الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

رينيه تاتون يرصد عبقريتها في الطب والفلك والرياضيات

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي
TT

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

الحضارة المصرية القديمة تحت مجهر مؤرخ فرنسي

يضعنا كتاب «تاريخ العلوم في الحضارات القديمة»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أمام عدة إشكاليات، بداية من الغلاف وانتهاء بصفحته الأخيرة، فالعنوان الأصلي للعمل هو «تاريخ العلوم العام». ولم تخبرنا مترجمة العمل هدى حسين، وهي أيضاً شاعرة وروائية، بمبررات تغيير العنوان على هذا النحو الذي قد يراه البعض يتنافى مع تقاليد الأمانة العلمية في الترجمة، وقد يراه آخرون عنواناً مضللاً، حيث لا يتناول الكتاب «الحضارات القديمة»، وإنما يركز على حضارة واحدة فقط هي الحضارة المصرية القديمة. أيضاً يحمل الغلاف مهمة أخرى قامت بها هدى حسين وهي «تبسيط» الكتاب، إلى جانب ترجمته بالطبع، دون أن توضح للقارئ ما هو مفهوم هذا التبسيط ولا حدوده ولا معاييره، ناهيك عن مبرراته أصلاً، ما قد يعطي انطباعاً بنوع من «الوصاية» تمت ممارسته بشكل عفوي على القارئ. كما حمل الكتاب في نهايته تعريفاً جيداً بالمترجمة، وهو شيء محمود، إلى أنه مع ذلك خلا من أي إشارة للتعريف بالمؤلف رينيه تاتون (1915 - 2004) الذي هو بالمناسبة مؤرخ وباحث فرنسي في تاريخ العلوم؛ وساعده في تأليف هذا الكتاب نخبة من الأساتذة المختصين والباحثين.
كل هذا لا ينفي الجهد المبذول في الترجمة عن الأصل الفرنسي بلغة سلسلة ودقيقة وشيقة في موضوع هو بطبيعته جاف، كما لا ينفي الأهمية التي ينطوي عليها هذا العمل، حيث يناقش تفوق المصريين القدماء في الرياضيات والفلك والطب وفق معيار علمي موضوعي بعيداً عن التأثير العاطفي أو المبالغات التي نجدها أحياناً في كتابات العرب عن حضاراتهم القديمة.
ويشير المؤلف في البداية إلى أنه في الألفية الثالثة قبل الميلاد، طور المصريون نظاماً عددياً عشرياً اشتمل على علامات عددية تصل حتى المليون لكن من جهة أخرى لا يبدو أنه اشتمل على علامة خاصة تدل على الصفر. ومع ذلك ظهر أن الكتبة المصريين كانوا في بعض الأحيان يتركون في مدوناتهم مساحة فارغة، حيث نكتب نحن الآن الصفر. لقد كانت الكتابة المصرية القديمة تعتمد على علامات خاصة فيما يتعلق بالآحاد والعشرات والمئات والآلاف ومئات الآلاف والملايين، حيث جاء نظام الأعداد واستخداماته من بدايات الحضارة في وادي النيل كنتاج احتياج اقتصادي بحت خاضع للحالة الاجتماعية للبلاد. وكانت مصر آنذاك بلداً ملكياً موحداً شديد المركزية، يمتد من الشمال إلى الجنوب على شريط مائي رفيع لأكثر من ألف كيلومتر، حيث تشكل كل قطعة زراعية فيها خلية من خلايا هذا الجسد المترامي الأطراف، ولكي يصبح من الممكن حصر وإدارة مجموع أراضي هذا البلد ومعرفة ثرواته وتوزيعها، كان على الحكومة المركزية وكذلك على الحكومات الإدارية للقرى أن تقوم بحسابات عينية جمة تعتمد على علوم الرياضيات والهندسة المصرية، لا سيما في غياب أي مرجعية مالية واضحة. وكان النظام الاقتصادي يتطلب حسابات عينية هائلة من جهة للسيطرة على العمليات الخاصة بالإنتاج كتوريد البذور والمعدات والمواد الأولية، ومن ناحية أخرى لتقسيم المواد الاستهلاكية من غذاء وكساء بين مختلف طوائف وأفراد المجتمع، سواء كانت زراعية أو حرفية.

