إشكالية المحكمة الاتحادية في العراق تدخل أخطر مراحلها

احتدام الجدل بين مؤيدي عضوية الفقهاء ومعارضيها

إشكالية المحكمة الاتحادية في العراق تدخل أخطر مراحلها
TT

إشكالية المحكمة الاتحادية في العراق تدخل أخطر مراحلها

إشكالية المحكمة الاتحادية في العراق تدخل أخطر مراحلها

في بلد مثل العراق، لم تتأسس تقاليد ديمقراطية في العمل السياسي إلا في مفتتح عهد الدولة العراقية منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي إلى أواخر خمسينياته. وبعد تلك الحقبة، بدأت عهود أخرى عنوانها الأبرز انقلابات عسكرية تبدأ ببيان رقم واحد، وتنتهي بعد سنوات بمجازر ومشانق عبر محاكمات صورية في الغالب.
وبعد عام 2003، وسقوط نظام صدام حسين بالدبابات الأميركية، بشرت الطبقة السياسية الحالية التي جاء بها الأميركيون، أو جاءوا معهم، العراقيين بمسألتين: الأولى الديمقراطية عبر دستور دائم، وبطاقة تموينية تحتوي حتى على أمواس الحلاقة. وفي أواخر عام 2005، صوت 82 في المائة من العراقيين على الدستور بالهوسات والأهازيج الشعبية، دون أن يقرأوا حرفاً واحداً فيه، بل إن بعض من كتب الدستور لا يعرف حتى الآن كم مادة هو... هل هو 144 مادة، أو أكثر ولكن حذفت؟ بل إن منهم من لا علم له بكيف كتب الدستور.
المعلن أن الإرادتين الشيعية والكردية، أيام ما كان يعرف بـ«التحالف التاريخي» بين الشيعة والكرد، كتبتا الدستور، بينما كان السنة يجلسون على مصاطب المعارضة أو الاحتياط، في حال كانت هناك حاجة لإكمال النصاب. بعد سنوات، انتهى التحالف التاريخي بين الكرد والشيعة. وفي حين رفض السنة الدستور لاحتوائه على الفيدرالية، على الرغم من دخولهم العملية السياسية طبقاً للمحاصصة العرقية والطائفية والمذهبية، فإنه في السنوات اللاحقة جرت مياه كثيرة من تحت أقدام الجميع، بحيث صار السنة من أبرز المطالبين بالفيدرالية التي أقرها الدستور، وبالتالي تحولوا إلى متهمين بتقسيم العراق من قبل كثير من الأطراف الشيعية، بينما حصل نوع من الاصطفاف السني - الكردي (لم يتحول إلى تحالف تاريخي، بل يكاد يكون محكوماً بالجغرافية التي تجعل السنة والكرد متجاورين؛ الكرد في الشمال والعرب السنة في المناطق الشمالية والشمالية الغربية).
وفي عام 2010، وبعد تجربتين انتخابيتين في البلاد، دخلت المحكمة الاتحادية على الخط بشكل عده الجميع تعسفياً، لجهة تشكيل الحكومة العراقية آنذاك. فخلال انتخابات عام 2010، فازت القائمة العراقية، بزعامة الدكتور إياد علاوي، التي تضم العرب السنة بالمرتبة الأولى (91 مقعداً). وطبقاً للمادة (76) من الدستور، فإن الكتلة الأكبر هي القائمة التي تفوز بالعدد الأكبر من المقاعد. ولغرض قطع الطريق أمام هذه القائمة التي غالبية أعضائها من السنة، وإن تزعمها شيعي (إياد علاوي)، فقد أصدرت المحكمة الاتحادية وقتها فتوى فسرت فيها الكتلة الأكبر بأنها تلك التي يمكن أن تتشكل بعد الانتخابات داخل قبة البرلمان.
