ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

انضمامه لإدارة بايدن قد يؤشر لتشدّد أميركي في الملف النووي

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران
TT

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

ريتشارد نيفيو... «مهندس» العقوبات و«شفرة» الضغوط القصوى على إيران

عندما طُرح اسم روبرت مالي لشغل منصب المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون إيران، قوبل اختياره بترحيب إيراني وانتقادات في واشنطن ومخاوف من تساهله وسياساته المهادنة. ولكن خلال الأسبوع الماضي أعلن الرئيس جو بايدن تعيين ريتشارد نيفيو في منصب نائب المبعوث الخاص في وزارة الخارجية الأميركية، وهذه المرة حدث العكس؛ إذ قوبل تعيينه بترحيب واسع في أوساط السياسيين وبصفة خاصة الجمهوريون، واستياء وانتقادات لاذعة في الجانب الإيراني. أما السبب، فهو أن سجل نيفيو الحافل في قيادة سياسة العقوبات الأميركية دقّ أجراس الإنذار في إيران بشكل واسع. ولقد وصف أحمد ناردي، عضو البرلمان الإيراني، هذه التعيين بأنه «دليل على حقد إدارة بايدن»، ووصف نيفيو بأنه «مهندس العقوبات القمعية ضد إيران» و«محامي الشيطان».
الانتقادات الأميركية لخطوة تسليم قيادة ملف العلاقات مع إيران لروبرت مالي جاءت تخوفاُ من مسار متساهل تقوده إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية لإحياء الدبلوماسية مع إيران، إلا أن الترحيب بتعيين نيفيو، الخبير المخضرم في العقوبات، جاء ليطمئن المتخوّفين إلى أن الإدارة لن تغير موقفها بسهولة تجاه إيران. بل يرى كثيرون، أنه تعيين لا يبشر بالخير لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؛ لأن ضم نيفيو إلى فريق بايدن يتزامن مع وضع طهران مسألة رفع العقوبات على قمة أولوياتها وربطت إعادة أحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» (أي الاتفاق النووي) برفع العقوبات الأميركية عن طهران. والرجل الذي أتقن «فن هندسة العقوبات» لن يشارك على الأرجح في العمل على رفعها.
في هذه الأثناء، يقول مسؤولون في الخارجية الأميركية، إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن يحاول أن يدفع بكل من مالي ونيفيو في المفاوضات حول الاتفاق النووي ليشكلا معاً تنوعاً في وجهات النظر، وتنفيذ سياسة «شد وجذب» وفقاً للمتغيرات، وإحداث نوع من التوازن في التعامل الأميركي مع الملف؛ لكونهما يملكان خبرة طويلة في التعامل مع إيران، ولقد تعلما من التجارب السابقة في التفاوض مع ساستها
- من هو نيفيو؟
يصف عارفو ريتشارد نيفيو، بأنه شخص حاد، الذي لا يهادن ولا يجامل، وهو خبير مرموق في الشؤون الأمنية، وبالأخص، في مجال الأسلحة النووية. ولقد عمل مديراً في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولمبيا العريقة في مدينة نيويورك، وكذلك شغل منصب كبير الباحثين في كلية الشؤون الدولية بكولمبيا. وهو يحمل درجتي البكالوريوس في العلاقات الدولية والماجستير في السياسات الأمنية من جامعة جورج واشنطن في العاصمة واشنطن.
انضم نيفيو إلى فريق إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في منصب مدير شؤون إيران ضمن مجلس الأمن القومي بين 2011 و2013، وفي ذلك الوقت أشرف على عمليات توسيع العقوبات على إيران قبل إبرام الاتفاق النووي عام 2015. وكذلك شارك في رسم العقوبات على كلٍ من روسيا وكوريا الشمالية. بعدها، شغل منصب نائب المنسق الرئيسي لسياسة العقوبات في وزارة الخارجية من 2013 إلى 2015، ومن ثم انضم إلى معهد بروكينغز زميلاً غير مقيم في مبادرة الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي. ولقد برز اسمه بعد تأليفه «فن العقوبات» الذي نشر عام 2017، وهو يحدد طريقة وأسلوب تفكيره ومنهجه في استخدام العقوبات كأداة للسياسة الخارجية.
نيفيو يعتبر أن العقوبات تحقق أقصى قدر من الفاعلية حين تعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية، هي: أولاً وضوح الهدف المحدد المرجو تحقيقه. وثانياً فهم واضح لهدف العقوبات بمعنى معرفة نقاط الضعف ونقاط القوة، وأفضل طريقة لاستنزاف الهدف. وثالثاً توفير قصة مقنعة حول السبب وراء فرض العقوبات والحصول على دعم دولي لها، وتحديد الوقت المناسب لرفع العقوبات بعد أن تكون قد حققت أهدافها. وهو يرى أن اعتماد هذا الأسلوب أسهم في «إنجاح المفاوضات» مع الجانب الإيراني ووضع «خطة العمل المشتركة الشاملة» (الاتفاق النووي) إبان عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وهو يقول في كتابه، إن الدول تتجه بشكل متزايد إلى العقوبات كأداة للسياسة الخارجية، لكن هذه الأداة العقابية تفقد كفاءتها وهدفها في تغيير سلوك الكيان المستهدف إذا ما استخدمت من دون استراتيجية واضحة. ومن ثم، يصف أسلوب فرض العقوبات بأنه «فن يحتاج إلى نوع خاص من الإبداع لدى صناع القرار، ويحتاج إلى لاعب ماهر، مثل لاعبي كرة القدم، يجيد المناورة والتلاعب في استخدام الأدوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأدوات للعقوبات».
- عقوبات إدارة أوباما
الفكرة الأساسية في العقوبات التي فرضتها إدارة أوباما على إيران هي أن تتسبب في «إيلام» طهران، لكن في الوقت نفسه لا ينبغي للعقوبات أن تسبب الألم أو الضرر فحسب، بل أن تركز أيضاً على تعزيز أهداف وغايات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهنا يأتي هدف إجبار إيران على إنهاء برنامجها النووي.
في المقابل، يقول فريق من المحللين، إن استراتيجية العقوبات الأميركية ضد إيران فشلت. إذ إنه بينما فرضت العقوبات على قطاع البتروكيماويات الإيراني، بدأ الإيرانيون في ترشيد استهلاك الوقود؛ ما أدى إلى انخفاض الاستهلاك. كذلك زادوا إنتاج الوقود، وتحديداً البنزين والديزل، في المصافي... وبهذه الطريقة نجحوا في الالتفاف على استراتيجية مقاطعة عقوبات البتروكيماويات والغاز. ومن ثم، لجأوا إلى تطوير القطاعات غير النفطية، كما حاول النظام الإيراني بيع المنتجات بأساليب غير شرعية وغير قانونية.
على هذا يرد ريتشارد نيفيو، مشدداً على عامل «الحرب النفسية» في العقوبات وتأثيرها الذي يتجاوز تطبيع العقوبات وإنفاذها. ويؤكد أن الحرب النفسية على إيران لعبت دوراً أساسياً في دفع النظام الإيراني إلى اتخاذ قرارات خاطئة ووقوع الصدام بين رجال الدولة، إضافة إلى خلق حالة اليأس والإحباط لدى الشعب الإيراني.
ثم إنه يقول بأنه لا بد من فهم واضح لهدف العقوبات ودوافعها، ومراعاة العوامل النفسية مثل القدرة على مقاومة العقوبات، ومراقبة وتقيين العقوبات باستمرار، وكذلك امتلاك فكرة واضحة عن الشروط والأحكام لرفع العقوبات والقدرة على نقل الرؤية إلى الهدف. ويحذر، بالتالي، من أنه ما لم تتحقق هذه المبادئ، فقد ينتهي الأمر بالعقوبات إلى المبالغة أو التقليل... ما يدل في كلتا الحالتين على قلة نجاعتها.
- انتقاده عقوبات ترمب
بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترمب من الاتفاق النووي عام 2018، خرج ريتشارد نيفيو بانتقادات للعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب على الجانب الإيراني. وأشار في حوارات عدة إلى أن ترمب اتبع نهج العقوبات، لكنه لم يستطع الاستفادة منها. وتابع «المشكلة الأكبر لسياسة عقوبات ترمب كانت في افتقارها للدعم الدولي والعلاقة الإيجابية اللازمة لكي تكون العقوبات فعالة. ثم إنها كانت مفرطة في التوجّه وغير قابلة للتكيّف بشكل كافٍ مع الشواغل الدولية والبيئة الدولية». وأردف «إن ممارسة ضغط بغية تحقيق هدف ما، تعني تحاشي التحرك ببطء، وكذلك تجنب التحرك بسرعة».
وفي ندوة عقدها نيفيو في «مركز أبحاث الأمن العلمي» (CGSR)، خلال العام الماضي، أشار إلى أن التوترات تصاعدت الولايات المتحدة وإيران بعد قرار ترمب الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» واستئناف حملة العقوبات. وأضاف، أن مستشاري ترمب الذين ساندوا هذا القرار كانوا يتوقعون بالتأكيد هذا التوتر من جانب إيران، وكانت لديهم خطة للتعامل مع الطريقة التي ستتعامل معها إيران مع الضغط العسكري والاقتصادي. ومن ثم، خلص إلى وصف سياسة ترمب بأنها كانت «فاشلة... إذ إن حملة العقوبات القصوى لم تكن حملة ضغط قصوى، ولم ينجم عنها تغيير في سلوك إيران، ولم تدفع إيران لمفاوضات لاتفاق جديد كما كانت ترغب إدارة ترمب».
