من بين جميع نزلاء قصر الإليزيه الذين تعاقبوا على رئاسة الجمهورية منذ سبعين عاماً، لم يعرف الفرنسيون رئيساً لحق به هذا الكم من الاتهامات والفضائح والمحاكمات كالذي يقض مضجع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي. فهذا الأخير أصبح منذ انتهاء ولايته في عام 2012 ضيفاً أليفاً لقضاة التحقيق والمحاكم. وأمس، كان ساركوزي على موعد مع محاكمة جديدة تأتي بعد أسبوعين فقط على إدانته بالفساد وبسوء استخدام السلطة، والحكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، إحداها نافذة، في القضية المسماة «التنصت»، بحيث أصبح أول رئيس جمهورية يحكم عليه بالسجن مع النفاذ. وإذا كان فريق المحامين الذي يدافع عن ساركوزي قد قدم طلباً لاستئناف الحكم، فإن ضرراً معنوياً وسياسياً قد لحق به وسيكون له حكماً تأثير على مستقبله السياسي بالنظر لأوضاع حزب «الجمهوريون» اليميني الكلاسيكي الذي سعى ليكون مرشحه الرئاسي في العام 2012، لكنه فشل في مسعاه. لكن الرئيس الأسبق ما زال يتمتع بشعبية مرتفعة لدى المحازبين والمناصرين، بل إن كثيرين يريدونه مرشحهم للانتخابات الرئاسية المقبلة، نظراً لغياب شخصية يمينية بارزة تفرض نفسها للمنافسة الرئاسية، ربيع العام المقبل، تعطل السيناريو المكتوب سلفاً الذي يضع الرئيس إيمانويل ماكرون في مواجهة مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، وهو تكرار لما حصل في منافسة عام 2017. هكذا، فإن صورة ساركوزي «المنقذ» تنهار أكثر فأكثر مع عودته أمام المحكمة الجزائية مجدداً بعد أسبوعين فقط من انتهاء محاكمته الأخيرة. وهذه المرة، يمثل ساركوزي مع 13 شخصاً من الذين رافقوه في حملته الرئاسية لعام 2012، التي خسرها بوجه منافسه الاشتراكي فرنسوا هولاند. وثمة حملة أخرى ستعود إلى الواجهة لاحقاً بحر هذا العام، وتتناول ما اتفق على تسميته «التمويل الليبي» لحملته الرئاسية الأولى في عام 2007. ومنذ أن بدأت تتكشف أوائل الخيوط بشأنها، برز بوضوح أن الفضيحة التي دأب الرئيس الأسبق على نفيها، لها تشعبات أمنية وسياسية. وذهب البعض إلى الربط بين التمويل الليبي وبين «الشراسة» التي أبداها ساركوزي في الدفع باتجاه التدخل العسكري الدولي في ليبيا في عام 2011، والتخلص من العقيد معمر القذافي، بعد أن كانت باريس قد فرشت السجاد الأحمر تحت قدميه ومكنته من أن ينصب خيمته الشهيرة في حديقة قصر مارينيي، الذي لا يفصله عن قصر الإليزيه سوى طريق عرضه لا يتعدى الأمتار العشرة.
«بغيماليون»؛ هو عنوان المحاكمة الجديدة التي انطلقت أمس في قصر العدل في باريس، وسط حضور إعلامي واسع وتغطية شاملة. و«بيغماليون» هو اسم شركة العلاقات العامة التي كلفتها إدارة حملة ساركوزي الرئاسية تنظيم ما يزيد على أربعين مهرجاناً انتخابياً، بعضها يذكر بما تشهده الانتخابات الرئاسية الأميركية من بذخ وإسراف في الإنفاق الذي وصل إلى 42.8 مليون يورو، بينما يمنع القانون تخطي سقف الـ22.5 مليون. ويفسر هذا التجاوز بالقلق الذي كان ينتاب ساركوزي ومعاونيه من خسارة الانتخابات، الأمر الذي دفعهم باتجاه أكبر حشد حزبي وشعبي لتقليص الفارق. وللتغطية على هذا التجاوز في الإنفاق، عمدت شركة «بيغماليون» إلى تحرير فواتير مزورة لخدمات لم تقدمها لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» وهو الاسم السابق لحزب «الجمهوريون» الحالي. وبذلك تكون حملة ساركوزي قد التفت على القوانين وجعلت الحزب المذكور يغطي ما يزيد على 20 مليون يورو من نفقات انتخابية. وإذا ثبتت التهمة على الرئيس الأسبق، فقد يحكم عليه بالسجن لمدة عام ودفع غرامة قيمتها 3750 يورو. وبعد أن كانت المحكمة الدستورية قد وافقت على حسابات حملة ساركوزي، إلا أنها لاحقاً وبعد أن اندلعت الفضيحة، قررت الامتناع عن سداد 11 مليون يورو لميزانية الرئيس الأسبق، وهو المبلغ الذي تسهم فيه الدولة في إطار دعمها للحياة الديمقراطية، الأمر الذي دفع الحزب اليميني إلى تنظيم حملة تبرعات شعبية لسداد قيمة الإنفاق الإضافي.
