كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

عبء إعادة الحياة وتأهيل المرافق سيكون أثقل من عبء الحرب

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول
TT

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

كوباني المدمرة.. تنتظر المجهول

بات سكان مدينة عين العرب (كوباني) في سوريا على أعتاب خطر جديد يحدق بهم بعد الحرب التي دارت بين التنظيم والمقاتلين الأكراد في وحدات حماية الشعب والمرأة وقوات البيشمركة، فبعد معارك ضارية استمرت أكثر من أربعة أشهر، أصبحت كوباني مدينة مدمرة لم يبق فيها سوى أنقاض المباني والمنازل المهدمة.
وبحسب روايات سكان في المدينة وعناصر من القوات الكردية، فإنه ما زالت هناك المئات من جثث قتلى تنظيم داعش توجد تحت المباني المهدمة، والكثير من هذه الجثث بدأت في التفسخ، الأمر الذي سيتسبب في القريب في انتشار الكثير من الأوبئة والأمراض خاصة مع النقص الحاد في الغذاء بسبب قلة الإغاثة الإنسانية، وانعدام المياه الصالحة للشرب والخدمات الأساسية التي كانت تتمتع بها في الماضي.
الرائد عز الدين تمو، هو طبيب عسكري كردي رافق قوات إسناد بيشمركة إقليم كردستان العراق التي دخلت كوباني في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي لتقديم الدعم بالأسلحة الثقيلة لمقاتلي وحدات حماية الشعب والمرأة التي كانت تخوض معركة دفاعية ضد «داعش» الذي سلط كل زخمه العسكري من أجل السيطرة على المدينة. وقال تمو الذي يواصل مهامه العسكرية والإنسانية منذ أكثر من مائة يوم في كوباني، من خلال رئاسة اللجنة الطبية المرافقة لقوات الإسناد، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك جثثا لقتلى (داعش) تحت كل مبنى مدمر، لكن بسبب الأجواء الباردة هنا لم نشعر بتفسخ هذه الجثث، لكن في الأيام المقبلة سيكون هناك وباء بسبب تفسخها خاصة مع ارتفاع حرارة الجو، لذلك يجب تدارك هذه الكارثة والتفكير في إزالة الجثث». وتابع تمو «عندما دخلت قوات البيشمركة إلى كوباني كان هناك مركز صحي صغير في المعبر الحدودي مع تركيا، يقدم العلاج لجرحى مقاتلي حماية الشعب والمرأة. الفريق الطبي المرافق للبيشمركة كان يحمل معه كمية كبيرة من كل أنواع الأدوية ولكل الأعمار، وما زالت حكومة إقليم كردستان العراق تقدم الأدوية والمستلزمات الطبية لهذه المدينة مع بدء كل وجبة من قوات البيشمركة لمهامها في كوباني، وأسس أبناء المدينة منظمة الهلال الأحمر الكردي وقدمنا جزءا من الأدوية التي وردتنا من كردستان العراق إلى هذه المنظمة».
المركز الطبي الموجود في معبر مرشد بينار الحدودي الفاصل بين المدينة والحدود التركية دمر بالكامل إثر هجوم بسيارة مفخخة لتنظيم داعش على المعبر، ففقدت كوباني المركز الصحي الوحيد لها بعد أن دمر مبنى مستشفى المدينة ولم يبق منه سوى هيكل منقوش بآثار الرصاص.
ويقول تمو «بعد تدمير المركز الصحي أنشأنا مستشفى ميدانيا في قبو أرضي تحت إحدى المدارس غرب المدينة التي كانت أقل دمارا من الأجزاء الأخرى لأنها كانت تحت سيطر القوات الكردية طيلة الحرب، هذا المستشفى يقدم خدماته لمقاتلي وحدات حماية الشعب وللمدنيين أيضا، ويعالج المصابين والمرضى بالاعتماد على المساعدات الطبية. كوادر المستشفى انقسموا إلى فريقين، أحدهما يشرف على المدنيين فقط والآخر على المقاتلين، حاليا الدواء الموجود كاف، لكن المشكلة ستكون بعد عودة السكان، لأننا سنحتاج في حينها إلى كميات كبيرة من الأدوية والمستلزمات الصحية، التي تتواكب مع العدد الهائل للسكان وكذلك ستكون هناك حاجة إلى كوادر طبية ومستشفيات وعيادات صحية أيضا لأن ما كان موجودا في كوباني في الماضي أصبح اليوم في عداد الأنقاض».
