري سبيفاك وغيرهم، ليس لأن «الاستشراق» خطاب زمني وتاريخي، بل لأن ما جرى ويجري جعل من الاستشراق قاصراً عن توصيف الصراع، والدفع باتجاه مراجعة أكثر شمولاً لمفاهيم معقدة مثل العولمة والأمركة والهيمنة، وهي ممارسات سياسية واقتصادية وآيديولوجية، تنطلق من فكرة المركزية، وتؤسس لها أجهزة صيانية تقوم على العنف والاغتيال، وعلى العقوبات، وعلى استنزاف الثروات، مثلما تقوم على المركزية المعلوماتية والإعلامية، وعلى تخليق «صور ذهنية» عن تلك المفاهيم، بوصفها جزءاً من الصور الذهنية عن سيطرة المتعالي.

أكد حميد دباشي هذا الأمر، عبر نقد تلك الأطروحات بالقول «إن ما يوحّد كلاً من جيجك وليفيناس وكانط هي فلسفة التعميم الذاتية، فهي تستند عندهم دائماً على نفي قدرة الآخرين على التفكير النقدي أو الإبداعي من خلال تمكين وتفويض وتخويل أنفسهم للتفكير بالنيابة عن العالم» (الفيلسوف سلافوي جيجك والقضية الفلسطينية - جعفر هادي حسن).

آراء حميد دباشي أثارت عصفاً فكرياً حول «المركزية الأوروبية» دعت سلافوي جيجك إلى الرد العنيف، بقوله «إن دباشي يريد فتح موضوع قديم، جديد، وهو إشكالية مركزية العقل الأوروبي» (علي سعيد: دباشي وجيجك والسؤال المستفز: هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟) وكأنه بهذا الرد يرفض القبول بوجهات نظرات «الشرق» الساخط على مركزية الغرب، وعلى أنموذجه الأوروبي.

تظل مراجعة فكرة المركزية الأوروبية موضوعاً إشكالياً، لأن مجادلتها ليست خاضعة بالضرورة إلى قياس قهري محكوم بعقدة المتعالي التاريخي، بل يتطلب الأمر وضعها في سياق ظروفها التاريخية، ومقاربتها من منطلق تمثيل الثنائية الملتبسة لـ«الأنا والآخر» بوصف الآخر جزءاً من تلك المركزية، ويملك تاريخاً ضاغطاً علينا، بدءاً من حروبه الصليبية، إلى حروبه التبشيرية، إلى حربه الآركيولوجية من خلال حملات الآثار في عدد من البلدان الشرقية، وصولاً إلى حقبة الاستعمار والاحتلال وما رافقها من عنف وتطهير إثني وهوياتي، وليس انتهاءً بفرضية الهيمنة الثقافية عبر الجغرافيا السياسية والاقتصادات التابعة والاستشراق بأقنعته المتعددة.

كما أن «الأنا» ليست بريئةً، وليست هي الضحية دائماً، فبقدر رثاثتها التاريخية وضعف أدواتها، وتشظي هويها، فإنها بدت أكثر التباساً في إطار أنساق حاكمة، صنعها الآخر أيضاً، وفرضها في سياق التداول كموجهات لتوصيف هامشية «الأنا» وعزلتها، عبر تأطيرها في اختراعات جيوسياسية مثل «العالم الثالث، الشرق الأوسط، الشرق الإسلامي، الدول النامية».

العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضاً يحتاج فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد

العالم ليس بريئاً

صحيح أن العالم لم يعد بحاجة إلى فلاسفة يفكرون على طريقة إيمانويل كانط، لكنه أيضا بحاجة إلى فلاسفة يفكرون بطريقة جيجك ودباشي وإدوارد سعيد، ليس لحساب تقعيد التفكير الثوري، بل لجعل «اللابراءة» مُحرضاً على التمرد، وعلى مواجهة تضخم الأقوياء من الذين يُفكّرون بصناعة «المراكز» المُستَبدة.

الجدل هو البراءة يتحمل مراجعات مفتوحة، منها ما يتعلّق بمناقشة المركزيات، والموقف من القضايا الإشكالية، مثل الموقف من «السامية» التي جعلها «العقل الصهيوني» أشبه بـ«الخطيئة الكبرى» لتسويق مفاهيم عن العنف والكراهية، وعن التعالق المريب بين التاريخ والأسطورة، فعبر «معاداة السامية» يتحول العالم إلى عدو، كما يدّعي الصهاينة، مثلما يتحول الموقف من العدالة إلى موقف آيديولوجي، يرتهن إلى حساسيات جعلها الغرب جزءاً من سياساته المركزية، في العلاقة مع الآخر، بوصف كيان إسرائيل أنموذجاً كنائياً لـ«النموذج الغربي» بقطع النظر عن عنصريته، وعن تقاطعه مع تاريخية فكرة «المواطن العالمي» التي تحدث عنه كانط.

أنموذج «الدولة اليهودية» هو تأكد على فقدان البراءة، وتجريد العالم من تنوعه، فدعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لليهود في فرنسا إلى المجىء لكيانه هو تكريس لمفهوم الدولة الدينية التي ستجعل من حروب المستقبل حروباً دينية ولا علاقة لها بالاقتصاد والجغرافيا والسياسة، وعبر استعارة تاريخية تنطلق من فكرة الانحياز إلى الضحية المثيولوجية، رغم شكوك جيجك حول الاعتماد على «صورة اليهود كضحايا في سبيل إضفاء الشرعية على سياسة القوّة الخاصة بها، فضلاً عن إدانة مُنتقديها باعتبارهم مُناصرين خفيين للهولوكوست، وأن اليهود أخذوا الأرض من الفلسطينيين، وليس من أولئك الذين كانوا السبب في معاناتهم؛ أولئك المدينين لهم بالتعويضات». (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).

أطروحات جيجك حول «لا براءة العالم» تجد في قضية الكراهية والعنصرية موضوعاً مهماً لمواجهة تضخم الآيديولوجيا العنصرية، إذ يربط بين هذا التضخم والعنف، ليدين من خلالها شكل «الدولة الدينية» ذي المواصفات الإسرائيلية بالقول «إن إنشاء دولة يهودية، يعني وضع نهاية لليهودية كدين، لذلك كان النازيون يؤيدون هذه الفكرة. وأن إنشاء هذه الدولة، في رأيه، يناقض التسامح، بل يعني كرهاً للآخرين، ويعني أيضاً التمسك بعنصرية خالصة» (سلافوي جيجك: الصهيونية.. إلى أين؟).


دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
TT

دمى طينية من موقع مليحة في إمارة الشارقة

ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين
ثلاثة مجسمات من موقع مليحة في الشارقة يقاربها مجسم من موقع الدفي السعودي وآخر من موقع قلعة البحرين

يضم مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة كبيرة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، منها مجسمات صُنعت من الطين المحروق وصلت بشكل مجتزأ للأسف. تتبع هذه القطع بشكل عام تقليداً جامعاً تظهر شواهده في نواحٍ عدة من ساحل الخليج العربي، غير أنها تتميز بطابع خاص يظهر في بعض عناصرها المكوّنة.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ، منها موقع مليحة الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كيلومتراً إلى الشرق من مدينة الشارقة. من هذا الموقع خرجت سلسلة من القطع الفنية تشهد لتعددية مدهشة في الأساليب الفنية، تشابه تنوعها ما نراه في مواقع عدة من البحرين، كما في جزيرة فيلكا الكويتية، وموقعَي قرية الفاو وثاج في المملكة العربية السعودية.

على مقربة من قبر دائري ضخم يعود تاريخه إلى العصر البرونزي ويُعرف بضريح أم النار، افتتح في عام 2016 مركز مليحة للآثار، وشكّل هذا المركز خير دليل للتعريف بتاريخ هذه الناحية من الخليج، من خلال ما يعرضه من مقتنيات، وما يقيمه من عروض وجولات إلى المناطق الأثرية المحيطة به. يحتفظ هذا المركز بمجموعة صغيرة من المجسمات الآدمية المصنوعة من الطين المحروق، تشهد لحضور هذا التقليد الفني في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة العربية. تتمثل هذه المجموعة بعدد محدود من القطع التي تُعرف عادة بالدمى، لم يصل أي منها بشكل كامل للأسف.

في هذا الميدان، تبرز قطعة فقدت كما يبدو الجزء الأسفل من تكوينها، وباتت أشبه بمجسّم يحضر على شكل تمثال نصفي يبلغ طوله 13 سنتمتراً، وعرضه 13.5 سنتمتر.

