طبيبات وممرضات في الصفوف الأمامية لمكافحة «كورونا»

اختبرن الموت على مدى عام كامل... وعملن لأشهر من دون يوم إجازة

عاملة صحة تتلقى لقاح «كورونا» في المركز الطبي للجامعة الأميركية ببيروت (رويترز)
عاملة صحة تتلقى لقاح «كورونا» في المركز الطبي للجامعة الأميركية ببيروت (رويترز)
TT

طبيبات وممرضات في الصفوف الأمامية لمكافحة «كورونا»

عاملة صحة تتلقى لقاح «كورونا» في المركز الطبي للجامعة الأميركية ببيروت (رويترز)
عاملة صحة تتلقى لقاح «كورونا» في المركز الطبي للجامعة الأميركية ببيروت (رويترز)

منذ فبراير (شباط) الماضي، وهنّ حبيسات مسافة الأمان، مسافة يحسبنها بدقة لتتحول إلى حاجز يقف بينهن وبين أحبائهن من أهل وأبناء، هن ممرضات وطبيبات انضممن منذ اللحظة الأولى لفرق مكافحة وباء كورونا، عملن لأشهر بلا يوم إجازة واحد، حزنّ لخيبة أصابت أمهات وآباء فقدوا أحد أبنائهم وفرحن لجدّة عادت إلى الحياة بعدما كان الفيروس أوصلها إلى حافة الموت. الممرضات والطبيبات لم يختبرن مشاعر متناقضة يوماً بقدر ما اختبرن هذا العام، إذ يتحدثن عن تعب وقوّة، عن يأس وأمل، عن رغبة بنزع السترة البيضاء والهروب، وعن إصرار على البقاء في الخطوط الأماميّة، أمّا الشعور الأصعب فكان الشعور بالذنب تجاه عائلاتهن، إذ غالباً ما كنّ يضطررن للغياب عن المنزل لساعات طويلة بسبب العمل، والبقاء بعيدات عن أحبائهن وإن كانوا في المنزل نفسه.
«منذ عام وأنا لم أضمّ أمي إلا مرة واحدة بعد شفائي مباشرة من كورونا، إذ لم أكن أقترب منها، نعيش في المنزل نفسه، ولكن مع الالتزام بالتباعد، إنها مسافة الأمان التي أفرضها على نفسي بسبب طبيعة عملي»، تقول الاختصاصية بالأمراض الجرثومية الدكتورة ميشال صليبا (37 عاماً)، في حديث مع «الشرق الأوسط»، إنّ الهاجس الذي لم يفارقها لحظة هو احتمال نقل العدوى إلى والدتها البالغة من العمر 58 عاماً.
تتحدّث صليبا عن عام متعب ومضنٍ، عن عمل لساعات متواصلة وأشهر بلا يوم إجازة واحد، عن لحظات حزن وخوف واستسلام، وتقول: «نحن لسنا أبطالاً خارقين، نعم بكيت مراراً ربما مع كلّ مريض اعتنيت به وكنت متفائلة بشفائه ثمّ انتكست حالته وتوفي، مع كلّ مريض اعتنيت به وكنت أشعر بأنني عاجزة عن إنقاذه، بكيت عند مشهد المرضى ينتظرون غرفة يعالجون فيها أو يبحثون عن أجهزة أكسجين ولا يجدونها»، مضيفة: «فكّرت ربما للحظات أن أترك العمل، أن أدير ظهري للوباء وأسترح. لكنني لم أستطع، واجبي أن أكون هنا أحارب الوباء الذي يهدّد الناس، لذلك كنت أعود وبعزم». مقابل كلّ لحظة ضعف، تتحدّث صليبا عن لحظات شعور بالرضا وبالراحة النفسيّة نابع من كونها قادرة على المساعدة في مكافحة الوباء، فقد كان الأمل يتجدّد مع كلّ حالة شفاء ومع كلّ يوم ترى نفسها تقوم بواجبها.
لا تفارق وجه صليبا البسمة وهي تتحدّث عن تجربتها كطبيبة في الصفوف الأمامية، وتضحك بصوت مسموع حين تصف خوفها، لا سيّما بداية العمل مع الوباء حيث كانت تشعر بالعوارض كلّ لحظة. حين أصيبت صليبا بكورونا بداية شهر يناير (كانون الثاني) نسيت أنها طبيبة، سيطر عليها الخوف والهلع، أخذت تتصل بصديقاتها المقربات تسألهن عن احتمال أن تكون قد نقلت العدوى إلى أمها، وكنّ يرددن إجابات تعرفها وهي التي كانت من أولى الطبيبات اللاتي التحقن بفرق كورونا، لا سيّما أنها تعمل بمستشفى رفيق الحريري الجامعي أول مستشفى استقبل حالات كورونا في لبنان، ثمّ تبتسم وتقول: «الحمد لله والدتي لم تُصَب».