الواجب الذي يقع على كاهل الإدارة الذاتية في كوباني أو «كانتون كوباني» كما يسميه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا (بي واي دي)، سيكون أثقل من الحرب التي خاضها مقاتلوه في الأشهر الماضية، فالمناطق الجنوبية والشرقية وحتى الشمالية من كوباني مدمرة بالكامل، ولم تبق ملامح المدينة سوى في قسمها الغربي الذي تعرض هو الآخر لشبه تدمير خلال المعارك، لذا عملية إعادة الإعمار ستكون صعبة في ظل غياب الدعم الإنساني الدولي والإقليمي للأكراد في سوريا.
يقول إدريس نعسان، نائب رئيس العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لـ«كانتون كوباني»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «نتيجة حصار (داعش) لكوباني الذي دام قرابة العامين والحرب التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ونزوح معظم أهالي المدينة إلى تركيا، انهارت الحياة بالكامل وتهدمت البنى التحية في كوباني. حاليا هناك نقص حاد في المواد الغذائية، والمدينة تعتمد على بعض الكميات الصغيرة من الإغاثة التي تدخل إلى كوباني عبر تركيا بصورة غير رسمية، بالإضافة إلى الاعتماد على ما بقي من مخزون غذائي في مستودعاتها ومؤن المنازل، أما مياه الإسالة فهي مقطوعة، لذا يضطر الموجودون من أهاليها إلى الاعتماد على مياه الآبار، وهذه المياه تلوثت بالمياه الثقيلة نتيجة قصف طيران التحالف الدولي الذي أحدث حفرا عميقة، فالمدنيون الموجودون في كوباني يعيشون بين الألغام والقذائف غير المتفجرة وركام الأبنية المهدمة، في ظل انعدام تام في مستلزمات الحياة الضرورية، إضافة إلى أن قطاع البنى التحتية والخدمات هو الأكثر تدميرا في المدينة».
ومضى نعسان بالقول «نحاول الآن جذب أنظار العالم لما يحدث من كارثة إنسانية في كوباني بعد الحرب. المدينة بحاجة إلى جسر إنساني دولي عبر تركيا لتوصيل الغذاء والدواء إلى المدنيين، لأن المنفذ الوحيد للدخول إليها يكون عن طريق معبر مرشد بينار مع تركيا، لكن ليست هناك أي خطوة جدية في هذا الاتجاه من قبل أنقرة، على العكس المسؤولون الأتراك يصرحون بين الفترة والأخرى بأنهم لن يشاركوا في إعمار كوباني، ويبقى هذا الحمل على عاتق المجتمع الدولي، فعلى التحالف الدولي الذي حارب (داعش) في كوباني أن يتحمل مسؤوليته الإنسانية تجاه هذه المدينة والضغط باتجاه فتح هذا الممر».
وينتظر نحو 200 ألف من اللاجئين الأكراد السوريين في تركيا العودة إلى مدينتهم كوباني، لكن حجم الدمار وقلة الخدمات والمخاوف الأمنية تحول دون السماح لعودتهم حاليا، وعن هذا الموضوع قال نعسان «تشهد المدينة يوميا عودة العشرات من أهليها الذين هربوا من المعارك إلى تركيا خلال الأشهر الماضية، وهم يتشوقون للعودة في أقرب فرصة، لكن نحن في الإدارة الذاتية الديمقراطية، قبل أن نسمح بعودة الأعداد الهائلة من السكان إلى كوباني، فيجب أن نجهز لهم مستلزمات الحياة، على الأقل أن نكون قادرين على إطعامهم، وتقديم الدواء لهم، وبالتالي نحاول أن نرسم هذه الصورة للعالم. حاليا عادت العائلات التي كانت موجودة في المنطقة المحرمة بين الحدود التركية وكوباني إلى المدينة خاصة في الأطراف الغربية، وهناك عودة يومية لمئات الشباب الذين يريدون الانخراط في عمليات تقديم الخدمات عن طريق الجهات الخدمية في المدينة التي بدأت فعليا بتنظيم أمورها لتنظيف المدينة وترتيبها وتوفير بعض المستلزمات فيها، ويوجد حاليا في كوباني 15 ألف مدني».