يمثّل هذا المجسّم رجلاً في وضعية ثابتة، يعتمر ما يشبه قلنسوة تلتف حول رأسه على شكل عمامة مسطّحة تخلو من أي ثنية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريض، وتتحدّد ملامح وجهه الناتئة في كتلة بيضاوية ملساء. العينان حدقتان دائريتان واسعتان، تتميزان بحجمهما الضخم قياساً للأنف الذي يستقر بينهما على شكل مساحة مستطيلة مجردة، غاب عنها أي أثر للغضاريف وللمنخارين. تبدو الأذنان صغيرتين ومنمنمتين قياساً إلى العينين الضخمتين، وتتشكّل كل منهما من مساحة نصف دائرية تخلو من أي تجويف. الفم ممحو، وينحصر في شق أفقي بسيط يستقل في أسفل مساحة الأنف العمودية. الصدر مستطيل وطويل. الكتفان منحنيتان ومقوستان، والذراعان منسدلتان ومتصلتان بالصدر، وهما مبتورتان بسبب ضياع الجزء الأسفل من تكوينهما. تصل الذراع اليمنى حتى حدود المِرْفق، وتكشف عن حركة طفيفة في اتجاه الذراع اليسرى التي فقدت معصمها ويدها.

تتكرّر صورة هذا الرجل المعمم في قطعة أخرى تتميّز بوضعيّة غير مألوفة. تحضر القامة ممدّدة أفقيّاً، وهي تحني ذراعها اليمنى في اتجاه حوض الصدر، كاشفة عن مساحة فارعة تفصل بينها وبين الخاصرة. الذراع اليسرى مفقودة للأسف، وتوحي حركة البدن بأن صاحبها كان مستلقياً عليها. البدن خالٍ من أي ملامح تشريحية، وساقاه ممددتان أفقياً، مع شق غائر يفصل بينهما. القدمان مفقودتان، وتوحي حركة الركبتين الملتصقتين بأنهما كانتا ملتفتين. وصل الرأس بشكل مستقل كما يبدو، وأعيد جمعه بجسده، كما يكشف الشق الظاهر الذي يفصل العنق عن وسط الكتفين. العينان حلقتان واسعتان ناتئتان تحتلان الجزء الأكبر من مساحة الوجه الدائري، وتتميّز كلّ منهما بتجويف دائري يشير إلى بؤبؤ الحدقة. الثغر بسيط، وينحصر كذلك في شق أفقي قصير. الأذنان موازيتان للعينين، وتتكوّن كل منهما من نصف أسطوانة يتصل أعلاها بالعمامة المسطّحة التي تكلّل هامة الرأس.

يحضر هذا الوجه مستقلّاً في قطعة أخرى غابت عنها هذه القلنسوة. تحضر العينان الشاسعتان مرة أخرى، وهما هنا مسطّحتان ومحدّدتان بخط بسيط غائر. يذوب الأنف في كتلة الطين حتى الغياب، ويظهر الثغر على شكل شق هلالي أفقي يرسم ابتسامة بسيطة تضفي على الوجه طابع البراءة واللطف. شق العنق واضح، ويوحي بأن هذا الوجه يعود إلى جسد ضاع، لم يظهر منه أثر آخر إلى اليوم.

تعود هذه القطع الثلاث، بحسب أهل الاختصاص، إلى القرن الميلادي الأول، وتُشابه في تكوينها مجسّمات عُثر عليها في نواحٍ أخرى من ساحل الخليج العربي، وهي من نتاج مرحلة طويلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني الميلادي. من هذه المواقع على سبيل المثال، يحضر موقع الدفي الأثري الذي يقع في شمال مدينة الجبيل، شرق المملكة العربية السعودية. من هذا الموقع السعودي، خرجت دمية آدمية ذات رقبة عريضة وطويلة، يعلوها رأس بيضاوي حافظ على ملامحه بشكل جلي.

كشفت أعمال التنقيب المستمرة في الإمارات عن مواقع أثرية متعددة ضاربة في التاريخ

العينان قرصان دائريان كبيران يتميزان بضخامتهما، وهما ناتئان، ويحوي كل منهما قرصاً يمثّل البؤبؤ، تبعاً لطراز يماثل كما يبدو الطراز الذي اتبع في تجسيم دمية مليحة المستلقية. يعلو هاتين العينين الشاخصتين شريطان أفقيان يشكلان معاً حاجبين متصلين. عند نقطة التقاء هذين الحاجبين، ينسدل أنف عريض يفصل بين قرصي العينين، وتظهر عند أسفل هذا الأنف سمات المنخارين المحددة بشكل طفيف. الفم ناتئ، وهو مكون من شفتين واسعتين يفصل بينهما شق أفقي بسيط. الوجنتان ممتلئتان، والجبين غائب على ما يبدو، وكذلك الذقن التي تختفي عند حدود ما دون الفم، في أسفل هذا الوجه.

من جهة أخرى، تشابه دمى مليحة في تكوينها دمية أنثوية محفوظة في متحف البحرين الوطني، مصدرها موقع قلعة البحرين. فقد هذا المجسم يديه عند أعلى المرفقين، كما فقد النصف الأسفل مما يلي الحوض، وحافظ على رأسه. يحضر وجه هذا الرأس بقوة، وتتجلى هذه القوة في عينين ضخمتين جاحظتين، حُدّدت أجفان كل منهما بقوسين معاكسين غائرين. وسط كل من هاتين العينين، يظهر ثقب يختزل البؤبؤ، كما في دمية الدفي ذات الرقبة الطويلة، ودمية مليحة المستلقية.


عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح
TT

عيد صالح: الطب سلبني قصائد تاهت في أروقة المستشفيات

عيد صالح
عيد صالح

يعد الشاعر عيد صالح من أبرز شعراء السبعينات في مصر، جمع بين الطب والشعر عن حب، لكنه لم يستطع أن يتفرغ لأحدهما وظل موزعاً بينهما، فعامله الشعراء بوصفه «طبيباً دخيلاً» عليهم، أما الأطباء فيعاملونه بوصفه «زميلاً متمرداً». أصدر عدداً من الدواوين الشعرية منها «قلبي وأشواق الحصار»، و«شتاء الأسئلة»، و«أنشودة الزان»، و«خريف المرايا»، و«سرطان أليف»، و«ماذا فعلتَ بنا يا مارك؟»... هنا حوار معه حول مكابدات العيش تحت مظلة هذه الثنائية، وهموم الشعر والكتابة.

> لنعد إلى البدايات الأولى... كيف أثرتك نشأتك الريفية في رسم ملامح تجربتك إنسانياً وإبداعياً؟

- تلك البدايات خطّتها قريتي، الشبول، بمحافظة الدقهلية، القابعة على حافة «بحيرة المنزلة»، هي مَن أرضعتني حليب الكتابة مباشرة من ضرعها ونحن نحلب الأبقار ونطارد العصافير والثعابين على الجسر، ونصطاد الأسماك من مياه الفيضان بأحواض الأرز، الفيضان الذي كان يلوّن آنذاك النهرَ باللون الأحمر، ويترك الطمي يلقح الأرض بالخصوبة والجمال. إنها «بحيرة المنزلة» حين تتدفق إليها مياه الفيضان فتحمر رؤوس الأسماك وتغرينا بصيد ثمين، كانت انطلاقاتنا عبر الحقول والطبيعة البكر وبداية ثورة يوليو (تموز) 1952، وهتافي مع الأطفال والصبية ونحن نجوب حواري القرية بحياة أول رئيس لجمهورية لمصر التي في خاطري وفي فمي، حيث نشيد الصباح في مدرستي الابتدائية ومدرسيها العظام وأستاذي «القبطي» كامل عيد حنا الطحان، الذي دفعني لحفظ القرآن شرطاً لدخولي المعهد الديني الذي أصرّ والدي على دخوله بعد أن منعني من التعليم العام، أستاذي هذا الذي أهديته ديواني «رحيق الهباء» عرفاناً بالجميل.

> إلى أي مدى كان لدراستك الأزهرية تأثير في هذا السياق؟

- تلقفتنا يد «الأزهر» الهائلة، تعلمنا الحب والشعر وطلاوة الحديث وسحر الكلمات، نسوح في شوارع مدينة دمياط، حيث مقر المعهد الأزهري، وعلى ضفتَي النهر نتمدد بسيقاننا النحيلة في مياه الفيضان، نتقاذف الحكايات والأشعار من امرؤ القيس والمتنبي إلى أبو تمام. في تلك الفترة الخصبة، اعتدنا أن نذرف الدموع مع مصطفى لطفي المنفلوطي في رائعته الرومانسية «تحت ظلال الزيزفون»، وننشد أشعار البطل في مسرحية «سيرانو دي برجراك» للشاعر الفرنسي إدموند روستان. وضمن مقررات المعهد الأزهري حفظنا «ألفية ابن مالك»، وتهنا في «شذور الذهب»، و«تنقيح الأزهرية»، و«أوضح المسالك». الصدر تملأه الثورات والحكايات... الأساتذة والأصدقاء.

كانت تسكن جسدي النحيل روحٌ متمردةٌ تريد أن تجرّب كل شيء، من الخطابة والشعر إلى التمثيل في فريق المعهد، مروراً بالقصة والمقالات، وانتهاءً بمكتبة المعهد التي كانت تعد أكبر مكتبة في مصر بعد «دار الكتب»، حيث كنا ننهل من أمهات الكتب على يد أساتذة ومعلمين تنويريين عظام حقاً.

> في خضم هذه الرحلة كيف تتعامل مع ثنائية الطب والشعر... أيهما تعطيه الأولية؟ أيهما يؤثر في الآخر من واقع تجربتك؟

- لا أتعامل مع مهنة الطب بوصفها مهنةً ولا حتى بوصفها رسالةً، ولكن بوصفها حياةً كاملةً تستوعب الإنسان وتطحنه وتبتلعه في جوفها الهائل داخل حجرة العمليات، حيث يطل شبح الموت ويختلط العرق بالابتسامات بالآهات بالآلات. سيمفونية إنسانية رائعة تعزف للإنسان، وتجسد تراجيديا الحياة في قمة ضعفها وانتصارها، الحياة عندما يكون لها معنى وقيمة، وأنت تنتزعها من براثن الموت المترقب المتوثب كأسد جائع. لا شيء يعدل غوصك في الجرح وانتزاعك الداء والألم الممض، لا شيء أصدق من لحظات الألم حيث يبدو الإنسان على حقيقته ضعيفاً هشاً، ونظرات الألم والأمل وابتسامة واهنة، ورجاء واعد بعودة نظيفة للحياة.

لكن على الجانب الآخر، هناك وجه سيئ لمهنة الطب، حيث سلبتني عشرات القصائد الجميلة في قسوة، وألقت بها داخل عنابر المرضى وأروقة المستشفيات والأسرَّة البيضاء، حيث تاهت إلى الأبد، ولم أجد الوقت كي أكتبها أو أستردها من أنياب المهنة القاسية الجميلة المرعبة الحانية الباترة العظيمة!

توزعي بين الطب والشعر، تنازعاني واقتتلاني ليتركاني للأسف طبيباً نصف الوقت، وشاعراً نصف الوقت، وبينهما تعيش ازدواجية أن ينعتك الأطباء شاعراً ولا يرى فيك الشعراء إلا طبيباً. ويظل طموحي أن أكتب الطبيب وأعيش الشاعر، الشاعر في بساطته ورقته، في هشاشته وقوته واندفاعه وصولاته وجولاته، في عبثه وإهماله ورثاثته، في طيرانه المستحيل واختراقه الفذ كأنه شعاع كوني تتبع بوصلته هدفاً خرافياً، حيث تتوالد الأبيات وتتفجر القصائد.

> في ديوانك «ماذا فعلت بنا يا مارك» تصب جام غضبك الشعري على مارك زوكربيرغ مؤسس موقع «فيسبوك» وأنت تقول «هذا اللعين مارك / نزع الفرادة والخصوصية / حتى الجينات تمازجت / لتنتج مسخاً»... لماذا هذه الرؤية التي تعادي مواقع التواصل الاجتماعي، ألا ترى بارقة أمل في تكنولوجيا الاتصال الجديدة؟

- ربما كانت صدمتي بهول ما يحدث في الفضاء الإلكتروني، وكم الأكاذيب والنصب والاحتيال، وكم المشكلات الاجتماعية، تلك الصفحات المزورة والأسماء الوهمية. أعرف رجالاً أنشأوا صفحات بأسماء فتيات ليسخروا ويبتزوا كثيراً من الرجال، وأعرف نساء أوقعن بأزواجهن بصفحات وهمية... إلخ. شاهدت مساخر ومهازل يندى لها الجبين مع أننا نستطيع أن نستفيد بسرعة التواصل وتوظيف عنصر الوقت كالأخبار وسرعة النشر والانتشار، ولولا الفضاء الإلكتروني ما اشتهر عشرات المبدعين. التكنولوجيا سلاح ذو حدين، فكما أنها تصنع السلاح الذي يتم به التطهير العرقي وحروب الإبادة منذ هيروشيما ونغازاكي وحتى غزة الآن، إلا أنها جعلت الروبوت يجري عمليات جراحية دقيقة كما جعلت العالم في حجم قبضة اليد.

> لماذا تبدو قصائدك أحياناً وكأنها رثاء للذات في مواجهة العالم وتصوير مرير لهشاشة الروح تحت وطأة واقع قاسٍ لا يعرف الرحمة كما في قولك «أنا الميت الحي/ أجتر ماضي الذي كان / كخرقة بجوار حائط متهالك/ كقطة تكاثر الذباب حولها / كآثار حذاء مثقوب / في وحل حارة معتمة؟»

- مع أنني كما يبدو للكثيرين ذلك الهادئ الطيب الرومانسي الطوباوي الحالم، فإني في الحقيقة أعيش داخلي الذي تراكمت فيه كل أحزان العالم ومآسيه، أعيش انسحاق الفقراء والشعوب المستضعفة والواقعة بين فكي الفقر والجهل والفوارق الطبقية. أعيش أسئلة الوجود الصعب في صقيع الوحدة والاغتراب، أعيش أزمة الإنسان المعاصر بكل تعقيدات الحياة وصراعاتها وما يخبئه الغد الملغوم. ولأنك في الغالب تكتب نفسك حتى لو حاولت بالمجاز والخيال والتجريب والمغايرة فالذات والأغوار السحيقة للنفس والروح القلقة الضائعة المتشظية لا تلبث أن تطل من ثنايا النصوص.

> كثيراً ما يبدو الحب في قصائدك وكأنه مأزق وجودي أو حالة تبعث على الحيرة كما في قولك «لا أجد ما يليق بك / كل الكلام معاد / والمجاز أصبح مطية التجريب والمغامرة / لا شيء حقيقي / والأكاذيب تركب المرسيدس والليموزين»... إذاً ماذا يفعل عشاق هذا الزمان؟

- سأبدأ من آخر جملة في سؤالك الكاشف، فهذا هو سؤالي المضمر الحائر بلا إجابة داخل تجربة الحب اليائس وكأنه حقاً مأزق وجودي على حد قولك وهو كذلك. إنه حب العالم الذي تمحور في حب فتاة أصبحت هي كل الكون والوجود والحياة، هي النهر والبحر والشاطئ واليابسة، هي المد والجزر والعاصفة، هي الوردة والعصفور، هي الضحكة والدمعة واللهفة. لقد أصبح الحب في هذا الزمن أعمق وأعقد، حب الوحدة والصقيع والاغتراب. ورغم كل ذلك، فإن الحب هو الحياة وهو صمام الأمان والتوازن النفسي.

> أنت أحد الأصوات البارزة على خريطة جيل السبعينات الشعري في مصر... كيف ترى تجربة هذا الجيل إجمالاً؟

- لا أحب أن أبدي رأياً في جيل أنتمي إليه لأن رأيي سيكون مجروحاً، كما أن بعض رموز هذا الجيل قد غادرت الحياة مثل حلمي سالم ورفعت سلام ومحمد عيد إبراهيم، وبشكل عام لا أحب أحكام القيمة، وأرى أن القارئ هو الحكم والفيصل في كل تجربة أدبية، كما أن كثيراً من المدارس الشعرية لعبت على الشكل واللغة والغموض في نرجسية منحرفة ولم تحفر عميقاً فيما هو وجودي وإنساني.

>هل تشعر بأن إقامتك بعيداً عن القاهرة حيث العاصمة وأضواؤها لم تجعلك تنال ما تستحق من تقدير، وهل تنظر وراءك في غضب؟

- أذكر أن مجلة «إبداع» الثقافية الشهرية المتخصصة، خصصت عام 1994 عدداً للإبداع خارج العاصمة، وكان المسؤول عن العدد الشاعر حسن طلب الذي نشر مقالاً بعنوان «نحن ضحايا أنفسنا» ألقى فيه باللوم على تقاعسنا عن خوض غمار الزحام باقتحام العاصمة وبقائنا في الأقاليم البعيدة نعبئ الشمس في زجاجات في انتظار «غودو» النشر والمجد والشهرة. نعم أنظر ورائي في غضب لأنني لم أستمع لنصيحة د. يوسف إدريس، الذي قال لي على هامش حوار أجريته معه لمجلة الكلية عام 1968، وقد كنت طالباً بالسنة الثالثة بطب الأزهر: «عليك أن تختار بشجاعة إما الطب وإما الأدب». وللأسف بوصفي فلاحاً فقيراً لم أكن أمتلك رفاهية ترك الطب وأيضاً لم أترك الأدب، وعشت ازدواجية أضاعت عليّ كثيراً في الجانبين كما سبق أن أوضحت.

> أخيراً، كيف ترى هجرة كثير من الشعراء إلى الرواية حتى إن منهم مَن ودّع القصيدة إلى الأبد؟

- هذا السؤال تحديداً يؤلب عليّ المواجع، ويعيدني لبداياتي، التي كانت سردية تجريبية، فقد كنت أكتب قصصاً موزونة وحكايات موقعة، كما كنت أول مَن كتب «القصة القصيرة جداً» في الستينات، وللأسف لم أوثقها بالنشر؛ لأننا كنا نربأ بأنفسنا أن نتسول النشر ونكتفي بقراءة ما نكتب في الندوات الأدبية.

هؤلاء الشعراء محقون بالخروج لرحابة السرد وفضاء الحكي وما وراء القص والفانتازيا والخيال العلمي إلى آخر كل ما تقع عليه عيناك ويصل إليه خيالك ويكون مادة خصبة للسرد، ومن ثم الجوائز والمجد والشهرة. بعضهم حصل على جوائز عربية مثل إبراهيم نصر الله، وجلال برجس الذي بدأ شاعراً، ونشأت المصري الذي طلّق الشعر وكتب 12 رواية، لكن سيظل للشعر سحره الخاص.


لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري
TT

لمن يقرأ الشعراء قصائدهم؟

محمد الفيتوري
محمد الفيتوري

كلنا يسمع سرديات الأدباء والشعراء وكيف كانوا يقرأون قصائدهم في أماكن عامة يحضرها المئات، بل الآلاف من المعجبين، أو الجمهور المتذوق للشعر، ويُروى أن أحد الشعراء العراقيين وهو محمد صالح بحر العلوم كانت الناس تحجز مقاعدها في القاعة التي يقرأ فيها شعراً قبل موعد الجلسة بساعات، وكان الجمهور يتتبع حركة الشعراء ومواعيد أمسياتهم ليرتّبوا جدولهم في الحضور في ذلك اليوم، وقد أدركت بعضاً من تلك الظاهرة أواسط التسعينات، حيث يُقام مهرجان المربد، وكنت شاباً صغيراً أحضر دون أن أُدعى، وكان المئات حاضرين ممن ليس لهم غاية سوى سماع الشعر والاستمتاع به، جمهور لا ينتمي إلى أي اتحاد أو رابطة أو وزارة، إنما جمهور من الطبقة الوسطى يتذوق الشعر ويتفاعل معه، وهذا الجمهور هو نفسه الذي يقرأ الصحف والمجلات، وهو نفسه الذي يستوقفك في مكان ما ليناقشك حول بيت قلته في قصيدة ما قبل سنوات، أو رأي طرحته في حوار لك في مجلة ما، قبل مدة من الزمن، هذا الجمهور الذي يحضر الأمسية الشعرية في شتى الظروف والأحوال، بل وصل الحال أن يمتلئ ملعب من الملاعب في إحدى أمسيات محمود درويش في عمَّان، فضلاً عن الفعاليات التي تنتمي إلى حقل الجامعة وحضور الطلاب فيها بكثافة عالية، أما الآن فالموضوع اختلف تماماً؛ ذلك أن الحضور هم أنفسهم الشعراء، فمنذ أكثر من عشرة أعوام ومن خلال تجربتي الخاصة، وهي تجربة أبناء جيلي في العراق وبقية الدول العربية، حيث اشتركنا بعشرات الأماسي والمهرجانات الشعرية في معظم العواصم العربية وفي بغداد والبصرة، والبعض منها تكررت أكثر من مرة، كان المشترك الوحيد بين تلك المهرجانات هو الجمهور، حيث يتكرر الجمهور نفسه في كل أُمسية وفي كل مهرجان، لا يندهش ولا يتأثر، حتى تحول الجمهور روبوتاً يحضر بشكل روتيني لهذا المكان سداً لفراغ ما، أو تلبية لحاجة قد لا تكون شعرية، إنما اجتماعية في المقام الأول، كلقاء الأصدقاء والأحبة، والأمر الآخر أن هذا الجمهور الذي نبحث عنه قد اختفى، حيث لم يعد لدينا جمهور شعري يسأل ويتابع ويحضر الندوات والأماسي والمهرجانات، إنما الجمهور في المهرجانات الشعرية في الأغلب هم أنفسهم الشعراء، يسمعون لبعضهم، ويتندرون على بعضهم، ويشتمون بعضهم ويصفقون لبعضهم، وهذا الأمر لا يرتبط بالعراق ولا بدولة دون أخرى مع بعض الفروقات والتمايزات، حيث وجدت معظم الجمهور الشعري في عواصم عربية متعددة هو نفسه الجمهور المتواجد في الفندق وهو نفسه الضيوف المدعوون إلا ما ندر.

نزار قباني

إن هذه الظاهرة، ظاهرة اختفاء الجمهور الشعري واستبداله بالشعراء أنفسهم، هي محل تساؤل، وهو أمر يكشف عن مرحلة من مراحل الثقافة العربية التي لا تكترث للأدب ولا للشعر على وجه التحديد، إنما سحبت أقدامها طرق أخرى غير الشعر، فهل للسوشال ميديا سبب في هذه الظاهرة؟ حيث انشغل الفرد منا بعالم الموبايل ووصل التوحد أقصاه في هذه الظاهرة؟ ربما...

أم أن ظاهرة الشعراء الكبار اختفت من المشهد؟ فلم يعودوا موجودين بيننا، فلا الجواهري ولا عبد الرزاق ولا البياتي ولا نزار ولا درويش ولا سميح ولا الفيتوري ولا مظفر ولا ولا، أولئك الشعراء الذين كان كل واحد منهم يشكل ظاهرة وحالة شعرية وحده، أولئك الشعراء الذين تغري أسماؤهم الناس ليملأوا أي قاعة مهما كبر حجمها، أم أن شعراء الحداثة أسهموا ببناء ذلك الجدار الكبير بين الشعر وبين الجمهور، حيث وصلوا مراحل من التجريب والانغلاق حد التعمية في الكثير من الحالات وبدأوا يصرحون أن الشاعر كلما كثر جمهوره انخفضت شاعريته، وهذا ما صرح به أدونيس في مرات عدّة، فهل هذا التصريح هو لدرء التهمة عن ضياع الجمهور الشعري وتشتته؟ أم هو إيمان مطلق بالفكرة التي تقول لا أهمية للجمهور؟ وإن كان الجمهور غير مهم لشعراء الحداثة، فعلام يصر رموزه أن يقرأوا في المهرجانات الشعرية والأماسي؟ ويمسرحون نصوصهم على المسرح حد الذوبان؟

محمد مهدي الجواهري

أم أن الجمهور تحولت طريقته في التلقي، فبدلاً من الحضور في القاعة وسماع الشاعر واللقاء به دماً ولحماً، سيذهب المتلقي إلى جهازه النقال ويتابع الأمسية على البث المباشر، ولا فرق ممداً في بيته أو في السيارة أو المقهى، وتحول التصفيق «لايك»، والهياج الذي يمارسه الجمهور تعليقاً، والإعجاب الشديد مشاركة المنشور، أم أن الشعر وتلقيه ارتبطا بمرحلة من مراحل صعود الآيدولوجيات في العالم العربي، فجميع الأسماء الشعرية التي ذكرتها أعلاه والتي لكل واحد منهم جمهور عريض، فإن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسحب جمهوره المؤدلج إلى حد ما إلى مساحته التي يدور في فلكها، حيث نجد جمهوراً يسارياً، وآخر قومياً، وآخر مناهضاً للاحتلال، وآخر لشتم الحكومات، وأظن بزوال شمس الآيدولوجيات الساخنة واستبدالها بالعالم الليبرالي واختفاء الجيل المؤسس وما بعده، فإن فكرة الشاعر المؤدلج الآن لن تنفع كثيراً ولن يكون لها جمهور كما كانت في الستينات والسبعينات، والآن لو رجع الجواهري بنفسه وشتم الحكومات فهل سيجد جمهوره الذي كان يلقي عليه في الحيدرخانة لينطلق به في مظاهرة في ساحة الميدان؟

محمود درويش

إن هذه الظاهرة تستدعي منا أن نقف لمراجعتها، لماذا اختفى جمهور الشعر؟ وإن وُجد فهو نفسه منذ عشرة أعوام أو أكثر، لا يقلون ولا يكثرون.