ومنذ أن اندلعت هذه الفضيحة، التزم ساركوزي خط دفاع لم يحد، عنه وهو أنه «لم يكن على علم» بهذا الأمر، بحيث رمى التهمة على معاونيه ومديري حملته. وحجة ساركوزي أن مراجعة الحسابات والفواتير كانت منوطة بالمشرفين على حملته، وأبرزهم ثلاثة: غيوم لامبير، مدير الحملة، وجيروم لافريو، مساعده، وفيليب بريان، المسؤول المالي. يضاف إليهم ثلاثة مسؤولين من «بيغماليون» وشركاتها التابعة وهم: باستيان ميو وغي ألفيس، مؤسسا «بيغماليون»، وفرانك أتال، المدير السابق لـ«إيفانمت وشركاه». ويؤكد هؤلاء الثلاثة أنهم عملوا وفق التوجيهات التي جاءتهم من مديري الحملة. ويؤكد لامبير أنه وجه إلى ساركوزي رسالة ينبهه فيها من تجاوز سقف الإنفاق المسموح وإلى ضرورة الالتزام بما ينص عليه القانون. وخالف قاضي التحقيق في مطالعته ما يؤكده ساركوزي، إذ اعتبر أن الأخير «استفاد بدون أدنى شك من التجاوزات التي بينها التحقيق والتي سمحت له بأن يستخدم أموالاً في حملته للعام 2012 لا يجيزها القانون». ويضيف القاضي سيرج تورين أن «المرشح وفريقه الضيق اختارا تركيز الحملة على المهرجانات الضخمة والمكلفة وتكليف وكالات متخصصة عملية التنظيم»، في إشارة إلى «بيغماليون» والشركة المتفرعة عنها واسمها «إيفانت وشركاه». من هنا مسمى التهمة الموجهة لـساركوزي: «التمويل غير المشروع لحملة انتخابية». أما الأشخاص الـ13 الآخرون فقد وجهت إليهم تهم أعظم، منها التزوير وسوء استخدام الأمانة وفي حال ثبوتها، فإنها تفتح الباب لعقوبات أشد، على رأسها السجن لمدد طويلة، علماً بأن مساعد مدير الحملة اعترف على شاشة التلفزة بالتجاوزات وكشف الآلية المستخدمة لتغطية النفقات.
عندما كشف عن الفضيحة، اندلعت حرب داخل الحزب اليمين، ووجهت اتهامات بالاختلاس والإثراء الشخصي. ويؤمل من المحاكمة التي ستستمر طيلة شهر كامل أن تلقي الضوء على «مناطق الظل». أمس، غاب ساركوزي عن أولى الجلسات. وكان لافريو قد قدم طلباً سانده فيه المتهمون الآخرون بتأجيل المحاكمة بسبب إصابة محاميه بوباء «كوفيد – 19». بيد أن التأجيل، في حال وافقت عليه المحكمة، لن يغير في مسار الأمور شيئاً.
محاكمة جديدة لساركوزي بعد أسبوعين من إدانته بالفساد
الرئيس الأسبق متهم بانتهاك قانون تمويل الانتخابات
محاكمة جديدة لساركوزي بعد أسبوعين من إدانته بالفساد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة