يعد برنامج «عالم البستنة» (غاردنرز وورلد) التلفزيوني من المؤسسات العريقة في المملكة المتحدة، إذ يوشك البرنامج على بدء الموسم 54 قريبا، وذلك بعد العرض الأول له في عام 1968. وهو يُذاع في ليالي الجمعة من كل أسبوع، ويرحب به المشاهدون كافة كبداية جميلة لعطلة نهاية الأسبوع.
كان السيد مونتي دون، الكاتب البريطاني ومؤلف أكثر من 20 كتابا حول الحدائق، هو مضيف البرنامج الشهير منذ عام 2003، وإن كان مظهر السيد مونتي الثابت وصوته القوي المطمئن لا يبعث بالراحة لدى الجمهور، فهناك حضور دائم لحيواناته الأليفة الراقدة عند قدميه.
وفي العام الماضي، وعلى مدار الموسم المكون من 33 حلقة، والذي يتبع الموسم الجديد من مارس (آذار) وحتى أكتوبر (تشرين الأول)، حدث شيء مهم للغاية: تحول «عالم البستنة» من مجرد برنامج تلفزيوني مريحة مشاهدته إلى برنامج لا غنى عن مشاهدته لأحد.
مع إغلاق المطاعم، والمقاهي والمسارح، وصار التواصل الاجتماعي في المنازل (أو في أي مكان آخر) مفعما بالمخاطر، ظلت البستنة واحدة من الأنشطة الترفيهية القليلة التي لم يسيطر عليها الوباء. وشهدت البستنة طفرة معتبرة في العام الماضي لدى كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، سيما مع ارتفاع مبيعات البذور، وتسيد التسوق في المشاتل في عطلات نهاية الأسبوع.
ولقد استحوذ برنامج «عالم البستنة»، الذي يُذاع في الولايات المتحدة عبر خدمات البث مثل «بريت بوكس» وعلى موقع يوتيوب، على جُل الحماس والترحيب. وفي العام الماضي، كان معدل المشاهدات الأسبوعية هو الأكبر خلال خمس سنوات، واعتبرت هيئة الإذاعة البريطانية، التي تذيع البرنامج (من إنتاج استوديوهات هيئة الإذاعة البريطانية)، أنه من خدمات البث العامة الأساسية، تماما كما قال المنتج التنفيذي غاري برودهيرست.
يقول السيد برودهيرست: «يرجع السبب إلى ما يمكن أن تقدمه البستنة إلى الناس. وتعتقد القناة، وهي على حق، أن الناس في حاجة إلى ذلك البرنامج. نظراً لحالة الإغراق الراهنة بأخبار الفيروس، فإن هذه من الفرص السانحة لمدة ساعة واحدة فقط لإطلاق سراحنا ولو بصفة مؤقتة».
كانت مشاهدة أزهار النرجس البري وأزهار الجرس الزرقاء رفقة الخضراوات التي يزرعها السيد مونتي، تعد من أساليب المكافحة السلبية في مواجهة الوباء: إذ إن الحياة مستمرة وتدوم. كما أن أصوات زقزقة العصافير التي تسمعها مع بداية كل حلقة تعمل كمثل الترياق الناجع من أخبار المساء الصادمة. وإيجازا للقول، فإن برنامج «عالم البستنة» يعد بمثابة واحة الحياة الطبيعية، وبلسماً لتهدئة الأعصاب المتوترة، وليس موجهاً للجمهور البريطاني فحسب.
تحولت أليكس يسكي، مديرة الفنون ومصممة الغرافيك، إلى مشاهدة برنامج «عالم البستنة» في وقت مبكر من بداية انتشار الوباء، سيما مع شعورها بالحبس والعزلة داخل شقتها في نيويورك مع الإجهاد من مواصلة التحديق في شاشات الحواسيب. وهي تقول عن ذلك: «بلغ الكثيرون منا حدود الطاقة والاستطاعة فعلا. وإنني أقضي الكثير من وقتي أمام شاشات الحاسوب والهاتف الذكي. وأشعر حاليا بنوع من الهدوء والاسترخاء مع رؤية كل هذه المساحات الخضراء أمامي». كانت السيدة راموس تعيش في شقة في وسط مدينة بيثيسدا بولاية ماريلاند من دون أي مساحات خضراء على الإطلاق، ولم تكن عملت في مجال البستنة من قبل، ولكن المجال كان يستميل أفكارها منذ فترة، ولقد قالت: «لا بد لي من مشاهدة إحدى حلقات البرنامج قبل نومي كل يوم. إن طريقة عرض الحلقات بديعة للغاية. حتى الأصوات المصاحبة: زقزقة الطيور وصوت الأمطار. كانت تلك العناصر الطبيعية تبعث على الكثير من الارتياح الحقيقي».