لا ترى صليبا أنّ الأمر يختلف بين الطبيب والطبيبة فالموضوع إنساني بحت بالنسبة لها، وظروف عمل الطبيب والطبيبة يتشابهان، والابتعاد عن الأسرة وشروط الوقاية والتضحيات لا تختلف حسب الجنس. واعتبرت أنّ ما يواجه الطبيب في لبنان ليس فقط وباء كورونا، بل الوضع الاقتصادي الصعب، فانهيار قيمة العملة الوطنية جعلت معظم اللبنانين وبمن فيهم الأطباء يفقدون قيمة رواتبهم، وبالتأكيد بقاء الطبيبة أو الطبيب في لبنان لا يرتبط بالناحية المادية، لا سيّما أنّ العروض متاحة حالياً للسفر.
تشكل الطبيبات أكثر من 40 في المائة من الطاقم الطبي الموجود في لبنان الذي يضم نحو 15 ألف طبيب وطبيبة، حسبما يوضح نقيب الأطباء في بيروت شرف أبو شرف، مشيراً في حديث مع «الشرق الأوسط»، إلى أنّ هذه النسبة سترتفع مع الدفعات الجديدة، إذ إن نسبة الطبيبات الجدد أكثر من الأطباء في عدد لا بأس به من الاختصاصات.
ويشير أبو شرف إلى أنّ النسبة الكبرى من الطبيبات كما الأطباء وبسبب طبيعة عملهم هم على احتكاك يومي مع الوباء، وإن لم يكن كلّهم في الخطوط الأمامية، لافتاً إلى أنّ أوّل حالة إصابة في الطاقم الطبي كان لطبيبة، وأنّ لبنان فقد طبيبة واحدة، وهي فردوس صفوان التي توفيت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، جراء إصابتها بفيروس كورونا.
حتى اللحظة، لا تشعر صليبا برغبة في الهجرة للعمل خارج لبنان، ليس فقط لأنّها لا تقوى على ترك والدتها وحدها، بل أيضاً لعدم تحملها ترك لبنان وهو يواجه هذا الوباء في أصعب ظرف اقتصادي، فهي تأمل في أن ينتصر لبنان على هذا الوباء لتعانق والدتها، ومن ثمّ «تطفئ هاتفها وتأخذ إجازة طويلة».
وكان الطاقم الطبي خسر في لبنان 500 طبيب وطبيبة هاجروا إلى دول خليجية أو أوروبية والولايات المتحدة، حيث وجدوا فرص عمل أفضل، بعدما خسرت رواتبهم أو بدل أتعابهم 80 في المائة من قيمتها بسبب انهيار العملة الوطنية.
في موضوع مكافحة كورونا، قد لا تختلف يوميات الطبيبات عن يوميات الممرضات، فهنّ أيضاً يتحدثن عن التعب والهواجس نفسها، لا سيما خلال الشهرين الأولين من العام الحالي، حين ارتفعت أعداد الإصابات في لبنان بشكل غير مسبوق، فوصلت المستشفيات إلى ما يزيد على طاقتها الاستيعابية.
فاطمة عبيد (47 عاماً) كانت واحدة من أولى الممرضات اللاتي انضممن إلى فريق كورونا في مستشفى رفيق الحريري، لا تزال تذكر اسم أول مشتبه فيه دخل المستشفى واسم أول إصابة. تروي عبيد لـ«الشرق الأوسط»، تفاصيل الساعات الأولى لاستقبال مرضى كورونا: «لم يكن عددنا كطاقم تمريضي يعمل في قسم كورونا يتجاوز 4 أشخاص، كنا مدربين على التعامل مع الأوبئة مثل (إيبولا) و(سارس) و(إتش وان إن وان). ولكنّ كورونا كان جديداً، نعم خفنا، ولكنّ الواجب كان أقوى»، تقول عبيد إنها لم تتردد لحظة في أن تكون على الخطوط الأمامية لمواجهة كورونا، فهي لطالما كانت تشارك في أعمال تطوعيّة ترى فيها خدمة لمجتمعها.
بداية الجائحة، عملت عبيد لما يزيد على 3 أشهر بلا يوم إجازة واحد، ولساعات تزيد على 12 ساعة يومياً، «لم يكن عددنا كافياً، عملنا لساعات متواصلة، تعبنا، بكينا، ولكن مع الوقت بدأ عدد الممرضين والممرضات العاملين بكورونا يرتفع، فكان ضغط العمل يخفّ ولكنّه لم يصبح يوماً مريحاً»، تقول عبيد.
لم تكتفِ عبيد بالانضمام إلى فريق كورونا، إذ عملت أيضاً على تشجيع 3 من أبنائها، وهم ممرضون، للانضمام إلى الطاقم التمريضي المخصص لكورونا. «أخبرتهم أنّ عدد الممرضين والممرضات غير كافٍ، وأنّ الواجب يحتم عليهم الانضمام. كنت فرِحة بأنهم لم يترددوا، فهناك وباء يهدد مجتمعنا ولا أريد أبنائي أن يكونوا على الحياد والمستشفيات بحاجة إليهم، لا أنكر أنني أخاف عليهم، ولكنني كنت لأخاف أكثر لو أنهم تخاذلوا». تأخذ عبيد نفساً عميقاً حين أسألها عن التعب، وتقول: «أي نوع من التعب تقصدين؟ الجسدي مقدور عليه ولكن النفسي صعب، تخيلي أنك تهتمين بمريض وأنت تعرفين أن فرص نجاته من الموت ضئيلة، أو أن تستقر حالة مريض ومن ثمّ يتوفّى؟ هذا فضلاً عن مشاهد تكررت لأشخاص يبحثون عن غرف أو أجهزة أكسجين وهم في حالة حرجة، أو لزملاء يصابون واحداً تلو الآخر، أراهم ينهارون ويبكون من الحمل الثقيل الملقى عليهم، أصبت بكآبة شعرت بتعب غير مسبوق، ربما فكّرت للحظات بالعودة ولكنّي لم ولن أفعلها». تتحدّث عبيد عن متاعب وضغوطات من نوع آخر، عن والدتها التي كانت تتصل بها مراراً وتكراراً وتطلب منها ترك العمل وتقول: «لا أريد أن أخسرك، هذا ما كانت تكرره أمي على مسامعي يومياً، وأنا عاجزة عن طمأنتها وجهاً لوجه، قلقها عليّ كان يتعبني».
طبيعة عمل عبيد وصَمَها، إذ تروي أنّ أخاها اتصل بها وطلب منها عدم زيارة قريتها خوفاً من أن تكون مصابة بكورونا وتنقل العدوى للآخرين. وتضيف: «لم يكن مرحباً بي حتى في بلدتي وبيتي، أعذرهم، الوباء كان جديداً والخوف كان أقوى من الحقائق العلمية».
تمرّ أيام وعبيد لا ترى أبناءها، فساعات عملها طويلة ودوامها غالباً ما يكون عكس دوامات أبنائها، وهذا أيضاً ليس سهلاً عليها، ولكنّها تعرف أنّ المهنة التي اختارتها تتطلب تضحيات. تعتبر عبيد أنّ أكثر ما يواجهها كامرأة تعمل في مجال التمريض لا يتعلق بكورونا، بل بطبيعة مهنة التمريض التي تضطرها للعودة إلى المنزل في ساعات متأخرة من الليل، هذا فضلاً عن حرصها الدائم بأن تبقى قوية حتى لا تقصر تجاه عائلتها او عملها.
رغم استمرار ارتفاع أرقام الإصابات بكورونا في لبنان وبطء عملية التلقيح ضد الفيروس، يبقى أمل عبيد بالانتهاء من الوباء كبيراً جداً، وعندها ستأخذ إجازة طويلة ربما تسافر خلالها أو تتجه إلى قريتها وتقضي ساعات مع عائلتها، لا سيما والدتها، لتعود بعدها إلى عملها بطاقة أكبر.
لا تنكر عبيد أنّ راتب الممرضة كما الممرض لا يقارن بالتضحيات التي يقدمونها، ولكنها تعتبر أنّ الأزمة الاقتصادية «على الجميع»، والممرضون كما الأطباء يحمل عملهم جانباً إنسانياً يجبرهم على الاستمرار.
ويُشار إلى أن هناك ما يزيد على 600 ممرضة وممرض هاجروا خلال السنوات الأخيرة إلى بلدان عربية وأوروبية، حيث توافرت لهم فرص عمل برواتب وحوافز أفضل بكثير مما تقدّمه مستشفيات لبنان، لا سيما أن قيمة رواتب العدد الأكبر منهم باتت لا تتجاوز 100 دولار شهرياً، رغم أن حياتهم معرّضة للخطر بشكل يومي.
وتشكّل الممرضات في لبنان نحو 80 في المائة من مجمل عدد الطاقم التمريضي، توفي منهن 3 ممرضات بسبب إصابتهن بكورونا (وممرضان اثنان)، أما عدد الإصابات فتجاوز 2000 بين ممرض وممرضة.


مقالات ذات صلة

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا الطبيب البريطاني توماس كوان (رويترز)

سجن طبيب بريطاني 31 عاماً لمحاولته قتل صديق والدته بلقاح كوفيد مزيف

حكم على طبيب بريطاني بالسجن لأكثر من 31 عاماً بتهمة التخطيط لقتل صديق والدته بلقاح مزيف لكوفيد - 19.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد السعودية تصدرت قائمة دول «العشرين» في أعداد الزوار الدوليين بـ 73 % (واس)

السعودية الـ12 عالمياً في إنفاق السياح الدوليين

واصلت السعودية ريادتها العالمية بقطاع السياحة؛ إذ صعدت 15 مركزاً ضمن ترتيب الدول في إنفاق السيّاح الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
صحتك تم تسجيل إصابات طويلة بـ«كوفيد- 19» لدى أشخاص مناعتهم كانت غير قادرة على محاربة الفيروس بشكل كافٍ (رويترز)

قرار يمنع وزارة الصحة في ولاية إيداهو الأميركية من تقديم لقاح «كوفيد»

قرر قسم الصحة العامة الإقليمي في ولاية إيداهو الأميركية، بأغلبية ضئيلة، التوقف عن تقديم لقاحات فيروس «كوفيد-19» للسكان في ست مقاطعات.

«الشرق الأوسط» (أيداهو)
أوروبا أحد العاملين في المجال الطبي يحمل جرعة من لقاح «كورونا» في نيويورك (أ.ب)

انتشر في 29 دولة... ماذا نعرف عن متحوّر «كورونا» الجديد «XEC»؟

اكتشف خبراء الصحة في المملكة المتحدة سلالة جديدة من فيروس «كورونا» المستجد، تُعرف باسم «إكس إي سي»، وذلك استعداداً لفصل الشتاء، حيث تميل الحالات إلى الزيادة.