العشرات من شباب كوباني جمعوا التوقيعات مطالبين حكومة المدينة بعدم إعادة إعمار الجزء الشرقي منها، وإبقائه مدمرا ليكون متحفا حيا وشاهدا على ما تعرضت له مدينتهم من خراب على يد تنظيم داعش. وأشار نعسان إلى أن الإدارة الذاتية في كوباني شكلت هيئة لإعادة إعمارها، إلى جانب تشكيل سبع لجان لتقييم الأضرار الواقعة في القطاع العام، لا سيما الخدمية منها، فبعد توثيق أضرارها سينتقلون إلى قطاع آخر ومن ثم المباني المدنية. وعن دور قوات البيشمركة في مجال إعادة الإعمار أكد نعسان بالقول «دور قوات البيشمركة حاليا مقتصر على تقديم الإسناد العسكرية لقوات حماية الشعب والمرأة، لكن هناك مؤشرات تدل على أن إقليم كردستان سيسهم في إعادة إعمار كوباني، أما حاليا فليس هناك أي شيء على الأرض».
وعن جثث قتلى التنظيم الموجودة تحت ركام الأبنية، وكيفية التعامل معها للحول دون انتشار الأمراض في المدينة بعد تفسخ العشرات منها مؤخرا، كشف نعسان بالقول «بدأ الهلال الأحمر الكردي وبالتعاون مع بلدية كوباني، في انتشال هذه الجثث، ودفنها، بطريقة لائقة، لأننا عندما نحارب هؤلاء الإرهابيين بلا شك لا نستهدف القضاء عليهم فقط، بل نستهدف أيضا القضاء على هذا الفكر الإرهابي الذي ننبذه. لذا ومن منطلقنا الإنساني نتعامل مع الإنسان كإنسان أيا كان نوع هذا الإنسان خاصة بعد الموت، حيث يجب أن يحترم، بالإضافة إلى أن قواتنا تتعامل مع الأسرى تعاملا قانونيا حسب الأعراف والمواثيق الدولية».
وتوصل المجلس الوطني الكردي السوري وحركة المجتمع الديمقراطي السوري إلى اتفاق لتوحيد الصف السياسي الكردي في سوريا، بعد مفاوضات استمرت عدة أيام برعاية رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني في مدينة دهوك في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتلتها اتفاقية أخرى بين وحدات حماية الشعب الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) وإقليم كردستان لإرسال قوة إسناد من البيشمركة إلى كوباني عبر الأراضي التركية للمساهمة في تحرير المدينة التي تمكن «داعش» من اختراق الخطوط الدفاعية فيها والسيطرة على معظم أجزائها، لكن مع دخول قوات إسناد البيشمركة إلى المدينة تغيرت موازين المعركة لصالح الأكراد بفعل الأسلحة الثقيلة التي أدخلتها البيشمركة والتي استطاعت وبإسناد من طيران التحالف الدولي أن تقدم الدعم اللازم لقوات حماية الشعب في الهجوم على تنظيم داعش وإرغامه على الانسحاب من مركز مدينة كوباني بعد أكثر من أربعة أشهر من المعارك الطاحنة بين الجانبين.
بدوره، قال العميد مصلح زيباري، قائد قوات بيشمركة إقليم كردستان المرابطة في كوباني، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد استعادة السيطرة على مركز مدينة كوباني بدأت المرحلة الثانية من المعارك، وهي مرحلة تطهير ريف المدينة من مسلحي (داعش)، حيث تمكنت القوات الكردية من تحرير ما يقارب 150 قرية من قرى ريف كوباني البالغة 400 قرية ومزرعة، والعمليات العسكرية مستمرة في كل اتجاهات الريف الأربعة. دورنا يقتصر على تقديم الإسناد لقوات حماية الشعب والمرأة، ونحن نقدم لهم الإسناد بالأسلحة الثقيلة الموجودة لدينا، وتمكنت القوات الكردية من أن تؤمن مدينة كوباني، وأن تنشئ خط أمان يمتد مسافة 20 كم حول أطراف المدينة من كل الاتجاهات»، مبينا أن «تنظيم داعش فقد قوته الهجومية في كردستان سوريا تماما، ومسلحيه بدأوا بالفرار من الريف، فيما بدأت القوات الكردية في مطاردتهم، والأيام المقبلة ستشهد الإعلان عن تحرير ريف كوباني بالكامل».
ووحدت الحرب في كوباني الأكراد، وكانت سببا في التقارب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا بزعامة صالح مسلم المقرب من حزب العمال الكردستاني في تركيا، وما آلت إليه من تنسيق على الأرض بين الوحدات الكردية في سوريا وبيشمركة إقليم كردستان العراق.
وقال زيباري، الذي يقود الوجبة الثالثة من البيشمركة في كوباني بعد عودة الوجبتين السابقتين إلى الإقليم «هناك تنسيق ميداني كبير بيننا وبين وحدات حماية الشعب وطيران التحالف الدولي. نحن في كوباني على اتصال مباشر مع غرفة تنسيق العمليات العسكرية في أربيل، وعند الحاجة إلى إسناد جوي نطلب مباشرة من الغرفة في أربيل ذلك لتباشر الطائرات بقصف مواقع العدو فورا»، مشددا على القول إن قرار عودتهم بعد الانتهاء من العملية العسكرية مرتبط بقرار من القائد العام لقوات البيشمركة الرئيس مسعود بارزاني.
بحسب إحصائية لقوات البيشمركة ووحدات حماية الشعب، فإن معارك كوباني خلفت 3710 قتيلا في صفوف مسلحي «داعش»، فيما بلغ عدد القتلى في صفوف المقاتلين الأكراد 408 قتلى، ودمرت القوات الكردية وطيران التحالف الدولي 87 عجلة عسكرية و16 دبابة وخمس سيارات مدرعة من نوع هامر وأربع مدافع رشاشة، واستولى الأكراد على مجموعة أخرى من الأسلحة التي وصفوها بالصالحة للاستعمال، إلى جانب وجود عدد آخر من أسلحة التنظيم الثقيلة تحت المباني المنهارة والتي تؤكد المصادر الكردية أن إخراجها يعتبر عملا صعبا حاليا لقلة الإمكانيات المتاحة في المدينة.
وكما هو معروف عن تنظيم داعش من استخدامه التفجيرات والمباني المفخخة في كل المعارك التي خاضها منذ ظهوره في سوريا قبل أكثر من عامين ودخوله العراق العام الماضي، فإن كوباني لم تكن بعيدة عن هذه المتفجرات التي زرعها «داعش»، حيث استخدم التنظيم خلال معاركه في كوباني وحدها أكثر من خمسين عجلة مفخخة، وفخخ مساحات واسعة من المدينة وأطرافها.
بدوره، قال العميد دحام غرغري، أحد قادة البيشمركة الرئيسيين في كوباني، لـ«الشرق الأوسط»: «تنظيم داعش زرع عددا كبيرا من العبوات الناسفة في مركز مدينة كوباني، أما في أطرافها فنستطيع القول إن العبوات الناسفة قليلة وغير موجودة في بعض المناطق. لا توجد لدى القوات الكردية في هذه المدينة أجهزة ومعدات خاصة بتفكيك العبوات الناسفة وإبطال مفعولها، فالمقاتلون الأكراد يستخدمون وسائل بدائية جدا للتطهير المناطق من الألغام، فيما زرع العدو هذه المتفجرات بطرق فنية، ولا يمكن إزالتها إلا باستخدام الأجهزة المتطورة، ويجب ألا ننسى أن طيران التحالف الدولي لعب دورا كبيرا في تدمير قوة داعش وإجهاض عملياته الانتحارية، ومن هنا نطالب المجتمع الدولي بتزويد القوات الكردية هنا بأجهزة كشف المتفجرات وإبطال مفعولها».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.