يستضيف السيد مونتي، 65 عاما، برنامج «عالم البستنة» من منزله وحديقته وتبلغ مساحتها فدانين كاملين، ويطلق عليها اسم حديقة «لونغميدو»، في ويست ميدلاندز بإنجلترا. وفي الحلقة الأولى من الموسم الأخير، لم يكن هناك أي ذكر لفيروس «كورونا» المستجد على الإطلاق. وبحلول الحلقة الثالثة من نفس الموسم، كانت المملكة المتحدة ترزح تحت وطأة الإغلاق القسري العام، في حين كان السيد مونتي يصور الحلقة من دون طاقم التصوير المرافق، ويحصل على نصائح ضبط الكاميرا من مخرج البرنامج عبر تطبيق زووم المرئي.
الاستعداد للربيع
قال السيد مونتي الشهر الماضي: «قطرات الثلج آتية، ونبات البيش، والزعفران، وزهور السوسن. ولقد بدأنا في رؤية البراعم على الأشجار والشجيرات الصغيرة». كان يتحدث عبر الدردشة المرئية من مزرعته «لونغميدو» حيث اقترب الشتاء الممطر على الرحيل، وشرع هو رفقة عمال البستنة الذين يساعدونه في تغطية الحدود وحفر بعض أحواض النباتات التي أصابتها الآفات.
كان مونتي ينتظر قدوم الربيع بفارغ الصبر، ثم عودته إلى برنامج عالم البستنة. ولقد قال عن ذلك: «لقد كان شتاء طويلا، وقارسا، وصعبا هنا. والناس مصابون بالاكتئاب والضيق والتوتر. لذلك، ينشدون تنفس الصعداء مرة أخرى، والخروج من منازلهم، ولديهم شعور بالأمل الكبير».
وفي أفلامه الوثائقية الخاصة به، بما في ذلك فيلم «حدائق دون مونتي الإيطالية»، و«حدائق دون مونتي الأميركية»، وغيرها من المقابلات الشخصية، يضفي مونتي على أعمال البستنة نوعا من الدراما، والشغف الفريد من نوعه.
أما برنامج «عالم البستنة»، على العكس من ذلك، فهو يتسم بالهدوء الشديد، ومن دون الكثير من المبالغات أو الإنشغال ذائع الصيت في وسائل الإعلام الحديثة. وعندما يعمل مونتي في مزرعته الخاصة، فإننا لا نسمع أبدا للموسيقى التصويرية الخلفية. ولا يجري عرض أحوال الطقس داخل البرنامج أو خارجه. وإذا ما أمطرت السماء، فإن ملابسه تبتل كالمعتاد. والحلقات التي تصور الحدائق وعمال البستنة تتيح مساحة للتنفس، مع اللقطات المقربة التي تصور الزهور، أو حفيف الأشجار، والنسيم الذي يلاعب الأفرع والغصون. يقول مونتي: «تكمن القاعدة الأولى في إزاحة كافة الضغوط والتوترات التي تعتري عالمك بصفة يومية. لكن في نفس الوقت، لا بد أن تكون صادقة، فلا شيء اصطناعيا هنا. ونحن لا نذيع زقزقة العصافير ما لم تسمعوها في الطبيعة أولا».
من المجوهرات إلى البستنة
عكف والدا مونتي على زراعة قطعة أرض مساحتها 5 أفدنة في منزل العائلة بجنوب إنجلترا، ومع مرور السنين، حصل هو رفقة إخوته على وظائف البستنة لمواصلة نفس العمل. وعندما كان صغيرا، كان يكره نزع الأعشاب الضارة عن الفراولة أو تقطيع الأخشاب، لكن مع بلوغه 17 عاما، وأثناء زراعة بعض البذور في فصل الربيع، شعر بتحول كبير في شخصيته واهتماماته بعد ذلك. وقال: «شعرت على نحو مفاجئ بإحساس من النشوة الغامرة، وبشعور كامل لعدم الرغبة في القيام بأي شيء آخر». احتفظ مونتي بهوايته لنفسه. ومن حسن الحظ، أن زوجته سارة، التي التقى بها في جامعة كامبريدج، كانت مهتمة بالبستنة أيضا. وفي عام 1981 أنشأ الزوجان شركة للمصوغات والمجوهرات تحت اسم «مونتي دون». وحصلت تصميمات الشركة على الكثير من الشهرة في ثمانينات القرن الماضي، وكانت من العلامات المفضلة لدى الأميرة ديانا والمطرب الراحل مايكل جاكسون، وغيرهما. وعاش مونتي حياة مرفهة في العاصمة لندن، ولكنه كان يواصل البستنة رفقة زوجته في الفناء الخلفي لمنزلهما، وذلك عندما عرضت مجلة «إيل» مقالا يدور حول تلك التجربة الخاصة بهما.
*خدمة «نيويورك تايمز»