كان الهدف من هذا التفسير إتاحة المجال أمام القائمة الثانية، وهي قائمة ائتلاف دولة القانون، بزعامة نوري المالكي، لتشكيل الحكومة، حيث كانت قد حصلت على 89 مقعداً، وشكلت الحكومة بالفعل.
وفي عام 2018، انعكست الآية تماماً، حيث إن القائمة التي يراد لها أن تشكل الحكومة لم تكن الثانية، فعادت المحكمة الاتحادية نفسها وفسرت الكتلة الأكبر بمفهوم مناقض تماماً لتفسيرها عام 2010.
واستمرت إشكالية المحكمة الاتحادية حتى دخلت فيما بعد جدلاً فقهياً ودستورياً مع مجلس القضاء الأعلى، حيث لا يزال هذا الجدل مستمراً إلى اليوم، لا سيما بعد أن فقدت المحكمة ثلاثة من أعضائها التسعة (اثنان بسبب الموت، والثالث بسبب التقاعد؛ وكلهم تجاوزت أعمارهم التسعين عاماً). وحيث اختل النصاب، فإنه لم يعد بإمكان المحكمة الاتحادية تفسير الخلافات على الدستور، أو المصادقة على نتائج الانتخابات، إذا ما أجريت في الشهر العاشر من هذا العام؛ دخل البرلمان على الخط، فهو ملزم إما بتشريع قانون جديد للمحكمة الاتحادية وإما تعديل المادة الثالثة من قانون المحكمة الاتحادية النافذ رقم (30) لسنة 2005. فالبرلمان أمامه استحقاق انتخابي وشيك، ولأن المحكمة الاتحادية معطلة من الناحية العملية فإن الحاجة باتت ماسة إما لتشريع قانون جديد وإما لتعديل القانون النافذ.
استمرت جلسات البرلمان على مدى الأيام الماضية من أجل حسم المحكمة الاتحادية والموازنة المالية. وبما أنه لا يوجد من الناحية المنطقية ربط بين القانونين، كان الربط سياسي بامتياز يتعلق بالخلاف حول فقهاء القانون وخبراء الشريعة: الكتل الشيعية تصر على إضافة فقهاء القانون للمحكمة الاتحادية، بينما السنة والكرد لا يفضلون ذلك معتبرين أن إضافة فقهاء القانون يقدح بأصل النظام الديمقراطي في العراق، بصفته نظاماً ديمقراطياً. الشيعة من جانبهم يحاججون بالدستور الذي ينص في المادة (2) منه على عدم جواز تشريع قانون يتعارض مع أحكام الإسلام. ومع أنه ينص في المادة نفسها على عدم تشريع قانون يتناقض مع الديمقراطية، فإن الخلاف حول أحكام الإسلام هو الذي ينتصر عند التصويت.
وفي هذا السياق، يقول الخبير القانوني أحمد العبادي لـ«الشرق الأوسط» إن «الأفضل للعراق في الواقع هو تعديل القانون الحالي، وليس تشريع قانون جديد»، مبيناً أن «شرط إضافة الفقهاء، والإصرار عليه، سوف يمثل إشكالية كبرى نأمل في تجاوزها بالاكتفاء بتعديل القانون الحالي».
وبيّن العبادي أن «وجود فقهاء القانون وخبراء الشريعة الإسلامية يشكل خطراً على القضاء في العراق لأن هذا الأمر يخالف أحكام المادة (88) من الدستور التي تنص على أن القضاة مستقلون، ولا سلطة لأحد عليهم، وبالتالي فإن إقحام فقهاء القانون وخبراء الشريعة يعني أن المحكمة الاتحادية أصبحت محاصصة عند التصويت، وهو ما يعني أن الأحزاب السياسية دخلت هذه المرة في صلب القضاء الذي يجب أن يبقى مستقلاً».



«دواء مر»... مخاوف عميقة وشراكة قلقة تجمع مصريين بـ«النقد الدولي»

السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
TT

«دواء مر»... مخاوف عميقة وشراكة قلقة تجمع مصريين بـ«النقد الدولي»

السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)

رغم قناعتهم بأنه الملجأ وقت الأزمات، وأنه الطريق الذي «لا بديل عنه» عندما تعصف التحديات الاقتصادية بالدولة، تجمع شراكة «قلقة» مصريين بـ«صندوق النقد الدولي»، وسط مخاوف عميقة من تبعات الالتزام بشروطه وتأثيرها في قدرتهم على تلبية احتياجاتهم اليومية، حتى باتت صورة الصندوق لدى كثيرين أشبه بـ«الدواء المر»، يحتاجون إليه للشفاء لكنهم يعانون تجرعه.

على قارعة الطريق جلست سيدة محمود، امرأة خمسينية، تبيع بعض الخضراوات في أحد شوارع حي العجوزة، لا تعلم كثيراً عن صندوق النقد وشروطه لكنها تدرك أن القروض عادةً ما ترتبط بارتفاع في الأسعار، وقالت لـ«الشرق الأوسط» ببساطة: «ديون يعني مزيداً من الغلاء، المواصلات ستزيد والخضار الذي أبيعه سيرتفع سعره».

وتنخرط مصر حالياً في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي تم الاتفاق عليه في نهاية 2022، بقيمة ثلاثة مليارات دولار، قبل أن تزيد قيمته في مارس (آذار) الماضي إلى ثمانية مليارات دولار، عقب تحرير القاهرة لسعر الصرف ليقترب الدولار من حاجز الـ50 جنيهاً. وتلتزم مصر في إطار البرنامج بخفض دعم الوقود والكهرباء وسلع أولية أخرى، مما دفع إلى موجة غلاء يشكو منها مصريون.

«دواء مر»، هكذا وصف الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة، قروض صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى ما يثيره «الصندوق»، في نفوس المصريين من «قلق»، ارتباطاً بما تولِّده «الديون والقروض» في نفوسهم من «أعباء ومخاوف».

يقول بدرة لـ«الشرق الأوسط» إن «المصريين دائماً ما يتحفزون ضد الصندوق نظراً لمتطلباته التي عادةً ما تؤثر في حياتهم وتزيد من أعبائهم المالية». وفي الوقت نفسه يؤكد بدرة أنه «لم يكن هناك باب آخر أمام الدولة المصرية إلا الصندوق في ظل أزمة اقتصادية بدأت عام 2011، وتفاقمت حدتها تباعاً».

كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قد أكد خلال لقائه ومديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، الأحد، في القاهرة أن «أولوية الدولة هي تخفيف الضغوط والأعباء عن كاهل المواطنين».

وتأتي زيارة غورغييفا للقاهرة عقب دعوة السيسي، نهاية الشهر الماضي، لمراجعة قرض صندوق النقد مع مصر «حتى لا يشكل عبئاً على المواطن» في ظل التحديات الجيوسياسية التي تعاني منها البلاد، وأعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أن «المراجعة الرابعة للقرض ستبدأ الثلاثاء»، وهي واحدة من أصل ثماني مراجعات في البرنامج.

الوصفة الاقتصادية القياسية التي يقدمها صندوق النقد عادةً ما ترتبط بالسياسة النقدية والمالية، لكنها «لا تشكل سوى ثلث المطلوب لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والهيكلي»، حسب الخبير الاقتصادي هاني توفيق الذي أشار إلى أنه «لا ينبغي ربط كل الأعباء والتداعيات الاقتصادية بقرض صندوق النقد».

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «اشتراطات صندوق النقد أو متطلباته أمور منطقية لكن لا بد أن تمتزج بخطوات إصلاح هيكلي اقتصادي لتحفيز الاستثمار والنظر في الأولويات».

بدوره، قال الخبير الاقتصادي المصري، مدحت نافع لـ«الشرق الأوسط» إن «صندوق النقد كأي مؤسسة مالية أخرى هو جهة مقرضة، لديها شروط مرتبطة بحجم مخاطر الدين وبأجندتها التي قد لا تتوافق دائماً مع أجندة الدولة وأولوياتها الوطنية».

ولفت نافع إلى أن «دراسات عدة أشارت إلى أن برامج صندوق النقد عادةً ما تحقق أهدافاً جيدة على المدى القصير من حيث كبح جماح التضخم وتحرير سعر الصرف، لكنها على المدى الطويل قد تؤدي إلى تداعيات سلبية على مستويات النمو الاقتصادي ونسب عجز الموازنة والبطالة».

لكن رغم ذلك يؤكد نافع أن «مصر كانت بحاجة إلى قرض صندوق النقد»، فهو على حد وصفه «شهادة دولية تتيح لمصر الحصول على تمويلات أخرى كانت في أمسّ الحاجة إليها في ظل أزمة اقتصادية طاحنة».

علاقة مصر مع صندوق النقد تاريخية ومعقدة، ويرتبط في مخيلة كثيرين بوصفات صعبة، تدفع نحو اضطرابات سياسية وأزمات اقتصادية، وربما كان ذلك ما حفَّزهم أخيراً لتداول مقاطع فيديو للرئيس الراحل حسني مبارك يتحدث فيها عن رفضه الانصياع لشروط الصندوق، حتى لا تزيد أعباء المواطنين، احتفى بها رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

وهنا يرى بدرة أن «الظروف السياسية والاقتصادية في عهد مبارك كانت مغايرة، والأوضاع كانت مستقرة»، مشيراً إلى أن «مبارك استجاب لمتطلبات الصندوق وحرَّك سعر الصرف لتصل قيمة الدولار إلى 3.8 جنيه بدلاً من 2.8 جنيه».

واتفق معه توفيق، مؤكداً أن «الوضع الاقتصادي في عهد مبارك كان مختلفاً، ولم تكن البلاد في حالة القلق والأزمة الحالية».

ووفقاً لموقع صندوق النقد الدولي، نفّذت مصر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أربعة برامج اقتصادية بدعم مالي من الصندوق، بقيمة 1.850 مليار دولار، لكنها لم تصرف سوى خمس المبلغ فقط، ما يعادل 421.3 مليون دولار. حيث تم إلغاء وعدم استكمال بعضها، بعد أن مكَّن الاتفاق مع الصندوق مصر من إلغاء 50 في المائة من دينها الرسمي في «نادي باريس».

ولتلافي التداعيات السلبية لقرض «صندوق النقد» أو على الأقل الحد منها، شدد نافع على «ضرورة الموازنة بين متطلبات (صندوق النقد) وبين أجندة الدولة الإصلاحية».

وقال: «تعديل شروط الصندوق أو تأجيل تنفيذ بعضها ليس صعباً في ظل أن الهدف الأساسي من الخطة، وهو كبح التضخم، لم يتحقق»، مشيراً في السياق نفسه إلى أن «الصندوق أيضاً متورط ويرى أن عدم نجاح برنامجه مع مصر قد يؤثر سلباً في سمعته، مما يتيح إمكانية للتفاوض والتوافق من أجل تحقيق أهداف مشتركة».

وانضمت مصر لعضوية صندوق النقد الدولي في ديسمبر (كانون الأول) 1945، وتبلغ حصتها فيه نحو 1.5 مليار دولار، وفقاً لموقع الهيئة العامة للاستعلامات، الذي يذكر أن «تاريخ مصر مع الاقتراض الخارجي ليس طويلاً، وأن أول تعاملاتها مع الصندوق كان في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عامَي 1977 و1978 بهدف حل مشكلة المدفوعات الخارجية وزيادة التضخم».

وعقب أحداث 2011 طالبت مصر بالحصول على قرض من الصندوق مرة في عهد «المجلس العسكري» ومرتين في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، لكنها لم تحصل عليه. وعام 2016 وقَّعت مصر اتفاقاً مع الصندوق مدته ثلاث سنوات بقيمة 12 مليار دولار. وعام 2020 حصلت مصر على 2.77 مليار دولار مساعدات عاجلة للمساهمة في مواجهة تداعيات الجائحة، وفقاً لهيئة الاستعلامات.