وما دعاني لرصد هذه الظاهرة تطوافي في مدن عربية عدّة شاركتُ في مهرجاناتها وأماسيها الشعرية، لم أجد تغييراً واضحاً في وجوه الجمهور الذي رأيتهم قبل عشرة أعوام، فهم نفسهم ثابتون ومقيمون ما أقام عسيب،

وما دعاني أيضاً إلى مناقشة هذا الموضوع، مجموعة صور نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد المهرجانات الشعرية قبل أيام، والتي كُتب عليها «مهرجان عالمي للشعر» في إحدى دول المغرب العربي، حيث تتبعت الصور التي التقطها الشعراء، ومن ثم صورة القاعة التي يقرأون فيها الشعر، فإذا هم انفسهم الجمهور، وهم لا يتجاوزون العشرين شاعراً، ومعظمهم أسماء معروفة وكبيرة، ولكن القاعة خالية إلا من الضيوف فقط، وهذا ما حدث معي أيضاً ففي إحدى الأمسيات كنت أنا وصديق لي شاعر سعودي مدعوَين لأمسية شعرية في إحدى الدول العربية، وقد نشرنا إعلاناً عن مكان وموعد الأمسية، وحين حضرنا لم نجد إلا سبعة أشخاص في القاعة، بحيث تذكرنا لحظتها مجلس العزاء الذي أقامه الفنان حسن حسني في الفيلم الشهير (كركر) بطولة محمد سعد (اللمبي) وحسن حسني، وهذا الموقف أعادني لعام 1997، حيث كنت رئيساً لرابطة الرصافة للشعراء الشباب، وقد أقمنا مهرجاناً شعرياً للشباب، حضر الشعراء وغاب الجمهور تماماً، ما الذي نصنع؟ جاءتني فكرة ساحرة، فقد ذهبت مباشرة إلى إعدادية للبنات قريبة من مقر الرابطة، ودخلت على المديرة وقلت لها بضرورة حضور شعبتين من الطالبات لهذا المهرجان، لم تمانع تلك السيدة ووجهت الشعبتين من ثمانين طالبة مع أستاذتين ترافقان الطالبات، وبالفعل، بعد دقائق توجهنا إلى القاعة وقطعنا الطريق، حيث نقود الطالبات حتى وصلنا القاعة، فامتلأت القاعة وغصت بالحضور، ونفش الشعراء ريشاتهم، لأنهم لم يروا جمهوراً أجمل من هذا الجمهور، فما إن تحرك يدك حتى تسمع التصفيقات الحارة بعد لحظة. ولو تركنا الجمهور الذي يحضر بدمه ولحمه إلى القاعة وانتقلنا إلى الجمهور الآخر، الجمهور غير الشفاهي القارئ، فهل سنجد جمهوراً قارئاً يبحث عن الشعراء ودواوينهم الجديدة ويتتبع تحولاتهم، طبعاً لن نعدم مثل هذه الظاهرة بالتأكيد، ولكن لن تكون ظاهرة واسعة ومؤثرة، بدليل سوق الكتاب الشعري ومنسوب انخفاض مشترياتها، وهروب معظم دور النشر من طباعة الدواوين الشعرية، وحتى وإن طبعت فإن سوقها لن تكون مزدهرة مقارنة بسوق الكتاب الديني أو الفكري أو حتى الرواية.فأين ذهبتم يا أبناء اللغة العربية؟ تلك الأمة الشاعرة التي يجري الشعر بدمهم ويتنفسونه مع كل شهقة، هل تركتم الشعراء يصيحون وحدهم في هذا العالم الموحش؟ والذين منذ اكثر من ألف وستمائة عام كان يصيح ملكهم الضليل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ليدرأ الوحشة عنه

فعلام تركتم الشعراء وحدهم كالأطفال

يلعبون باللغة دون أن يسمعهم أحد، ويبكون وحدهم بصمت، حتى جرحتهم العزلة وأصيبوا بالتوحد.


اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»
TT

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

اللبناني سلمان زين الدين يهدي ديوانه الجديد إلى «عصافير غزة»

صدر حديثاً عن «الهيئة المصرية العامّة للكتاب» - «سلسلة الإبداع العربي» - ديوان «عصافير» للشاعر اللبناني سلمان زين الدين، وهو السّابع له، بعد «زاد للطريق»، و«أقواس قزح»، و«ضمائر منفصلة»، و«دروب»، و«أحوال الماء»، و«تفاح».

في الديوان يجتاز الشاعر عتبة الماضي، ويبحر بالزمن عائداً إلى أمس بعيد، لا يزال عالقاً بذاته الشاعرة، أو لا تزال هي عالقة فيه، لكنه لا يحتكر الحنين، إنّما يهيّئ القارئ لمشاركته الشعور نفسه، ويستنفر لديه طاقات التأمّل، ليتفكّر في رحلة أزلية تعبر المحطّات نفسها، تنطلق من سعادة البدء، وتنصاع إلى صيرورة المرور، ثم تنتهي بالذبول.

يمارس زين الدين في الديوان حنيناً لطفولته، لظلّ الأمومة، لمباهج تساقطت على أرصفة الزمن، وفي زوايا الطريق، وبين أقدام العابرين. وبينما يفيء للأمس، يتمرّد على الحاضر، وعلى قطيعٍ اعتاد الخضوع، مهابة مجهول يحمل في جنباته الربيع. يقتفي أثر «جلجامش» ابتغاء الخلود، فيسكن القصيدة. ويكتشف مخبأ السعادة التي تحتمي بالداخل، بعيداً من الخارج، من جحيم الآخرين، ويهدي رحلته المسكونة بالحنين إلى «عصافير غزة/ (الذين) لم يتّسع العالم لأجنحتهم/ فراحوا يحلّقون في العالم الآخر». ومن جوّ «عصافير»:

«العصافير التي تستوطن الحيّ/ كجيران الرضى/ آلَتْ على نفسها/ أن توقظ الحيَّ على أصواتها/ مُعْفِيَةً من فرضه اليومي/ طاووس الصّياحْ/ فغدا يغفو على الحلم بها ليلاً/ إذا نامت قناديل المساءْ/ وغدا يصحو على تغريدها العذبِ/ إذا ما استيقظت من نومها/ شمس السَّماءْ/ واستجابت لنداءات الصَّباحْ».

وسلمان زين الدين أديب وشاعر وناقد ومفتّش تربوي لبناني، له سبع مجموعات شعرية، وأحد عشر كتاباً في النقد الروائي، وكتابان اثنان في الأدب الريفي، وقد سبق له أن نال جائزة سعيد عقل للشعر من جامعة سيدة اللويزة عام 2015، وجائزة سعيد فياض للإبداع الشعري عام 2016.


انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل
TT

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في التاسع من مايو المقبل

تنطلق فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من معرض الدوحة الدولي للكتاب، في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات، خلال الفترة من 9-18 مايو المقبل، تحت شعار «بالمعرفة تُبنى الحضارات».

وأوضحت وزارة الثقافة القطرية، في بيان لها، أن المعرض سيشهد في دورته الثالثة والثلاثين أكبر مشاركة دولية في تاريخه؛ إذ يستقطب أكثر من 515 دار نشر من 42 دولة، إضافة إلى مشاركة ثقافية كبيرة لسفارات الدول الشقيقة والصديقة.