يسرا سلامة (القاهرة)

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
TT

الاقتصاد اليمني في مواجهة انهيارات كارثية وشيكة

طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)
طفل يمني يعاني من سوء التغذية وتتوقع وكالة أممية تفاقم الوضع الإنساني خلال الأشهر المقبلة (الأمم المتحدة)

يتضاعف خطر انعدام الأمن الغذائي في اليمن بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وانهيار سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، بفعل الحرب الحوثية على الموارد الرئيسية للبلاد، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود، في حين تتزايد الدعوات إلى اللجوء للتنمية المستدامة، والبحث عن حلول من الداخل.

وبينما تتوالي التحذيرات من تعاظم احتياجات السكان إلى المساعدات الإنسانية خلال الأشهر المقبلة، تواجه الحكومة اليمنية تحديات صعبة في إدارة الأمن الغذائي، وتوفير الخدمات للسكان في مناطق سيطرتها، خصوصاً بعد تراجع المساعدات الإغاثية الدولية والأممية خلال الأشهر الماضية، ما زاد من التعقيدات التي تعاني منها بفعل توقف عدد من الموارد التي كانت تعتمد عليها في سد الكثير من الفجوات الغذائية والخدمية.

ورجحت شبكة الإنذار المبكر بالمجاعة حدوث ارتفاع في عدد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية في اليمن في ظل استمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، حيث لا تزال العائلات تعاني من التأثيرات طويلة الأجل للصراع المطول، بما في ذلك الظروف الاقتصادية الكلية السيئة للغاية، بينما تستمر بيئة الأعمال في التآكل بسبب نقص العملة في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، وانخفاض قيمة العملة والتضخم في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

وبحسب توقعات الأمن الغذائي خلال الستة أشهر المقبلة، فإنه وبفعل الظروف الاقتصادية السيئة، وانخفاض فرص كسب الدخل المحدودة، ستواجه ملايين العائلات، فجوات مستمرة في استهلاك الغذاء وحالة انعدام الأمن الغذائي الحاد واسعة النطاق على مستوى الأزمة (المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي) أو حالة الطوارئ (المرحلة الرابعة) في مناطق نفوذ الحكومة الشرعية.

انهيار العملة المحلية أسهم مع تراجع المساعدات الإغاثية في تراجع الأمن الغذائي باليمن (البنك الدولي)

يشدد الأكاديمي محمد قحطان، أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، على ضرورة وجود إرادة سياسية حازمة لمواجهة أسباب الانهيار الاقتصادي وتهاوي العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، منوهاً إلى أن عائدات صادرات النفط والغاز كانت تغطي 70 في المائة من الإنفاق العام في الموازنة العامة، وهو ما يؤكد أهميتها في تشغيل مؤسسات الدولة.

ويضيف قحطان في حديث خص به «الشرق الأوسط» أن وقف هذه الصادرات يضع الحكومة في حالة عجز عن الوفاء بالتزاماتها، بالتضافر مع أسباب أخرى منها الفساد والتسيب الوظيفي في أهم المؤسسات الحكومية، وعدم وصول إيرادات مؤسسات الدولة إلى البنك المركزي، والمضاربة بالعملات الأجنبية وتسريبها إلى الخارج، واستيراد مشتقات الوقود بدلاً من تكرير النفط داخلياً.

أدوات الإصلاح

طبقاً لخبراء اقتصاديين، تنذر الإخفاقات في إدارة الموارد السيادية ورفد خزينة الدولة بها، والفشل في إدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، بآثار كارثية على سعر العملة المحلية، والتوجه إلى تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية مثل الإصدار النقدي.

توقف تصدير النفط يتسبب في عجز الحكومة اليمنية عن تلبية احتياجات السكان (البنك الدولي)

ويلفت الأكاديمي قحطان إلى أن استيراد مشتقات الوقود من الخارج لتغطية حاجة السوق اليمنية من دون مادة الأسفلت يكلف الدولة أكثر من 3.5 مليار دولار في السنة، بينما في حالة تكرير النفط المنتج محلياً سيتم توفير هذا المبلغ لدعم ميزان المدفوعات، وتوفير احتياجات البلاد من الأسفلت لتعبيد الطرقات عوض استيرادها، وأيضاً تحصيل إيرادات مقابل بيع الوقود داخلياً.