وبعد هذه استطرد موضحاً، أنه يوافق على العقوبات، لكنه يختلف في أسلوب فرضها وكيفية الحصول على الأهداف المرجوة منها، وقال «أنا متوافق مع فكرة الضغط القصوى، وهي تتوافق مع ما قمنا به منذ إدارة جورج بوش الابن، وإدارة أوباما. ولذا؛ أنا لا أختلف في فكرة فرض العقوبات؛ ففي رأيي أن العقوبات كانت وسيلة فعالة لدفع إيران لتغيير سياساتها النووية، لكن الفارق بين عقوبات (بوش أوباما) وعقوبات ترمب أن الأولى كانت عقوبات ارتبطت بوسائل ضغط على الإيرانيين. كانت خليطاً من العقوبات أعطت إدارة أوباما نوعاً من المزايا على الإيرانيين للتفاوض حينما جاءوا إلى الطاولة، وكنا في المقابل مستعدين لإعطائهم عرضاً جعل الاستراتيجية التي اتبعها بوش وأوباما في العقوبات تنجح».
- نصف استراتيجية فقط
وفي سياق انتقاده سياسات ترمب، ادعى أن الرئيس السابق «استخدم فقط نصف الاستراتيجية، وفرض العقوبات دون أن يكون لديه مساندة دولية، وهو أمر مهم في التواصل وفرض العزلة الاقتصادية». وذكر أن الرسالة التي كان يجب أن تصل إلى إيران هي أنها معزولة دولياً؛ ولذا عليها تغيير سلوكها. وهنا واضح أنه يشير إلى أهمية المساندة الدولية لفرض العقوبات، وبالذات من الدول التي لها ثقل وتواصل مع إيران، وتستطيع أن تضغط عليها وإفهامها بضرورة تغيير سلوكها، والقصد هي الدول التي لها علاقات تجارية مع إيران مثل الهند والصين وروسيا.
هنا، يشدد نيفيو على أن إيران تهتم كثيراً بتوجهات المجتمع الدولي، وتريد منه الاعتراف بها كدولة مستقلة لها دور على الساحة الدولية، ولقد تألمت حينما أوقف الأوروبيون الصفقات الاقتصادية معها، وكذلك حينما أوقفت الهند استيراد النفط منها في عامي 2010 و2011. وهو في كل هذا، يلوم إدارة ترمب على «التصرف بشكل أحادي من دون العمل مع الحلفاء والشركاء في فرض عقوبات من خلال مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة». ويتابع «عندما نتكلم مع حكومات أوروبا وآسيا ونطالبهم بمساندتنا، فإنهم يتعاملون بجدّية مع قرارات مجلس الأمن التي لها ثقل قانوني وسياسي، وليس فقط لأن أميركا تريد منهم القيام بذلك».
وفي سياق انتقاد عقوبات ترمب، يزعم نيفيو أن تنفيذ العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب «كان متذبذباً وغير منسق ويشوبه الكثير من الغموض». ويقول إنه عندما فرض ترمب عقوبات ضد شركات الشحن الصيني، أدى ذلك إلى إشكاليات كبيرة تتعلق بزيادة أسعار الشحن، ورفع أسعار النفط، وإقدام شركات عديدة على إلغاء العقود... ما أثر على الاقتصادين الأميركي والاقتصاد الصيني معاً.
ثم، مع أن نيفيو يتقبل أن حملة الضغط القصوى التي فرضتها إدارة ترمب أدت إلى تأزم الاقتصاد الإيراني ومعاناته من ارتفاع في التضخم ومستويات البطالة وتراجع معدلات النمو، فهو يذكّر بأن الاقتصاد الإيراني تأقلم مع الأزمات منذ عقود، والتأزم الاقتصادي لا يعني الانهيار السياسي. ثم يقول، إنه رغم نفي إدارة ترمب نيتها تغيير النظام في إيران، فإن أفعالها كانت تشير إلى ذلك. ولقد راهنت إدارة ترمب – حسب زعم نيفيو – على غضب شعبي على السلطة من جراء الضغوط الاقتصادية والعقوبات، «لكن الإيرانيين كانوا ينظرون إلى ما حدث في سوريا وليبيا ولا يريدون أن يعانوا معاناة شعوب تلك الدول، ولا يريدون تغييراً سياسياً يقود إلى مصير مثل مصير سوريا وليبيا... كما كان النظام الإيراني مستعداً تماماً لاستخدام القوة من أجل الحفاظ على السلطة». ويتابع «إن سياسة العقوبات الأميركية إلى فرضتها إدارة ترمب انطوت على شكوك دولية حول نيات الولايات المتحدة ومصداقيتها، وشكوك حول فاعلية العقوبات ومدى تأثيرها. ولذا، فهو يرى أن سياسات ترمب أعادت الولايات المتحدة إلى ما كانت عليه المواقف في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013».
في أي حال، ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فكل رجالات الرئيس أوباما الذين انخرطوا في المفاوضات مع الفريق الإيراني ها هم يعودون إلى الخطوط الأمامية. وبجانب ريتشارد نيفيو، هناك مالي وويندي شيرمان ومعهم الفريق المكلف شؤون إيران من البنتاغون والخارجية والخزانة، وأمامهم جميعاً تحديات جديدة في المنطقة، وتغييرات جيوسياسية متشابكة تتطلب منهم تفكير جديدة واستراتيجية أكثر حنكة لوضع إيران على مسار الصحيح. فهل ستنجح السياسات المهادنة أم لا بد من الإجراءات العقابية؟



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.