وأضافت أن سلطنة عمان ستكون ضيف شرف الدورة الثالثة والثلاثين من المعرض؛ حيث تشارك بجناح خاص وبرنامج ثقافي منوع، يبرز التراث العماني الأصيل والإنتاج الفكري والأدبي، ويقدم مجموعة من العروض الشعبية والفنية.

وقال الدكتور غانم بن مبارك العلي، وكيل الوزارة المساعد للشؤون الثقافية بالوزارة، في تصريح له، إن الإقبال الكبير من قبل دور النشر المحلية والعربية والأجنبية على المشاركة في معرض الدوحة الدولي للكتاب، يؤكد مكانته الثقافية والفكرية المرموقة على الساحتين الإقليمية والدولية، ويعزز دوره الرائد في دعم مسيرة الفكر والإبداع، وتعظيم الإنتاج الأدبي والمعرفي.

وأكد أن المعرض أصبح مناسبة جامعة لأنماط ثقافية متنوعة، ومنصة تفاعلية حية لتبادل المعارف والخبرات والأفكار المستنيرة، إضافة إلى تعزيز ثقافة القراءة، ودعم حركة النشر والتأليف، منوهاً في الوقت نفسه بأن اختيار شعار الدورة الحالية «بالمعرفة تُبنى الحضارات»، يعكس حرص وزارة الثقافة على تعزيز جهود نشر العلم والمعرفة والإبداع، بوصفها ركائز أساسية في بناء الحضارات.

ونوَّه العلي بالمشاركة المميزة لسلطنة عمان «ضيف الشرف»، من خلال تنظيم عروض ثقافية تراثية وشعبية عمانية، إضافة إلى الاحتفاء بالتراث الخليجي والعربي الأصيل، عبر عدد من العروض لأبرز الفرق المسرحية والفنية العربية، من سلطنة عمان ولبنان وغيرهما.

وأكد أن نسخة هذا العام من معرض الدوحة الدولي للكتاب تجني ثمار التطور الكبير الذي تشهده دور النشر القطرية، ضمن جهود دعم صناعة الكتاب والنشر والإبداع في الدولة.

كما يحظى المعرض بمشاركة خليجية وعربية ودولية مميزة، تتمثل في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، ووزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان، وهيئة الشارقة للكتاب، ومركز أبوظبي للغة العربية، ومعهد الإدارة العامة بالمملكة العربية السعودية، وجامعة طيبة السعودية، بالإضافة إلى وزارات الثقافة في كل من المغرب والجزائر واليمن والهيئة العامة للكتاب في مصر، فضلاً عن مشاركة الصين وأذربيجان وعدد من اتحادات الناشرين في موريتانيا والأردن وتركيا، ودور نشر أميركية وبريطانية.

وتشارك في فعاليات المعرض كذلك 8 مكتبات من سور الأزبكية التاريخي لبيع الكتب القديمة في مصر، وذلك في إطار اهتمام المعرض بإبراز التنوع الثقافي، واستقطاب أسواق الكتب التاريخية مثلما استضافت الدورة السابقة شارع المتنبي من العراق.

الفعاليات الثقافية

ويحتضن المسرح الرئيسي المقام ضمن فعاليات المعرض، باقة منوعة من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية، إضافة إلى عروض مسرحية «كركلا» من لبنان، ومسرحية يومية ينظمها مركز شؤون المسرح.

ويولي المعرض اهتماماً خاصاً بفعاليات الأطفال، من خلال «واحة الطفل» التي تفسح للأطفال أفق التعلم والتفكير والإبداع، بطريقة ترفيهية جذابة من خلال أنشطة تفاعلية عدة، كما سيتم من خلال الصالون الثقافي تنظيم جلسات أدبية وفكرية تفتح نوافذ الحوار المعرفي بين المؤلف والقارئ، فضلاً عن احتضان حفلات تدشين الكتب.

ويتضمن برنامج الفعاليات المصاحبة لمعرض الدوحة الدولي للكتاب، مجموعة من ورشات العمل في مجالات متنوعة ثقافية واجتماعية ومهنية، إضافة إلى معرض للصور الفوتوغرافية، تحت عنوان «اقرأ» في جناح مركز قطر للتصوير.

ومن المقرر أن يستعرض مجموعة من الفنانين التشكيليين القطريين أبرز أعمالهم الفنية في جناح الفن التشكيلي والرسم الحر، بينما يقدم جناح الخط العربي أعمالاً منوعة تبرز جماليات الخط العربي.


تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي
TT

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تحولات المشهد الفني الأوروبي

تسعى المفكرة الفرنسية كارول تالون هيغون Carole Talon-Hugon، في كتابها: «الفنان في رداء الباحث» (المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس، 2022)، إلى أن تجيب عن سؤال طالما أثار جدلاً في التحليلات النظرية بصدد الفن المعاصر، مفاده: هل يكفي الانتقال من بداهة «الموهبة» إلى العمل البحثي المتصل بالتاريخ والأنثروبولوجيا، وأحياناً بالفيزياء والبرمجة الرقمية، لتفسير سيرورة الفن المعاصر، واستيعاب مسعاه إلى محو الحدود بين الحسي والخيالي والحقيقي والزائف، والمعرفي والآيديولوجي؟ سؤال يُطوّر خلاصات عمل نقدي سابق لها، وهي المختصة في الجماليات والفلسفة المعاصرة، والأستاذة بجامعة السوربون، عنونته بـ«الفن تحت السيطرة» (2020)، حيث انتهت إلى اعتبار ما يُعرض اليوم في أروقة الفن المعاصر، من نيويورك إلى سيدني، ومن باريس إلى جنيف...، مقترحات بصرية تستدعي فعل «القراءة» أكثر من «المشاهدة»، اعتباراً لحجم مرفقاته من النصوص والمطبوعات، وبالنظر إلى تمركزه حول موضوعات فكرية وثقافية تضمر مواقف سياسية.

تختار الباحثة أن تسترسل في مواكبة تحولات المشهد الفني الأوروبي، في كتابها الراهن عن «الفنان في رداء الباحث»، وأن تبرهن بقدر غير يسير من الوضوح والسلاسة، عن فكرة الانسلاخ التدريجي لشخصية الفنان الغربي من هيئته الأصلية، المتسمة في غالبيتها بالاعتماد على ملكة الفعل الفني «الموهوب»، لأجل صياغة تحفة للعرض، عبر مسار دراسي يستهدف صقل موهبته وتطوير مهاراته؛ لينتقل إلى ممارسة تحاكي عمل الباحث في المعارف والعلوم الإنسانية والاجتماعية، سواء في اعتماده على تكوينات متعددة الاختصاصات، والاشتغال على موضوعات بمنهجية دقيقة، ثم التدرج في تطوير الأبحاث، لأجل الوصول إلى تمثُّل أفكار ومعتقدات ووقائع في أفق إعادة تركيبها ونقدها.

ولأجل تحصيل هذا المأرب الاستدلالي، تنطلق الباحثة الفرنسية من مسار نموذجي، على الأقل في السياق الأوربي، متمثل في عمل الطباخ والفنان والباحث الإسباني فران آندريا Ferran Adrià، صاحب سلسلة المطاعم العالمية الشهيرة: «إلبوللي (elbulli)»، الذي استطاع أن ينشئ مساحة جدل وتقاطع أخاذة ومثيرة للتأمل بين التجريب الطباخي والبحث في الأشكال والأساليب، وممارسة الرسم والتصميم. وقد اتسمت أعماله التي احتضنتها مراكز عالمية للفن المعاصر، بغير قليل من الدعائية المقترنة بصلب عقيدة تلك المؤسسات الفنية. إنما المتن الإشكالي للكتاب سينصب على صلب ممارسة عملية البحث في حقل الفنون المعاصرة وتحديداً الوثائقية قبل الانتهاء إلى مراجعة المفهوم المخاتل لـ«البحث» و«الباحث» في هذا النطاق، الذي كان مستبعداً من حدود العلم والمعارف العلمية، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الارتباط بمرجعياتها وقواعدها ومراميها؛ لا سيما في العقدين الأخيرين من هذا القرن، الذي شهد تحولاً مطرداً لكليات الفنون وكلياتها ومدارسها، من تدريس قواعد الإبداع الأكاديمية في الرسم والصباغة والنحت، إلى مؤسسات تنشغل بالأبحاث في مضامين الفنون وأساليبها ووظائفها الاجتماعية والسياسية وارتباطها بالتداول العملي.

تقسم الباحثة كتابها إلى 4 فصول. تحدد في الأول الوضع الراهن لطبيعة الممارسة الإبداعية في حقول الفن المعاصر التي تتسم بالتعقيد في علاقتها بالرهانات البحثية ذات الطبيعة العلمية. وترسم في الفصل الثاني المسار التاريخي لهذا التحول الجوهري، بينما تبسط في الفصل الثالث ملامح الامتحان النقدي لمفهوم الباحث في حقل الفن، وإمكانية نهوض الفن بأدوار العلم، اعتماداً على ما تقدمه الفنون الوثائقية من مواد قابلة للتحليل. وتختم في الفصل الرابع استعراضها لمقومات هذا المسعى بالتوقف عند ما بات يكتسح المؤسسات الفنية من انشغال باستلهام النموذج الجامعي، سواء باعتماد كليات ومعاهد الفنون الجميلة نظام شهادات مشابهاً، يمنح الإجازة والماستر والدكتوراه، أو استحداث متاحف عريقة لبنيات بحث، أسمتها «مختبرات» على غرار ما نجد في الجامعات.

ولعل الفرضية الأساسية التي ينهض عليها مجمل مباحث كتاب كارول تالون هيغون الأخير تتمثل في كون الفنان أصبح باحثاً موثِّقاً، بقدر ما صار الفن المعاصر وثائقياً، يمكن تلمس ذلك في التدفق الهادر للأعمال المصورة للحروب والأوبئة والزلازل... وما ترتب عليها من موجات لجوء وهجرات جماعية بين جغرافيات الكون، من فلسطين إلى تركيا، ومن لبنان إلى كوسوفو... أي أن الأعمال الفنية باتت تسعى إلى الكشف عن حقائق، ومعرفة أصولها ودقتها، دون أن تفارق غايات ثلاث، تتمثل أولاها في الطموح العلمي بالنظر إلى صلة العمل الفني بخطابه، وما يستتبعه الأمر من إعادة تنظيم الصلة بين العلم والفن. وتبرز الثانية منافسة الغايات العلمية للغايات الفنية، بينما تجلي الثالثة المأرب السياسي، لهذا النحو من العمل البحثي في حضيرة الفن، عبر تقديم مقترحات بصرية تمثل شهادات على جرائم إبادة جماعية أوحروب أو كوارث طبيعية.

هكذا تشكّل أسئلة الحدود ما بين أرضية البحث الوثائقي وقواعده، وتشكيل مدونة بصرية مستوفاة لكل مقومات العمل الفني الانشغال المركزي للكتاب، سواء في الممارسة الإبداعية أو النظر النقدي، إذ بتعبير الباحثة «يتقدم اليوم، تيار بارز من الفن المعاصر، وعلى نقيض الشائع، بما هو مؤسسة معرفية...، إنه التيار الذي يصل بين الأعمال المؤثرة في العلوم الاجتماعية، والمواد وأنماط العمليات والمحصلات النهائية» (ص 71). حيث يمكن العثور على المواد الأرشيفية والمستندات والشهادات، في صلب منجزات الفيديو والتركيبات السمعية البصرية، والتنصيبات ولوحات الكولاج، بشكل متصاعد، حيث يسلط الكتاب الضوء على أعمال ماري كوسناي Marie Cosnay ، وإريك بودلير Eric Baudelaire ، وجوليان سيروسي Julien Seroussi ، وآخرين، ممّن تتحول لديهم الوثائق الشخصية لملتحقين بالحركات الجهادية في سوريا، وأرشيف محكمة العدل الدولية في لاهاي، وشهادات الناجين من حروب الإبادة (في رواندا والسودان) إلى منطلق للاشتغال البحثي، قبل أن تحتل مركز التأليف الفني.

ومما لا شك فيه أن النصوص الموازية لهذا النوع من الاشتغال البصري، بقدر ما تنصرف لكي تمثل جزءاً من طبيعة العرض الفني المعاصر، فإنها تمثل بوصفها، هامشاً على مسار البحث الذي عبره الفنان وحوله بالإضافة إلى مؤلف بصري، بخلفية جمالية وأدبية، إلى صاحب وجهة نظر تاريخية وأنثروبولوجية، وأحياناً سياسية واجتماعية. من هنا سنجد - حسب الكتاب - أن «المسافة التي بدت واسعة في الوهلة الأولى بين البحث في العلوم الاجتماعية والإنجاز الفني سرعان ما ستتقلص، لا سيما داخل الأجناس البصرية المسماة وثائقية» (ص 69)، من قبيل الفوتوغرافيا الوثائقية، الممارسة أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، والفيلم الوثائقي، والتحقيقات الصحفية وغيرها.

صحيح أن هذا الرهان على جعل الوثيقة الجاهزة، بما هي مادة مرجعية فقدت صلاحيتها في الاستعمال الوظيفي، تجلى بوصفه هدفاً رئيسياً من جملة أهداف الفنانين المعاصرين لتوسيع مساحة السؤال عن «معايير التمييز بين ما يمكن اعتباره بداهة (فناً)، وما ينبغي استثناؤه منه» (ص 120)، إلا أن العمل على ابتداع وضع مستجد للوثائق خارج سياق إنتاجها، ومحاولة إنتاج دلالات متعدية في نطاق العمل الفني المعاصر لها، جعلا السؤال الفكري والجمالي أكبر من الحسم في الحدود، ومعايير التقدير الفني، إلى الهدف من العمل الفني نفسه، الذي ينبغي بمعنى ما أن ينخرط في إعادة فهم الأسئلة الكبرى وتحليلها: أسئلة الهوية والذاكرة والهجرة والعنصرية...، على نحو مغاير لما درج عليه الباحث في العلوم الإنسانية، إنما بمعارف ومرجعيات لا تقل قيمة وكثافة منه.

ثمة في المحصلة قناعة غالبة، بأن الأشكال الفنية المعاصرة المتصلة بـ«الوثائقيات»، تجد تعريفاتها وفهمها على نحو مزدوج ولا يشكل أي عقبة في التصنيف، إذ تعكس قاعدة من قواعد اشتغال الفنان المعاصر، أي الوجود في مساحة الجدل و«البين - بين» الذي يؤسس رمزياً لاحتمالات أكثر خصوبة للمنجزات الفنية المعروضة في الأروقة الممتدة عبر عواصم العالم الغربي، أي أنه يشيّد قواعد مغايرة لما بعد العمل الفني، الذي يمكن بسهولة النظر إليه بوصفه، على حد تعبير صاحبة الكتاب: «فنياً إلى أبعد الحدود، وعلمياً أيضاً بالمقدار نفسه» (ص 56).


السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر
TT

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

السجين الفلسطيني باسم خندقجي يكتب متحرراً من الأسر

ليس من الإنصاف في شيء، أن يُبالغ في مدح رواية، تعاطفاً مع صاحبها حين تكون له تجربة أليمة، كما أنه ليس من العدل، أن يغمط أديب موهوب حقه، كي لا يقال إنه وضعه الاستثنائي كان وراء الاحتفاء به.

الرواية هي «قناع بلون السماء» وصاحبها الفلسطيني باسم خندقجي، الذي أعلن أمس (الأحد)، فوزه بالدورة الـ17 للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).

فأنت لا يمكنك أن تقرأ رواية «قناع بلون السماء» الصادرة عن «دار الآداب» لباسم خندقجي، المعتقل في السجون الإسرائيلية منذ عشرين عاماً، إلا وتعجب بهذا الشاب الذي يكتب بعد كل هذا العمر في الأسر، رواية يتنقل فيها بين المدن وفي الأزقة، ويحيك الخطط ويعيش قصص الحب، ويحاول أن يفهم ما يفكر به عدوه، ويتفاعل معه دون حقد، دون عدوانية، وكأنه يتخفف من نفسه، حدّ التبرؤ من الذاتية. كيف لأسير لا أمل له في الحرية، محكوم بثلاثة مؤبدات، ألا يجعل ظروف الاعتقال ومأساة الحرمان من نور الحياة، جزءاً من روايته. خندقجي يكاد لا يتطرق في روايته إلى الموضوع إلا لماماً، وكأنه يعيش حريته الكاملة التي لا تنتقص ولا تمسّ، لا بل هو وجد اللعبة الروائية المناسبة، ليتفلت من فلسطينيته ويعيش في جلد إسرائيلي لبعض الوقت.

«قناع بلون السماء» تروي قصة نور الشهدي الشاب الفلسطيني الذي تخرّج في المعهد العالي للآثار الإسلامية بجامعة القدس. تبدأ الرواية وهو يسجل رسالة صوتية لصديقه مراد القابع في السجن، يخبره فيها عن رغبته في الكتابة عن مريم المجدلية. هذه هي الإحالة الوحيدة إلى الأسر والسجون، والمناسبة التي تفسح له مجال الكتابة عن بعض ما يدور في نفس السجين أو محبيه. واهتمام نور بطل الرواية كما رغبته الجارفة في الكتابة عن مريم المجدلية، تحتل بالفعل جزءاً مهماً من رواية «قناع بلون السماء»، مما يجعلنا أمام تقنية كتابة رواية داخل الرواية، خاصة أن صديقه مراد الذي يحضّر لكتابه رسالة بحثية في السجن، يطلب منه أن يجلب له بعض المراجع، تماماً كما كان يفعل باسم خندقجي نفسه، حين يطلب من شقيقه أثناء زيارته أن يوفر له مراجع لكتابة روايته التي بين أيدينا.

لكن الموضوع الأساسي، يبدأ عند عثور نور بطل الرواية على هوية إسرائيلية داخل معطف قديم اشتراه، تحمل اسم أور شابيرا. وتأتيه فكرة أن يتقمص شخصية هذا اليهودي، مستغلاً أن ملامحه بيضاء تشبه الأشكناز، مما يجعله قادراً على العبور بسهولة إلى أماكن محظورة على الفلسطينيين. هكذا يتمكن نور من الحصول على بعض حقوقه المهدورة بسبب الاحتلال والتمييز. أما العبرية التي يتقنها فتصبح بالنسبة له «غنيمة حرب»، وهو يستخدمها ليدرأ كل شبهة يمكن أن تحوم حوله. يجد نفسه، والحالة هذه قادراً على التنقل بحرية والتجول في شوارع القدس وتل أبيب كما رام الله، وحيث يشاء، دون أن يستوقفه أحد. يقول لمراد: «عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونيالي... أليس هذا ما يقوله صديقك فرانز فانون حول الجلود السوداء والأقنعة البيضاء؟»، لا بل هو يشعر وقد انتقل إلى شخصية أو أنه أصبح أشبه بـ«جيمس بوند».

بعد إقامة قصيرة في منزل الشيخ مرسي في القدس، وسيرة ذاتية مزورة المضمون باسم أور شابيرا، يتمكن نور من تحقيق بعض من حلمه بالالتحاق ببعثة تنقيب يترأسها البروفسور بريان، تضم أشخاصاً من عدة جنسيات، بينهم الإسرائيلية الشرقية أيالان من يهود المزراحيم، أصولها حلبية، تعجب به وإن اتهمته باستمرار بالتشاوف بسبب أصوله الأشكنازية. وضمن فريق التنقيب هذا سما إسماعيل من الداخل الفلسطيني، من حيفا تحديداً، وهي التي ستفتنه أول ما يسمع صوتها، وتوقظ فيه بفضل حسّ الهوية العالي لديها، إحساسه الكبير بالانتماء.

في مستوطنة مشمار هعيمق التي أقيمت على أنقاض قرية أبو شوشة الفلسطينية وزرعت فيها غابة لإخفاء كل أثر سابق، يدور جزء من الأحداث. هناك يقع نور في حب سما، ثم يكشف القناع عن وجهه الحقيقي، لكنها لا تصدقه، وتستغرب كيف له أن يتبنى الهوية التي أنفت منها وكافحت ضدها. لكن حين تتصاعد الأحداث في القدس، ويبدو نور على سجيته أمام سما، ويشعر الاثنان أنهما يقتربان من بعضهما بما لا يسمح بالافتراق.

التفاصيل في العمل كثيرة وباسم خندقجي مولع بهذا. لكنه ربما يتعمق ويكثر في سرد حكاية المجدلية وقضايا إيمانية مسيحية، حتى تستغرقه أكثر مما يحتمل قارئ رواية. نور في النهاية شغوف بكشف ما خفي من قصة المجدلية، يبحث دون كلل يريد أن يردّ على دان براون، وما جاء في روايته «شيفرة دافنشي» من أخطاء لا بد من تصحيحها، بينما يبحث أصحاب البعثة التي انضم إليها عن أشياء أخرى مختلفة تماماً.

البحث هو أحد أعمدة الحكاية. نور يبحث عن نفسه، عن هويته، عن المزاعم التي تنطوي عليها السردية الإسرائيلية، عما يدور في خلد أور، وكيف أنه مختلف عن نور، رغم أنهما يحملان الاسم نفسه بلغتين مختلفتين. هو في حالة بحث عن وقائع تاريخية، عن الآثار التي تخصص من أجلها، وصديقه مراد يبحث في العلوم السياسية، وكل يبحث عما يجعل حياته أكثر وضوحاً.

تذهب الرواية إلى الماضي، إلى التاريخ، لكنها تعود بنا إلى الزمن الحاضر، إلى أجواء سادت أثناء وباء «كوفيد»، والأحداث الأليمة التي رافقت محاولة تهويد حي الشيخ جرّاح، إلى «حماس» التي تهدد وتتوعد، بسبب ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات في القدس.

لعل التفاصيل جميعها، تصبح في نظر القارئ هامشية أمام المقاطع القوية التي تدخلنا إلى خوالج نور وهو يلبس جلد أور، يتحاور معه، ويتصادم، يعيش صراعاً عميقاً وعنيفاً. حقاً هي المقاطع الأمتع والأكثر تشويقاً، بحيث نلحظ أنه قادر على أن يتقمص شخصية أور، من دون أحمال مسبقة. الكثير من السماحة والكبر، والقدرة على لبس قناع الآخر، حتى ولو كان عدواً يضع الأصفاد في يديك، يقيدك ويضعك خلف الجدران نصف عمرك.

أسلوب سردي منساب، لكن الحيل الروائية، تخرجه من بساطته وتأخذه إلى حبكات متوالية، وكأن نور بقناعه يجتاز اختبارات واحدها تلو الآخر، ليترك لنا نهاية مفتوحة. وهي الخاتمة التي تبقى مشرعة، لتفسح لخندقجي الفرصة ليكمل رباعيته التي وعد بها. هكذا تصبح «قناع بلون السماء» مجرد جزء أول من سلسلة ستتوالى أحداثها. وهو ما يفسر، الحرص على بناء أحداث مركبة تساعد في فتح أبواب كثيرة قادمة. فكل تفصيل يمكن أن يكون ممراً إلى مكان جديد، يأخذنا إليه الكاتب بحنكته الروائية.

باسم خندقجي الذي لا يزال يقبع في سجون الاحتلال، تتم محاربته بسبب كتابه هذا بوسائل عدة، ويهاجم في الصحف العبرية، فقط لأنه افلح في نشر روايته ولاقت نجاحاً. وتعمل سلطات الاحتلال على مراكمة المخالفات عليه، كي تجبره على دفع ما فاز به ولا تترك له أي مكافأة مالية يحصل عليها، بعد أن فاز على اللائحة الطويلة ومن ثم القصيرة، لجائزة الرواية العربية. وهذه ليست روايته الأولى، كما أن خندقجي الذي اعتقل في 2 نوفمبر عام 2004 وكان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره، اصدر ديوانين، ونشر اكثر من مئتي مقالة، وهو يتغلب على سجنه بالحلم والبحث والتعلم، والترفع عن الألم، والكتابة وكأنه يعيش حياة الأحرار. وربما نفهم اكثر حين نقرأ ما كتبه في روايته، مخاطباً صديقه مراد الموجود في الأسر: «كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر، لأن واقعك الحديدي هذا واضح الملامح مكون من معادلة بسيطة، لكنها قاسية: سجن، سجين، سجان... ولكن هنا في السجن الأكبر الأمور لم تعد واضحة».

الرواية تقع في 240 صفحة، جهد كبير صرفه الكاتب على جعلها غنية بالحيل الروائية، والمعلومات التاريخية، كما الاستشهادات الأدبية، ومحملة برموز ذات دلالات تزيد النص دسامة.

حين تقرأ كتابات باسم خندقجي، وأسامة العيسة، وعدنية شبلي وغيرهم من الكتاب، لا بد أن تعرف الأدب الفلسطيني الجديد، من ميزته وسط غابات الروايات العربية، إنه يتسم بالجدية، والحفر في المعاني، والحرص المستميت على جعله يليق بالواقع الفلسطيني.