اعتراف إغريقي

أقر المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودت، أن طبيعة الأرض نفسها التي قامت عليها المملكة المصرية ألزمت المصريين القدماء بإيجاد حلول للمسائل الهندسية، وبناء على هذه الملاحظة فقد اعترف الإغريق أن المصريين هم من اخترعوا الهندسة وعلى يديهم تعلم المهندسون اليونان.
ويذكر المؤلف أن المصريين في عصر الدولة الوسطى كانوا يعرفون جيداً كيف يحسبون سطح المستطيل وعلى ما يبدو سطح المثلث أيضاً، وكانت لديهم نسب تقريبية جيدة لسطح الدائرة. ورغم ذلك فإن الهندسة المصرية مثلها مثل العلوم الرياضية كانت تتسم بالطابع العملي قبل أي شيء، كما في احتياجهم لتحديد معايير الوعاء الضريبي على سبيل المثال. كما برعوا في حساب الكتلة متعلقين بتلك التي كانت أكثر نفعاً كما هي الحال في الكتلة الهرمية والأسطوانية، حيث لم يكن المدفن الملكي عبارة عن ناووس «مدفن تحت الأرض» بل كان لا يزال على هيئة هرم، كما أن عملية بناء الأثر الجنائزي، التي كانت تبدأ فور تتويج الملك كانت تستمر طيلة فترة حكمه. ويستلزم ذلك البناء الكثير من العمالة وكميات كبيرة من المواد المستخدمة، وكانت تقع على عاتق الكاتب المصري مسؤولية الدقة في حساب مقاييس الهرم وكتل الحجارة التي يتطلبها، فضلاً عن كل الأعمال المساعدة الأخرى كتمهيد طرق الوصول وتوفير وسائل النقل.
ويرجح المؤرخ الفرنسي تبني قدماء المصريين تقويماً مبنياً على مراقبة الفلك منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وربما منذ الألفية الرابعة، حيث امتلكوا علم فلك له نسق خاص. وعلى سبيل المثال، فقد قسموا السنة إلى 12 شهراً، وكل شهر 30 يوماً، فيما تم توزيع الـ360 يوماً على فصول ثلاثة متساوية يتمونها بخمسة أيام إضافية للسنة، وهي الأيام الخمسة التي سميت لاحقاً بـ«النسيء».
وهذه الفصول أو المواسم كالآتي، الفيضان ويدعى «أخي»، الشتاء ويدعى «بيريت» ويعني خروج الماء من تحت الأرض، الصيف ويدعى «شيمو» ويعني نقص الماء.
وبسبب الحملة الفرنسية على مصر واكتشاف اللغة الهيروغليفية، ذهل الأوروبيون الذين عملوا في وادي النيل من الدقة التي يتصف بها اتجاه البنايات المصرية عامة واتجاه الأهرامات على وجه الخصوص، التي تطل بواجهاتها على الاتجاهات الأربع الأصلية. ويؤكد المؤلف أنه ينبغي الاعتراف بأن المصريين القدماء امتلكوا طريقة ناجحة في تحديد الشمال الحقيقي، علماً بأنهم لم تكن لديهم بوصلة، ويبدو أنهم اعتمدوا على رصد فلكي ما لكننا نجهل طبيعته.

الفلك والطب

ترافق هذا مع ازدهار الطب عن طريق الممارسة مثله مثل كل المهن الأخرى، فقد كان يتم توارثه أباً عن جد وينتقل من الأب للابن بالطريقة نفسها التي كان بها الكاهن يلقن خلفاءه من الأبناء ما يعرفه من أقوال وطقوس. ولم يكن هناك وجود فعلي لمدارس طبية، لكن في بعض المنشآت التي كانوا يدعونها «بيوت الحياة» كان يمكن للممارس الشاب للطب أن يتعلم بواسطة الأبوة التلقينية عبر معاشرة العلماء من الأطباء الذين كانوا يديرون الورش الاحترافية، حيث البعض من الكتبة يقومون بتأليف أو نسخ كتابات مكرسة للطب. من داخل هذه الورش الاحترافية خرجت البرديات الطبية، بينما كانت هناك ورش احترافية مشابهة تنتج مؤلفات ذات طابع ديني مثل «كتاب الموتى».
وتحفظ لنا بعض البرديات - كما يوضح الكتاب - عدة وصفات لعلاج القلب مصحوباً بحواشٍ وهوامش تضيء لنا المقصود من بعض المصطلحات المهنية، كما أن بعضها يعتبر تعليقاً على النص الأصلي. وهكذا نقرأ في إحدى البرديات تحت عنوان «أول سر الطبيب» أنه من الأهمية بمكان معرفة ما هو القلب تشريحياً، وأن هناك أوعية تذهب إلى كل عضو من أعضاء الجسم. ويضع الطبيب أو «كاهن سخمت»، أو الساحر يده على الساقين أو على أي جزء آخر في الجسم فيستشعر الحالة الصحية للقلب من خلال الأوعية التي تذهب إلى ذلك العضو. وتذهب براءة اختراع هذه الملاحظة إلى المصريين حتماً، لكنهم على ما يبدو لم يفكروا في عد نبضات القلب، وكان علينا أن ننتظر حتى القرن الثالث الميلادي حين قاس عدد ضربات القلب يوناني من أصل مصري وهو هيروفيل السكندري، مستعيناً بساعة مائية ذات أبعاد صغيرة لحساب ضرباته.
ويخلص الكتاب إلى أنه مع قصور المعرفة في مجال التشريح والفكرة التي اصطنعها المصريون عن مسيرة القلب ودور الأوعية لم يكن أمامهم إلا التجريب الملموس لوضع التشخيص ووصف العلاج فيما يخص الأعضاء الداخلية المختلفة. وهناك على سبيل المثال علاج لزوال السعال مكون من قشدة وكمون مغموس في عسل النحل يأكله المريض لأربعة أيام. وعلاج آخر لنفس المرض مكون من لبن بقري وثمار الخروب يوضعان في قدر على النار مثلما يطبخ الفول عندما تنضج يمضغ المريض ثمار الخروب هذه ويبتلعها مع اللبن لمدة أربعة أيام.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.