وسيتبع ذلك إمكانية إدارة البنك المركزي لتلك المبالغ لدعم العرض النقدي من العملات الأجنبية، ومواجهة الطلب بأريحية تامة دون ضغوط للطلب عليها، ولن يكون بحاجة إلى بيع دولارات لتغطية الرواتب، كما يحدث حالياً، وسيتمكن من سحب فائض السيولة النقدية، ما سيعيد للاقتصاد توازنه، وتتعافى العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيسهم في استعادة جزء من القدرة الشرائية المفقودة للسكان.

ودعا الحكومة إلى خفض نفقاتها الداخلية والخارجية ومواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية لإحداث تحول سريع من حالة الركود التضخمي إلى حالة الانتعاش الاقتصادي، ومواجهة البيئة الطاردة للاستثمارات ورجال الأعمال اليمنيين، مع الأهمية القصوى لعودة كل منتسبي الدولة للاستقرار داخل البلاد، وأداء مهاهم من مواقعهم.

الحكومة اليمنية تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الحوثيين لوقف حصار تصدير النفط (سبأ)

ويؤكد مصدر حكومي يمني لـ«الشرق الأوسط» أن الحكومة باتت تدرك الأخطاء التي تراكمت خلال السنوات الماضية، مثل تسرب الكثير من أموال المساعدات الدولية والودائع السعودية في البنك المركزي إلى قنوات لإنتاج حلول مؤقتة، بدلاً من استثمارها في مشاريع للتنمية المستدامة، إلا أن معالجة تلك الأخطاء لم تعد سهلة حالياً.

الحل بالتنمية المستدامة

وفقاً للمصدر الذي فضل التحفظ على بياناته، لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام، فإن النقاشات الحكومية الحالية تبحث في كيفية الحصول على مساعدات خارجية جديدة لتحقيق تنمية مستدامة، بالشراكة وتحت إشراف الجهات الممولة، لضمان نجاح تلك المشروعات.

إلا أنه اعترف بصعوبة حدوث ذلك، وهو ما يدفع الحكومة إلى المطالبة بإلحاح للضغط من أجل تمكينها من الموارد الرئيسية، ومنها تصدير النفط.

واعترف المصدر أيضاً بصعوبة موافقة المجتمع الدولي على الضغط على الجماعة الحوثية لوقف حصارها المفروض على تصدير النفط، نظراً لتعنتها وشروطها صعبة التنفيذ من جهة، وإمكانية تصعيدها العسكري لفرض تلك الشروط في وقت يتوقع فيه حدوث تقدم في مشاورات السلام، من جهة ثانية.

تحذيرات من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد (أ.ف.ب)

وقدمت الحكومة اليمنية، أواخر الشهر الماضي، رؤية شاملة إلى البنك الدولي لإعادة هيكلة المشروعات القائمة لتتوافق مع الاحتياجات الراهنة، مطالبةً في الوقت ذاته بزيادة المخصصات المالية المخصصة للبلاد في الدورة الجديدة.

وكان البنك الدولي توقع في تقرير له هذا الشهر، انكماش إجمالي الناتج المحلي بنسبة واحد في المائة هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 2 في المائة العام الماضي، بما يؤدي إلى المزيد من التدهور في نصيب الفرد من إجمالي الناتج الحقيقي.

ويعاني أكثر من 60 في المائة من السكان من ضعف قدرتهم على الحصول على الغذاء الكافي، وفقاً للبنك الدولي، بسبب استمرار الحصار الذي فرضته الجماعة الحوثية على صادرات النفط، ما أدى إلى انخفاض الإيرادات المالية للحكومة بنسبة 42 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وترتب على ذلك عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للسكان.

وأبدى البنك قلقه من مآلات قاتمة لتداعيات الصراع الذي افتعلته الجماعة الحوثية في المياه المحيطة باليمن على الاقتصاد، وتفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية.